سنتان بالفعل! وكم من الوقت؟ هذا ما يتبادر إلى الذهن مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثالث من دون احتمال نهاية في الأفق. ولأن الحرب هي مسألة الحاضر والآني؛ لا ينبغي للمرء أن يتوقع من أولئك الذين يخوضونها أن يفكروا في تداعياتها. المتحاربون الذين يفعلون ذلك غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى خسارة الحرب.
وفي الحرب الراهنة، تُعدّ المخاطر عالية للغاية لدرجة أن تخيل نهاية لها من حيث الفائز والخاسر أمر محير للعقول. إذا فازت روسيا، ما يعني هزيمة حلف «الناتو»، فسوف تُرقى إلى مصاف الدولة العليا، ليس فقط في أوروبا وإنما على المسرح العالمي. من ناحية أخرى، إذا خسرت روسيا الحرب، فربما تطلق الهزيمة العنان لعملية قد ينتهي بها الأمر إلى تفكيك النسخة الرديفة من الإمبراطورية القيصرية التي أطلق عليها لينين مسمى «سجن الأمم».
إذن، ما العمل؟ أعتقد أن فلاديمير بوتين يفكر بالفعل في مخرج شريطة أن، كما كان يقول في عدد من المناسبات مؤخراً، يقبل خصومه في حلف «الناتو» حلاً وسطاً يحفظ ماء الوجه.
ولتعزيز هذه الفكرة، طرح ثلاثة مواضيع: الأول يتمثل في إعادة تعريف «عمليته العسكرية الخاصة» بأنها حرب أهلية، من خلال الادعاء بأن الأوكرانيين هم روس أصليون عالقون في أزمة هوية. في مقابلته الأخيرة، التي وصفت بأنها مقابلة مع النجم التلفزيوني الأميركي تاكر كارلسون، زعم أن الجنود الأوكرانيين، عندما لم يعودوا قادرين على القتال، يدعون الروس إلى عدم إطلاق النار عليهم لأن «الروس لا ينبغي أن يقتلوا الروس».
للتطرق إلى هذا الموضوع، أعاد بوتين كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية. ووفقاً له، فإن كل ما أراده هتلر هو إعادة توحيد الشعوب «الألمانية» المتناثرة. وهكذا ضم النمسا وسط دعم هائل من النمساويين. بعد ذلك أنقذ ألمان السوديت المضطهدين في تشيكوسلوفاكيا، ولم يواجه أي مقاومة مرة أخرى. كانت الخطوة التالية هي جلب الألمان العرقيين في دانزيغ تحت عَلم «الوطن الأم»، وهو أمر كان يمكن القيام به بسلام لو لم تقرر بولندا، بتشجيع من البريطانيين والفرنسيين، الاحتفاظ بهم.
غني عن القول أن رواية بوتين «التعديلية» مملوءة بالثغرات. إذا اعتبرناها معياراً لاستخدام تسمية «الحرب الأهلية»، فيمكن للمرء أيضاً أن يرى حرب الاستقلال الأميركية على أنها حرب أهلية إنجليزية. وبدأت الحرب العالمية الأولى أيضاً كحرب أهلية بين حفيدين للملكة فيكتوريا. وفي الآونة الأخيرة، كانت الحرب في الهند الصينية حرباً أهلية شملت ثلاثة أجزاء مختلفة من «الممتلكات» الاستعمارية الفرنسية هناك.
لكن ما يهم هو محاولة بوتين إقناع الأوكرانيين بأنه حتى لو لم يحققوا النصر الكامل كما وعد الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فلن يتم إذلالهم من قِبل شخص خارج الأسرة. باستخدام الجوجيتسو المنطقي أو السفسطة السياسية إذا أردتم، يمكننا أيضاً القول إن الشيء نفسه سينطبق إذا خسرت روسيا الحرب مع فوز مجموعة واحدة من «الروس» على مجموعة أخرى من «الروس».
الموضوع الثاني الذي يتقدم به بوتين في اللقاء نفسه هو أنه مهتم بشكل رئيسي بقضية «إزالة النازية» من أوكرانيا. ثم يبذل قصارى جهده ليشير إلى أن زيلينسكي ليس من النازيين، وفي الواقع، عارضه النازيون في البداية. وبالتالي، إذا تم قبول فكرة إنهاء الحرب عن طريق التفاوض، فإن زيلينسكي، بعيداً عن استبعاده، سوف يكون مقبولاً كشريك. وبما أن بوتين لم يذكر اسم «النازيين»، فسيكون من الممكن تعديل حاشية زيلينسكي والزعم بأن «النازيين» قد غادروا.
الموضوع الثالث الذي يطرحه بوتين هو النظر إلى روسيا «كمدافع تاريخي عن المسيحية». لكنه يتجاهل حقيقة أن الروس كانوا فرعاً من الفايكينغ الوثنيين من الدول الاسكندنافية الذين أحبوا التوجه نحو الجنوب الشرقي بينما انتقلت الفروع الأخرى غرباً إلى الجزر البريطانية، وشمال فرنسا، وربما أميركا ما قبل كولومبوس.
لقرون عدة كان البارونات السويديون الوثنيون يحكمون «الروس». وكلمة روس، أصلها الروسي يعني «الخشن» أو «الفلاح» في اللغة السويدية وغيرها من اللغات الهندو – أوروبية.
ابتداءً من عام 900 بعد الميلاد ولقرون عدة بعده، عاش «الروس» كبدو رحل وكمرتزقة للقوى المحيطة، وانتهى بهم الأمر إلى التحول إلى المسيحية في عهد «فلاديمير»، وهو بارون سويدي وقديس المستقبل.
من المثير للاهتمام، أن بوتين يبدأ تاريخ روسيا من عصر إيفان الرابع المعروف باسم «إيفان الرهيب» أو «إيفان الفظيع» ما بين (1547 – 1584)، والذي هزم التتار، ووحّد الجماعات الروسية المختلفة تحت علم واحد بجيش نظامي وشرطة سرية.
المقصد الضمني لبوتين هو أن الغرب يجب أن يرى روسيا كمدافع عن العالم المسيحي ضد التاتاريا الجديدة التي لم يحددها علانية، ولكن ليس من الصعب تخمين من يقصده بها.
بعبارة أخرى، إنه يريد أن يكون إيفان الجديد، ويجمع شمل جميع «الروس» ولكن ليس لمحاربة الغرب. حتى إنه يزعم أنه طلب من الرئيس بيل كلينتون مساعدة روسيا في الانضمام إلى حلف «الناتو» لحماية الأسرة الغربية من تهديدات الشرق، ولكن دعواه تجوهلت.
وعند سؤاله عما إذا كان بإمكانه تخيل نهاية تفاوضية للحرب، قال بوتين «نعم»، ثم أضاف أيسر رغباته سهلة التحقق: «لكن ليس من دون اجتثاث النازية».
لكن، ماذا عن «الأراضي المحتلة» في دومباس التي تعهد زيلينسكي بتحريرها؟ يمكن منحهم شكلاً خاصاً من الحكم الذاتي في ظل إدارة مشتركة تتألف من شخصيات مؤيدة لكييف وموالية لموسكو، وهو ما يشبه النظام الذي تم إنشاؤه في آيرلندا الشمالية والذي يسميه الشين فين الآن «شمال آيرلندا».
وماذا عن شبه جزيرة القرم؟ في عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، كان لديها عقد إيجار لمدة 40 عاماً يسمح لها بالسيطرة الفعالة ليس فقط على قواعدها البحرية ولكن احتكاراً افتراضياً للقرارات الرئيسية المتعلقة بشبه الجزيرة.
على رغم أن بوتين يعاني فجوة مصداقية كبيرة في دوائر حلف «الناتو»، فإن القراءة الدقيقة لتصريحاته الأخيرة، بما في ذلك الأكثر سخافة منها بشأن استخدام الأسلحة النووية، قد تشير إلى مخاوف عميقة بشأن فقدان ماء الوجه، والذي، إذا ما اتخذنا التاريخ الروسي مؤشراً إليه، قد يعني أيضاً فقدان المرء لرأسه.
الرسالة التي تتشكل الآن هي أنه على الرغم من تفاخره، فإن بوتين يبحث عن طريقة لحفظ ماء الوجه للخروج من حرب يجب أن يدرك أنه لا يستطيع الفوز بها بالشروط التقليدية. وفي هذه الحرب، لا تستطيع أوكرانيا، أو حلف «الناتو»، الاستسلام. كما لا تستطيع روسيا التراجع والاستسلام من دون وقوع تغيير كارثي في سياستها الداخلية.
ماذا لو لم تعد هذه الحرب تتعلق بأوكرانيا وإنما بالمكان الذي يمكن لروسيا – وينبغي عليها – أن تحظى به في العملية الفوضوية لإعادة تشكيل نظام عالمي لم يعد ناجحاً؟