على غرار عديد من الحروب، تثير العملية الإسرائيلية المستمرة منذ أربعة أشهر في غزة وجهات نظر وآراء متباينة. فمعظم وسائل الإعلام الدولية الكبرى تصورها على أنها حملة من التدمير الغاشم المتعمد والبؤس الجماعي أودت بحياة 28 ألفاً أو أكثر من سكان غزة وهدمت أكثر من 70 في المئة من منازل القطاع، من دون الاقتراب من تحقيق هدفها المعلن المتمثل في “القضاء على حماس” وفك أسر جميع الرهائن. ونتيجة لذلك، صدرت عن المحللين الغربيين تقييمات مختلفة ومتنوعة للاستراتيجية الإسرائيلية تراوحت بين وصفها بـ”المشوشة”، وفق ما ورد في إحدى مقالات مجلة “فورين أفيرز”، وتصنيفها بأنها فشل “ذريع غير قابل للإصلاح من الناحية الاستراتيجية والأخلاقية”، على حد تعبير ريان إيفانز، مؤسس موقع “وار أون ذا روكس” [منصة للتحليل والتعليق والنقاش حول قضايا السياسة الخارجية والأمن القومي والشؤون الدفاعية].
وعلى النقيض من ذلك، يبدو أن معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية غالباً ما تصور حرباً مختلفة تماماً. ففي كثير من الأحيان، تمتلئ الصحف ونشرات الأخبار الإسرائيلية بصور الأنفاق المدمرة والأسلحة المصادَرة، فضلاً عن أسماء قادة “حماس” البارزين الذين قتلوا. أخيراً، عنونت صحيفة “جيروزاليم بوست” بفخر “إسرائيل تهزم ’حماس‘ في خان يونس، وتقتل أكثر من 10 آلاف إرهابي من غزة”، فيما جاهر عنوان آخر في صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” بأن “حماس في طريقها إلى الهزيمة”. وهذا لا يعني أن الروايات والأخبار الإسرائيلية تشير إلى نجاح لا تشوبه شائبة. فبعد مرور أكثر من أربعة أشهر، ما زال عدد كبير من الرهائن محتجزاً لدى “حماس”، الإصابات العسكرية الإسرائيلية مستمرة في الارتفاع. ومع ذلك، وعلى رغم شعبية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المتدنية والضغوط المتزايدة على الحكومة لإعادة الرهائن، فإن الإسرائيليين في الإجمال يدعمون إلى حد كبير المجهود الحربي، ويظل قسم كبير من اليهود الإسرائيليين ملتزمين بهدف الإطاحة بـ”حماس”.
اقرأ المزيد
شرطة غزة بدائرة الاستهداف وإسرائيل تتهم “حماس” بسرقة المساعدات
معلومات عن أنفاق لـ”حزب الله” أخطر وأعقد من شبكة “حماس”
“خلل تقني” أحبط هجوم “حماس” على سجن إسرائيلي في 7 أكتوبر
وكما الحال غالباً عندما تتباين سرديتان بشكل حاد، فإن الحقيقة تكون جزء من كل منهما. في الواقع، أحرزت إسرائيل تقدماً ملموساً نحو بعض أهدافها الحربية أكثر مما قد يدركه المراقبون الخارجيون، لكنها واجهت أيضاً فشلاً وانتكاسات في تحقيق أهداف أخرى وهو أمر تغاضى عنه أو غفل عنه كثيرون داخل البلاد. وبالقدر نفسه من الأهمية، ربما تفتقر كلتا السرديتين إلى فهم أعمق للحملة الجارية في ما يتعلق بالتحديات المتعددة والمختلفة التي تحاول إسرائيل مواجهتها، إذ إن الحرب لا تدور حول هزيمة “حماس” فحسب، ومن المهم أن نفهم الطرق المختلفة التي يمكن من خلالها تقييم التقدم الذي أحرزته إسرائيل ضد الحركة. ولا بد من أن يقاس نجاح إسرائيل أيضاً في ضوء سعيها إلى التأثير في الرأي العام الفلسطيني والعواقب الطويلة الأمد التي قد تترتب عن التصرفات الإسرائيلية. وإذا كانت تل أبيب تأمل في تحقيق النصر في غزة، يتعين عليها أن تدرك أن هذه الأهداف المختلفة مترابطة بشكل أساسي وأن الفوز في مجال ما لا يؤدي بالضرورة إلى الفوز في آخر. ولذلك، فإن استراتيجيتها في غزة تحتاج إلى العمل على مستويات متعددة في الوقت نفسه.
حرب ثلاثية الأبعاد
تواجه إسرائيل ثلاثة تحديات متشابكة ومتداخلة في غزة، لكنها في الوقت نفسه مختلفة ويمكن تمييزها عن بعضها. أولاً، هي تعاني ما يمكن أن نطلق عليه تسمية “مشكلة الثلاثة آلاف”، أي التعامل مع مرتكبي أحداث السابع من أكتوبر بشكل مباشر. في ذلك السياق، يزعم المسؤولون الإسرائيليون أن ما يقرب من 3 آلاف مقاتل ينتمون بغالبيتهم إلى الجناح العسكري التابع لـ”حماس”، إضافة إلى أعضاء في حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية وغيرها من الجماعات المسلحة، عبروا الحدود إلى إسرائيل في ذلك اليوم، وقتلوا واغتصبوا وعذبوا جنوداً ومدنيين إسرائيليين، رجالاً ونساء وأطفالاً، واحتجزوا 253 رهينة، من بينهم 130 في الأقل ما زالوا أسرى في غزة، ويعتقد أن عشرات منهم فارقوا الحياة. وقتل ما يقدر بنحو 1000 مسلح في السابع من أكتوبر، فيما فر عدد أكبر عائداً لغزة. ومن أجل حل “مشكلة الثلاثة آلاف” بشكل فعال، تحتاج إسرائيل، في الأقل، إلى قتل أو اعتقال أولئك الذين أمروا بالهجوم أو شاركوا فيه، وضمان إطلاق سراح الرهائن، إما بالقوة أو من خلال المفاوضات.
وبطريقة موازية، تواجه إسرائيل “مشكلة الثلاثين ألفاً”. قبل الحرب، قدرت الاستخبارات الإسرائيلية أن قدرات “حماس” العسكرية تشمل قوة مقاتلة قوامها نحو 30 ألف مقاتل. ويدعم هؤلاء المقاتلون شبكة واسعة من الأنفاق والمنشآت تحت الأرض في غزة تمتد لمسافة تزيد على 350 ميلاً، وهم يمتلكون مجموعة من القدرات الهجومية المتطورة والمتنامية بشكل متزايد، بما في ذلك آلاف الصواريخ، فضلاً عن عشرات الآلاف من القنابل الصاروخية والمدافع الرشاشة، والألغام وغيرها من الأسلحة المعدة لضرب إسرائيل من البر والبحر والجو. بالنسبة إلى الاستراتيجيين الإسرائيليين، أظهر هجوم السابع من أكتوبر أن إسرائيل لم تعد قادرة على الاعتماد على استراتيجية الردع والاحتواء التي كانت تنتهجها إزاء “حماس” سابقاً والمتمثلة في فرض سلسلة من القيود الحدودية على الحركة وإبقائها تحت المراقبة من خلال شن ضربات دورية محدودة في غزة. لذا، خلص المسؤولون الإسرائيليون إلى أنه يتعين عليهم تدمير حركة “حماس” وتفكيك بنيتها التحتية من أجل ضمان سلامة إسرائيل.
وأخيراً، تواجه إسرائيل أيضاً مشكلة 3.5 مليون نسمة. كشف استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في نوفمبر (تشرين الثاني) عن أنه خلال وقف إطلاق النار الذي استمر لمدة أسبوع، قال حوالى 57 في المئة من المستطلعين في غزة و82 في المئة من المستطلعين الفلسطينيين في الضفة الغربية إنهم يؤيدون الهجوم الذي شنته “حماس” في السابع من أكتوبر. وإجمالاً، فإن هذا يعادل حوالى 3.5 مليون شخص نسبة لأعداد السكان قبل الحرب في كلتا المنطقتين. وبعبارة أخرى، حتى لو نجحت إسرائيل في حل مشكلتي الثلاثة آلاف والثلاثين ألفاً، وأنقذت الرهائن ودمرت “حماس” بشكل فعال ككيان عسكري، فإنها ستظل تواجه عدداً كبيراً من السكان يدعمون المقاومة المسلحة وبالتالي من الممكن أن يوفروا تربة خصبة لأية جماعة مسلحة تظهر في المستقبل مكان “حماس”.
تتباين الروايات الإسرائيلية والغربية عن الحرب بشكل حاد.
وفي هذا الإطار، يبدو أن نتائج عملية “السيوف الحديدية”، وهو الاسم الذي أطلقته إسرائيل على حملتها في غزة، تقدم منظوراً مختلفاً حتى الآن عن الصورة التي ظهرت في الروايات الغربية أو الإسرائيلية عن الحرب. وبعد أربعة أشهر من الحرب، أحرزت إسرائيل تقدماً ملحوظاً في معالجة مشكلتي الثلاثة آلاف والثلاثين ألفاً. في الواقع، نجحت القوات الإسرائيلية في قتل عشرات من زعماء “حماس” أو اعتقالهم، بمن فيهم أولئك المسؤولون بشكل مباشر عن المذابح التي وقعت في بيري ونير أوز، أكثر الكيبوتسات تضرراً في السابع من أكتوبر، مما أدى إلى مقتل أكثر من 140 إسرائيلياً. إضافة إلى ذلك، ضمنت إسرائيل إطلاق سراح 112 رهينة إسرائيلية، من خلال المفاوضات في الأغلب. لكن في المقابل، ما زال عدد من مرتكبي هجمات السابع من أكتوبر، بمن في ذلك بعض كبار قادة حماس، أحراراً. وغالبية الرهائن الإسرائيليين ما زالوا محتجزين لدى “حماس” وغيرها من الجماعات الأصغر حجماً. وأسفرت المحاولات الإسرائيلية الرامية إلى تحرير الرهائن بالقوة العسكرية عن نتائج متفاوتة، إذ نجح بعضها في إنقاذهم، في حين انتهى بعضها الآخر بكارثة. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، على رغم أسابيع من المفاوضات غير المباشرة، لم تتوصل إسرائيل إلى اتفاق لإطلاق سراح عدد من الرهائن المتبقين أو جميعهم.
واستطراداً، أحرزت إسرائيل تقدماً أكبر بعض الشيء في ما يتعلق بهدف “الثلاثين ألفاً” المتمثل في تدمير قوات “حماس” والبنية التحتية: يزعم الجيش الإسرائيلي أنه قتل ما لا يقل عن 10 آلاف مسلح، وأصاب 10 آلاف آخرين، وهزم ما لا يقل عن 18 كتيبة من أصل 24 كتيبة. وبحسب إسرائيل، فقد تمت تصفية اثنين من قادة الألوية الخمسة، و19 قائد كتيبة من أصل 24، وأكثر من 50 قائد فصيلة. وجرى تحديد مكان عشرات الأميال من أنفاق “حماس” والقضاء عليها. وتدعي تل أبيب أيضاً أنها دمرت 700 منصة لإطلاق الصواريخ، ونتيجة لذلك، انخفضت الهجمات الصاروخية على إسرائيل بشكل كبير، على رغم أن “حماس” لا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ. وفي الوقت نفسه، يقول المسؤولون الإسرائيليون إنهم أحكموا سيطرتهم على النصف الشمالي من قطاع غزة وإن القوات الإسرائيلية تحرز تقدماً بطيئاً ولكن ثابتاً ضد معاقل “حماس” الرئيسة في الجنوب. وحتى بحسب التقديرات الإسرائيلية، فإنهاء المهمة قد يتطلب عاماً أو أكثر من القتال. ولكن من خلال هذه التدابير، فإن الضرر الذي ألحقته إسرائيل بقدرات “حماس” العسكرية أكبر بكثير مما شهدته أي حرب سابقة مع الحركة.
لكن في المقابل، تواجه إسرائيل فشلاً ذريعاً في حل مشكلة الـ3.5 مليون. والحقيقة أنه مع استمرار الحرب، فإن الدعم الفلسطيني للمقاومة المسلحة آخذ في التزايد. أصبحت “حماس” الآن أكثر شعبية مما كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، إذ ارتفعت نسبة تأييد الحركة بين الفلسطينيين في الضفة الغربية من 12 في المئة في سبتمبر (أيلول) إلى 44 في المئة في ديسمبر (كانون الأول). وعلى نحو مشابه، تزايد الدعم لـ”حماس” في جميع أنحاء العالم العربي وحتى عالمياً، بما في ذلك في الولايات المتحدة، وخصوصاً بين الأميركيين الأصغر سناً وغيرهم من الفئات السكانية الأكثر تأثيراً في نتائج الانتخابات. وعلى رغم التقدم العسكري الإسرائيلي على جبهات الحرب الأخرى، فمن الواضح أن تل أبيب تخسر حرب العلاقات العامة، ليس مع السكان الفلسطينيين فحسب، بل على المستوى الدولي أيضاً.
وبتعبير أكثر وضوحاً، تواجه إسرائيل معضلة. وفي الوقت الحالي، فإن التقدم الذي أحرزته في حل مشكلتي الثلاثة آلاف والثلاثين ألفاً يؤدي بشكل مباشر إلى تفاقم مشكلة الـ3.5 مليون. وتجسد عملية إنقاذ الرهائن الناجحة التي نفذتها إسرائيل في منتصف شهر فبراير (شباط) هذه الديناميكية باختصار: ففي حين أعادت إسرائيل رهينتين بأمان، جاء ذلك على حساب عشرات من أرواح الفلسطينيين، الأمر الذي طغى على هذا الخبر السار والإيجابي في الصحافة الدولية. في الواقع، يتطلب تدمير “حماس” قوة عسكرية ضخمة ومزيداً من الدمار، بيد أن ذلك يسهم في تطرف أعداد أكبر من الفلسطينيين. والأهم من ذلك أنه مع تفاقم مشكلة الـ3.5 مليون، فإن المعارضة الدولية للحرب ستستمر في التصاعد. ومن وجهة نظر إسرائيل، هناك مخاوف من أن هذا الضغط الدولي سيجبرها في نهاية المطاف على وقف عملياتها قبل أن تتمكن من إعلان النصر. وبعبارة أخرى، إذا لم تعالج مشكلة الـ3.5 مليون، فهي ستؤدي في نهاية المطاف إلى تقويض فرص إسرائيل في حل مشكلتي “الثلاثة آلاف” و”الثلاثين ألفاً”.
إيجاد التوازن الصحيح في غزة
في الأسبوع الأول من شهر يناير (كانون الثاني)، لمح القادة الإسرائيليون إلى حدوث تحول في استراتيجية الحرب، سترسل إسرائيل بموجبه عدداً أقل من القوات إلى غزة وستشن غارات جوية أقل وستسعى عوضاً عن ذلك إلى تنفيذ عمليات أكثر دقة وتوجيهاً. وجاء هذا التغيير بعد أشهر من الضغط الأميركي على إسرائيل للحد من الخسائر في صفوف المدنيين، وخلال الشهر الماضي، بدأ هذا التحول يتجسد ببطء على أرض الواقع. في يناير، سحبت إسرائيل خمسة ألوية وخففت من استخدام قوتها الجوية. وبالنسبة إلى السكان المدنيين المتضررين في غزة، من المرجح أن يكون هذا التقليص موضع ترحيب، لكنه لن يحل المعضلة الاستراتيجية التي تواجهها إسرائيل.
حتى الآن، استخدمت إسرائيل قوة نارية هائلة خلال عملية “السيوف الحديدية”. ويشير المسؤولون الإسرائيليون، والأرجح أنهم على حق، إلى أن النظرية التي تتبناها “حماس” لتحقيق النصر، أو في الأقل التمكن من النجاة، تعتمد على إجبار إسرائيل على كبح عملياتها العسكرية نتيجة للضغوط الدولية، وبالتالي فإن “حماس” تملك مصلحة ثابتة في تضخيم عدد الخسائر في صفوف المدنيين. ولكن حتى من دون احتساب الأرقام الصادرة عن “حماس”، فإن الإحصاءات الأخرى للحرب غنية عن البيان، فاعتباراً من منتصف ديسمبر (كانون الأول)، على سبيل المثال، شنت إسرائيل نحو 29 ألف غارة جوية على أهداف مختلفة في غزة، وتشير التقديرات إلى أنها قتلت ما يقرب من 7 آلاف مقاتل من “حماس”. ووفقاً لهذه الأرقام، فإن أقل من قنبلة واحدة من بين كل أربع قنابل أسقطت على غزة تسببت في مقتل عنصر واحد من “حماس”. من المؤكد أن هذه النسبة تقريبية، ولكنها تشير إلى أن إسرائيل قادرة على تقليص استخدامها للقوة النارية، من خلال اختيار أهدافها بشكل أكثر انتقائية وقتل عدد أقل من الناس وإحداث دمار أقل، من دون الحاجة إلى المساس بفعالية عملياتها العسكرية.
بغض النظر عن الشكل الذي قد تتخذه المرحلة المقبلة من الحرب، فهي لن تكون مرضية لأي طرف.
لا شك في أن شن عملية إسرائيلية أقل عنفاً يشكل نبأ مفرحاً بالنسبة إلى سكان غزة، ولكن من وجهة نظر إسرائيل فإن السؤال هو ما إذا كان هذا التحول سيمنح القوات الإسرائيلية الوقت الذي تحتاج إليه للانتهاء من تفكيك “حماس” ومنع الحركة من اكتساب مزيد من الدعم الفلسطيني. وفي ما يتعلق بهذا الموضوع بالتحديد، هناك أسباب كثيرة تدفع للشك. فبادئ ذي بدء، حتى العمليات الموجهة بدقة قد تبقى قادرة على زيادة الاستياء الشعبي. على سبيل المثال، في يناير، نفذت ضربة دقيقة بطائرة مسيرة اغتالت نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، صالح العاروري، في إحدى ضواحي بيروت الجنوبية وأسفرت عن مقتل سبعة أشخاص، جميعهم إما أعضاء في “حماس” أو الجماعة الإسلامية، وهي جماعة إرهابية لبنانية. ومع ذلك، أثارت الضربة احتجاجات في جميع أنحاء الضفة الغربية وغضباً في جميع أنحاء العالم العربي. علاوة على ذلك، ونظراً إلى مدى الدمار الذي تسببت فيه الحملة الإسرائيلية في غزة بالفعل، فمن المرجح أن تستمر الظروف الإنسانية داخل القطاع في التدهور في غياب المساعدات الخارجية، حتى لو قلص الإسرائيليون استخدامهم للقوة. ونتيجة لذلك فإن خطوة من هذا النوع قد لا تكسب إسرائيل على الفور حظوة كبيرة بين السكان الفلسطينيين أو بقية العالم. وفي نظر كثير من المراقبين الدوليين، سيبدو هذا غير كاف ومتأخراً للغاية. والصور التي تلتقط مشاهد من الصراع ستستمر في تسليط الضوء بشكل رئيس على المدنيين الذين يعانون عواقب الهجوم الإسرائيلي.
وفي الوقت نفسه تواجه إسرائيل قيوداً حقيقية متعلقة بمدى قدرتها على تقليص عملياتها العسكرية، وخصوصاً إذا ظلت ملتزمة بتنفيذ الهدف المتمثل في تفكيك “حماس” بالكامل. في الواقع، لم تنجح إسرائيل في استئصال “حماس” إلا بشكل جزئي من معاقلها في مدن جنوب خان يونس ومخيمات اللاجئين القريبة من وسط القطاع. وهي بدأت للتو القتال في رفح. وحتى وفقاً للتقديرات الإسرائيلية الخاصة، فإن مقاتلي “حماس” بغالبيتهم ما زالوا طليقين. في مواجهة خصم بهذا الحجم، قد لا تكون الضربات الجوية والغارات الموجهة كافية. (في الحقيقة، جربت الولايات المتحدة هذا النهج في أفغانستان لكنها منيت بفشل ذريع، والدليل على ذلك هو أن حركة طالبان استعادت السيطرة على السلطة في أفغانستان). إضافة إلى ذلك، فإن استراتجية تتضمن تقليص حدة العملية العسكرية قد تسهم في خلق مشكلات سياسية داخلية أيضاً. انتقد أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي اللواء هرتسي هاليفي لتراجعه عن استخدام القوة الجوية، وهذه الشكوى ليس سببها التعطش للدماء فحسب. في الواقع، فقدت إسرائيل أكثر من 230 جندياً في غزة حتى الآن، وبالنسبة إلى عدد السكان، فإن هذا الرقم يفوق ما خسرته الولايات المتحدة خلال حربي العراق وأفغانستان مجتمعتين. وبالتالي ترى إسرائيل في القوة الجوية وسيلة لتقليل الخسائر في صفوف قواتها البرية، لذا فمن الصعب الترويج سياسياً لفكرة تقييد القوة الجوية هذه في ظل احتمال وقوع مزيد من الضحايا الإسرائيليين.
وبغض النظر عن الشكل الذي قد تتخذه المرحلة المقبلة من الحرب، فهناك أمر واحد واضح، وهو أنها لن تكون مرضية لأي طرف. الأمر ببساطة هو أن الجيش الإسرائيلي غير قادر على الحد من استخدامه للقوة النارية بما يكفي لتهدئة نقاده في الخارج، وهو عاجز أيضاً عن إرضاء منتقديه في الداخل الذين يطالبون بإلحاق هزيمة حاسمة بـ”حماس” مع التقليل في الوقت نفسه من الخسائر العسكرية الإسرائيلية، والاستمرار أيضاً في تحقيق الأهداف الاستراتيجية في غزة.
استراتيجية تحسين نوعية الحياة
إذا كانت إسرائيل تنوي كسب الوقت الذي تحتاج إليه لحل مشكلتي الثلاثة آلاف والثلاثين ألفاً، فيتعين عليها أيضاً أن تبدأ في معالجة مشكلة الـ3.5 مليون. وهذا يتطلب منها أن تتقبل أولاً حقيقة أنها مسؤولة عن أكثر من مليوني مدني في غزة وأن تضمن رعايتهم [وتحسين ظروف حياتهم]، وإن لم يكن ذلك لأسباب أخلاقية، فلدوافع استراتيجية. وخلافاً لما تدعو إليه بعض الأصوات في اليمين المتشدد في إسرائيل، لا يمكن طرد سكان غزة ببساطة. فالولايات المتحدة، وأوروبا، وجيران إسرائيل العرب، بل وحتى بعض الأعضاء اليمينيين في الائتلاف الحاكم في إسرائيل، يعارضون فكرة ترحيل الفلسطينيين إلى خارج غزة. والأهم من ذلك أن الفلسطينيين أنفسهم لا يريدون المغادرة، وسيبقون في غزة في المستقبل المنظور. وهكذا، فإن الخطوة الأولى لحل مشكلة الـ3.5 مليون التي تواجهها إسرائيل تبدأ مع هؤلاء السكان.
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن ضمان تحسين ظروف حياة المدنيين في غزة هو أيضاً أفضل وسيلة لحشد الدعم الدولي لمهمتها المستمرة المتمثلة في تفكيك “حماس”، وخصوصاً دعم الولايات المتحدة. في استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في ديسمبر بين المواطنين الأميركيين، قال 49 في المئة من المشاركين الديمقراطيين إن الولايات المتحدة لا تبذل جهوداً كافية لمساعدة الفلسطينيين. وفي المقابل، اعتبر 15 في المئة فقط من أولئك المشاركين أن الولايات المتحدة لا تبذل سوى جهد بسيط لمساعدة إسرائيل. والآن بعد أن بدأت الحملة الرئاسية بشكل جدي، يتعين على إدارة بايدن أن تظهر لمؤيديها، وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى اليسار التقدمي، أنها تهتم لرفاهية الإنسان في غزة، حتى لو كان ذلك في سبيل الحصول على أصواتهم فحسب.
إذاً، ما تحتاج إليه إسرائيل هو أن تتخذ خطوة كبيرة وملموسة وعلنية في استراتيجيتها الحربية لكي تظهر أنها تكترث فعلاً لأمر السكان المدنيين في غزة. إن إنشاء مساحات آمنة في المناطق التي جرى تطهيرها بالفعل من مقاتلي “حماس” في شمال غزة قد يكون خير بداية. لا شك في أن الحديث عن مثل هذه الخطوة أسهل من تنفيذها: فهي تتطلب إزالة الذخائر غير المنفجرة، وإنشاء مساكن موقتة، وتوفير المرافق الصحية الأساسية، وكل هذا في ظل خطر التعرض باستمرار لهجمات “حماس” وغيرها من الجماعات. وبالقدر نفسه من الأهمية، قد تكون هناك حاجة إلى التغلب على الشكوك المحتملة بين سكان غزة الذين عانوا من ويلات الحرب، إذ إنهم قد يستنتجون أن خطوة مثل هذه لا تمثل تحولاً حقيقياً في السياسة بل هي مجرد حيلة عسكرية إسرائيلية أخرى. ومع ذلك فإن معالجة هذه التحديات لها ما يبررها، لأنها ستسمح لإسرائيل بأن ترسل إشارة مهمة وواضحة تؤكد التزامها بتحسين ظروف حياة سكان غزة.
يتعين على إسرائيل أن تتخذ خطوة كبيرة وملموسة لكي تظهر أنها تكترث فعلاً لأمر السكان المدنيين في غزة.
وعلى نحو مماثل، تحتاج إسرائيل إلى توسيع نطاق مساعداتها الإنسانية إلى غزة بشكل كبير. وإذا كانت “حماس” تعترض قوافل المساعدات، كما تزعم تل أبيب، فيتعين على إسرائيل أن تقدم المساعدات مباشرة إلى السكان، من خلال تكليف وحدات الجيش الإسرائيلي إما بحماية قوافل المساعدات تلك أو تسليم المساعدات مباشرة. وهذا الخيار ليس صائباً من الناحية الأخلاقية فحسب، بل يعد أيضاً خياراً حكيماً من الناحية الاستراتيجية. ومن منظور العلاقات العامة، في الأقل، فهذا سيمكن إسرائيل من استخدام صور جنودها وهم يقدمون الطعام للأطفال الجائعين أو يعالجون كبار السن في غزة لموازنة التأثير السلبي الناجم عن صور القنابل الإسرائيلية التي دمرت مساحات كبيرة من القطاع.
وأخيراً، يتعين على إسرائيل أن تقدم رؤية واضحة المعالم لمستقبل غزة بعد الحرب، وعليها أن تفعل ذلك الآن على وجه السرعة بدلاً من تأجيل المناقشة إلى ما بعد انتهاء الصراع. هذا التخطيط لا يعتبر ضرورياً من الناحية العملياتية فحسب لتجنب المشكلات التي حلت بالولايات المتحدة في أفغانستان والعراق في أعقاب غزو هذين البلدين والإطاحة بأنظمتهما، بل هو ضروري من الناحية الدبلوماسية أيضاً، إذ إن مساعدات إعادة الإعمار من الدول العربية الصديقة مرهونة بوجود خطة من هذا النوع. ولكن بعيداً من هذه الاعتبارات، فإن إعلان خطة لما بعد الحرب أمر بالغ الأهمية من أجل إقناع الفلسطينيين والعالم بأسره بأن إسرائيل لا تنوي طرد سكان غزة من القطاع عندما يتوقف القتال.
من غير المحتمل أن تتمكن إسرائيل من كسب قلوب الغزاويين وعقولهم بشكل كامل. ونظراً لكل سفك الدماء الذي خلفته هذه الحرب وغيرها من الحروب السابقة، إضافة إلى عقود من التلقين العقائدي في مدارس غزة، والحصار الإسرائيلي للقطاع، وعملية السلام الراكدة، والتاريخ المشحون للعلاقات الإسرائيلية الفلسطينية، فإن العداء سيستمر لوقت طويل. لكن إسرائيل قادرة على الحد من خسائرها المستمرة، والأهم من ذلك، كسب مزيد من الوقت لصالحها خلال قيامها بذلك.
كسب قلوب 3.5 مليون شخص وعقولهم
تاريخياً، كانت أوجه القصور الاستراتيجية التي تعانيها إسرائيل في غزة تنبع إلى حد كبير من اعتقادها بأنها قادرة على التعامل مع التهديد العسكري الذي تشكله “حماس” من دون معالجة الأسباب الأعمق للمظالم الفلسطينية في الوقت نفسه. منذ انسحابها من غزة في عام 2005، وربما حتى قبل ذلك، نظرت إسرائيل إلى الإدارة الاقتصادية والسياسية للقطاع، ورفاهية سكانه، باعتبارها شأناً فلسطينياً في المقام الأول. من المؤكد أن إسرائيل وفرت الكهرباء لغزة وسمحت لقطر والأمم المتحدة والجهات الفاعلة الأخرى بتقديم المساعدة الإنسانية. ولكن من وجهة نظر إسرائيل، كانت السلطة الفلسطينية، وفي وقت لاحق “حماس”، هي المسؤولة في نهاية المطاف عن سكان غزة. إلا أن بقية العالم لم ينظر قط إلى غزة بهذه الطريقة. وطالما لا توجد دولة فلسطينية، يتعين على إسرائيل أن تدرك أن المراقبين الخارجيين يحملونها المسؤولية النهائية في ما يتعلق بالحكم هناك.
وربما يفسر هذا جزئياً التباين الكبير بين التقييمات الإسرائيلية والغربية للحملة العسكرية الإسرائيلية اليوم. من ناحية، يرى كثير من الإسرائيليين أن الحملة في غزة حققت نجاحاً ملحوظاً، نظراً للتقدم الذي أحرزته في تفكيك البنية التحتية لـ”حماس”. ومن ناحية أخرى، يعتبر عدد من المراقبين الغربيين أن الحرب كانت في معظمها فاشلة بسبب الدمار غير العادي الذي أحدثته داخل غزة. لكن هاتين القضيتين، أي توفير ظروف حياة أفضل لسكان غزة وتدمير “حماس”، متشابكتان بشكل أساسي. وإذا كانت إسرائيل راغبة في الحفاظ على ما سماه نتنياهو “المسؤولية الأمنية الشاملة” في غزة، فيتعين عليها أيضاً أن تتحمل مسؤولية رعاية سكان القطاع. في نهاية المطاف، لكي تحقق إسرائيل نجاحاً في عملية “السيوف الحديدية”، لن يكون عليها أن تحل مشكلتي الثلاثة آلاف والثلاثين ألفاً فحسب بل أيضاً معضلة الـ3.5 مليون.