بعد مرور 130 يوماً من المواجهات في قطاع غزة، يظل السؤال المطروح هو: هل أخطأت حركة “حماس” أم أصابت؟ بخاصة مع تأكيد كل طرف أنه نجح في تحقيق أهدافه من خلال ما جرى بتغيير قواعد الاشتباك من قبل الحركة، وأيضاً من خلال إسرائيل التي عادت إلى قطاع غزة مجدداً في انتظار إتمام العملية بالوصول إلى رفح وحسمها قبل شهر رمضان بناء على ضغوط أميركية ودولية، مما يؤكد أن الطرفين يعملان في اتجاهات محددة ومنضبطة عبر تأكيد أهداف كل طرف سواء بالتفاوض أو استمرار المواجهات.
رسائل محددة
واقعياً يؤكد حجم الخسائر التي منيت بها الحركة مدى التضرر الكبير في قدرات “حماس” المرتبطة بالقوة الصاروخية والقدرة على الإطلاق في منطقة غلاف غزة على وجه التحديد، وإن كان يلاحظ عدم استهداف مواقع عسكرية أو مناطق لها رمزيتها، مثل ديمونة وتل أبيب ومطار بن غوريون وإطار رامون إضافة إلى القواعد العسكرية ومقرات أمنية، في إشارة لا تغيب إلى أن القدرات الصاروخية ومناطق الإطلاق والمنصات إما أنها تم استهدافها، أو أصبحت خارج خدمة العمليات، بالتالي تم تقليص القدرات الهجومية بل والدفاعية معاً.
من ثم قل منسوب الهجمات بصورة كبيرة، وباتت تنطلق بصورة متقطعة في الفترة الأخيرة كرسالة على استمرار التهديدات الراهنة لمناطق محددة بما في ذلك منطقة الغلاف الاستراتيجي الراهن، ما يؤكد في كل الأحوال أن القدرات الصاروخية للحركة تضررت ولم يعد لها تأثير على رغم التأكيدات المعلنة بأن “حماس” لا تزال لديها القدرات التكتيكية، كما أنه من غير المعلوم حجم التضرر الذي أصاب حركة “الجهاد الإسلامي” بل والفصائل غير المنضبطة، التي لديها قدرات أيضاً في إطارها.
تساؤلات شائكة
على رغم سيل ما يكتب عن أدوات المواجهة التي يعمل من خلالها مقاتلو “حماس” في الوقت الراهن ومن داخل الأنفاق وأنها قد تؤدي الأدوار العسكرية المعتادة نفسها، فإن هذا الحديث يحتاج إلى توثيق حقيقي في ظل الواقع الراهن لمسار العمليات، والانتقال تدريجاً إلى منطقة الجنوب حيث تنفيذ المخطط الإسرائيلي الجاري، والذي لن يتوقف في كل الأحوال إلا بعد تنفيذ الترتيبات الأمنية سواء في عمق القطاع، أو على طول امتداد ممر صلاح الدين من الشمال إلى منطقة كرم أبو سالم التي ستكون على رأس الأولويات الأمنية والاستراتيجية للجانب الإسرائيلي.
ولعل الخوض في تفاصيل القدرات العسكرية لحركة “حماس” بعد كل هذه المواجهات (130 يومياً) مرتبط بالفعل بتوظيفها استراتيجية الأنفاق أو المدن تحت الأرض، والتي تتعامل معها إسرائيل عبر تكنولوجيا جديدة مستخدمة في هذا التفجيرات من بعد، ومن خلال أجهزة متقدمة في مجال الجس والاستشعار عن بعد وغيرها من الأنماط العسكرية المتقدمة.
وسؤال هل أخطأت حركة “حماس” بالفعل أم أصابت في مسار الدخول بمواجهة إسرائيل في هذا التوقيت، سيرتبط بعديد من العناصر الرئيسة أهمها استمرار قدراتها العسكرية على العمل واختراق قواعد الاشتباك وتحقيق إنجازات في التعامل، وهو ما يبدو في المستوى النظري بالفعل من خلال قواعد الاشتباك الرئيسة، لكن الإشكالية أنه سيقابل ذلك تهديد وجود الحركة كطرف رئيس في الحكم وإدارة القطاع، ووقوع خسائر فادحة بالفعل داخل القطاع ما سيحتاج إلى سنوات للإعمار في الفترة المقبلة.
ولكن وجود إسرائيل على الأرض، والدخول في متاهة الترتيبات الأمنية المتعددة، يمثل خطراً على مستقبل القطاع الذي ستتقلص مساحته الجيو استراتيجية، كما سيعاني سكانه من عمليات ترانسفير إلى داخل القطاع أو الخارج من خلال مشروعات شيطانية متعلقة بالتهجير القسري أو الطوعي، وغيرها من الارتدادات المكلفة بما في ذلك الدعوة إلى نزع سلاح “حماس” من خلال تعامل دولي، واحتمال تدويل القطاع مع التأكيد على ما يمكن أن يمثل خطراً حقيقياً على قوة “حماس” باعتبارها طرفاً مقاوماً رئيساً، وهو ما يؤكد على أن نجاحاتها وإنجازاتها الأولى لا توازي ما جرى من مواجهات حقيقية تمت وتتم وتمس مستقبل الحركة نفسها في الساحة الفلسطينية، على رغم التأكيد على بقائها على قيد الحياة حال توقف إطلاق النار وتحقيق الهدن المقترحة، الأمر الذي سيبقي “حماس” في إطار المساوم والمقاوم ليس أكثر ولكنه لن يحكم.
فالفكرة الرئيسة هي بقاء الحركة في محيطها الحالي كفكرة أيديولوجية وعنصر مقاومة، ولكنها لن تتصدر المشهد إلا في إطار المفاوضات الحالية، وإلى أن تتم ستكون طرفاً ضمن أطراف، ومن خلال معادلة تشمل الكل وعودة السلطة الفلسطينية لإدارة الأوضاع ولو بصورة موقتة ورمزية.
أرباح وخسائر
بالتالي فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا إذاً ربحت “حماس” بعيداً من إنجاز 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وماذا خسرت؟ فحجم الخسائر الكبيرة في قطاع غزة يظل عنصراً مكلفاً ورئيساً في المعادلة بخاصة أن “حماس” ليست لديها بدائل كبيرة في التعامل بل والحكم، مما يؤكد على أن مبادلة الأسرى في السجون الإسرائيلية وتبيضها من الوجود الفلسطيني لا يعادله سقوط آلاف القتلى حتى الآن.
من ثم فإن الشعب الفلسطيني بأكمله دفع ثمن المواجهة الراهنة، وسيظل يدفعه في ظل ما يطرح من قبل حركة “حماس” من تصميم على إدارة المشهد من جانب واحد، ومن دون الإنصات إلى وجود السلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً وإقليمياً باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، مما يعطي دلالات محددة مفادها أن حركة “حماس” في منظور عملي قد أضرت بالوضع الفلسطيني ولم تحسب حسبتها جيداً، وربما يتم الرد على هذا الأمر من خلال رؤية مقابلة بأنها اتهمت أمام الرأي العام العربي والفلسطيني بأنها لم تشارك بالفعل في مواجهات إسرائيل، وأنها تركت المقاومة الفلسطينية بمفردها ولم تنسق مع أي طرف، لهذا كان قرارها بتغيير قواعد الاشتباك، والخروج من استراتيجية الكمون إلى استراتيجية التحرك المباشر بعمل غير مسبوق، فللمرة الأولى في تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تنتقل المعركة إلى الجانب الآخر، مما يؤكد على أن “حماس” ستبقى لها الأسبقية الحقيقية في كسر الحاجز النفسي في الصراع الراهن، والمنتظر أن تجرى في السنوات المقبلة، التي ستشهد مسارات مختلفة عما يجري من تفاعلات حقيقية.
الصواب والخطأ
إذاً الإشكالية ليست في صواب أو خطأ موقف “حماس” بعد كل هذه الأيام من المواجهات فقط، ولكن بالنظرة العقلانية البراغماتية التي تحكم حركة “حماس” في مواقفها وتوجهاتها الراهنة، والتي تعمل عليها في إطار من المخاوف الحقيقية التي تواجه الحركة وقياداتها السياسية والعسكرية، وفي وجود تجاذب لا يغيب عن الأذهان في ترتيب الأولويات الحالية والعمل على خيارات أخرى مرتبطة بالفعل بما سيجري من اتفاقات للتهدئة في الفترة الراهنة، إذ إن الحسابات لا تزال متباينة في الحركة ما بين المدني والعسكري، وما بين التجاوب مع الضغط الدولي والاحتفاظ بالقوة العسكرية المتبقية لإعادة توظيفها مجدداً، في إشارة إلى أن المواجهات ستستمر ولكن المخطط المطروح الإسرائيلي بالترانسفير هو الأهم والأخطر والذي يمكن أن يتم ويمثل تحدياً حقيقياً أمام حركة “حماس” في الفترة المقبلة.
ضوابط محددة
إن مخطط إسرائيل في قطاع غزة محكوم ومنضبط في إطار حرث الأرض عسكرياً وأمنياً بصورة كبيرة، وبعد أن أصبحت القوات الإسرائيلية على مقربة من رفح، وهو ما سيكون بالفعل مكلفاً لحركة “حماس” التي ستواجه استحقاقات ستتعلق بدورها في المعادلة المقبلة، وفي ظل ما ستسفر عنه الحرب في غزة من نتائج على الأرض وإعادة ترتيب الأوضاع الأمنية والاستراتيجية التي تتعلق بضرورة الانتقال إلى مرحلة أخرى، ستكون “حماس” إلى حين الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ضمنها، وهو ما يفسر بقوة لماذا ستناور الحركة للتمسك بمواقفها السياسية والأمنية بصرف النظر عما يجري من محاولات للتفاهم، أو الذهاب إلى خيارات سياسية مرحلية، أو إلى اتفاقيات جزئية، وهو ما يطرح في إطار الوساطات الإقليمية والدولية الراهنة، التي تسوق لها دول أوروبية مثل بريطانيا أو الاتحاد الأوروبي، ودول معنية بصورة مباشرة مثل مصر.
ذلك يؤكد أن الأمر سيرتبط تدريجاً بالقدرة على التعامل والتحرك في إطار تقديم الأولويات والمهام الرئيسة بالنسبة لحركة “حماس”، وما ستنتهي إليه الحال بها في القطاع بعيداً من الإشارات لخروج قياداتهم منه كجزء من الحل، بخاصة أن إسرائيل ستقبل – على رغم كل ما يجري – بخيارات غير نهائية للحصول على أسراها وتهدئة الرأي العام أولاً، والانتقال إلى إعادة ترتيب الأوراق السياسية والاستراتيجية كمهمة أولى في فترة ما بعد وقف إطلاق النار، بخاصة مع التأكيد على أن القوات الإسرائيلية قتلت من 30 إلى 40 في المئة من عناصر الحركة، لذا فإن أي توجه إسرائيلي مطروح سيكون مرتبطاً بما آلت إليه قدرات حركة “حماس” الحالية.
الخلاصات الأخيرة
من الواضح أن قدرات “حماس” العسكرية تضررت بالفعل، وأن الإشكالية الحقيقية ليست في حجم ما مس هذه القدرات سواء في المكون العسكري أو من خلال ما تمتلكه من إمكانات عسكرية متطورة، وإنما في خبرة التعامل والقدرة على التوظيف والتحرك مع امتلاك إعادة البناء في حال استمرار الحركة في المشهد، أو ضمن المعادلة الفلسطينية الحالية التي تتشكل في الوقت الراهن مع الترتيبات الأمنية التي تقدم عليها إسرائيل، وتعمل على الوصول إليها، مع التأكيد على الاستمرار في القطاع بصورة دائمة لحين اتضاح الصورة، وفرض الأمن مع عدم الانشغال بمن يحكم في المراحل الأولى، بخاصة مع استمرار الخطاب الاستراتيجي لإسرائيل القائل باستمرار العمل العسكري للنهاية وعدم وجود أفق لانتهاء المواجهات الراهنة.