أثار عجز تركيا عن ممارسة دور فعال في الحرب المستمرة على غزة مشاعر من الغضب أو خيبة الأمل لدى الكثيرين من المعجبين بنظام العدالة والتنمية في جواري تركيا العربي والإسلامي. ولم يستطع هؤلاء غض النظر عن أن أنقرة، مثلها مثل الدول العربية المطبِّعة، لم تقم بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل؛ وأن الأخيرة هي من سحبت سفيرها من العاصمة التركية بعد اندلاع الحرب، تمامًا كما بادرت إلى سحب سفرائها من عدد من الدول الأخرى، لدواع أمنية بحتة. إضافة إلى ذلك، نُشرت تقارير في وسائل الإعلام العربية، أكدها نشطاء أتراك، تفيد بأن القطاع الخاص التركي (كما نظيره الأردني) حافظ على مستوى صادراته من الخضروات والفواكه لإسرائيل، بل ربما رفع من مستوى هذه الصادرات بعد اندلاع الحرب.
ندَّد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في أكثر من مناسبة بما تقوم به القوات الإسرائيلية من تدمير وقتل في قطاع غزة، وصب جام غضبه، على وجه الخصوص، على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، محملًا إياه مسؤولية استمرار الحرب وعواقبها المدمرة والمميتة. وعلى الرغم من تبني لغة أقل حدة، أحيانًا، تابع مسؤولون أتراك كبار رئيسهم في التنديد بالممارسات الإسرائيلية. كما شهدت المدن التركية الرئيسة، بما في ذلك إسطنبول وأنقرة، مسيرات احتجاج حاشدة ضد الحرب، عمل على تنظيمها حزب العدالة والتنمية، مرة، أو مؤسسات مجتمع مدني تركية، أو جمعيات تضامن إسلامية، مرات أخرى.
ولكن أنقرة لم تستطع، على الرغم من علاقاتها التحالفية مع الولايات المتحدة، دفع واشنطن إلى الدعوة لوقف إطلاق النار. ولا استطاعت أنقرة لعب دور وسيط في مجريات الحرب، مثل الدور الذي قامت، وتقوم به، القاهرة والدوحة. الدور المباشر الوحيد الذي تعهدته تركيا، تعلق بعدة شحنات من المساعدات الإنسانية التي أرسلها الهلال الأحمر التركي لسد حاجات أهالي قطاع غزة المتفاقمة، أو استقبال أعداد من المرضى والجرحى الفلسطينيين للعلاج في تركيا.
والحرب على غزة في ذروتها، قام الرئيس التركي بزيارة مفاجئة للقاهرة، في منتصف فبراير/شباط 2024، قصد بها تتويج مسار من المصالحة والتطبيع بين تركيا ومصر، بدأ منذ أكثر من عامين. كان من المفترض أن يقوم الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بزيارة أولى لأنقرة؛ ولكن ارتباطات لم تكن مخططة مسبقًا في العلاقات مع روسيا، أجبرت السيسي على التوجه إلى موسكو وليس أنقرة. وهذا، كما يبدو، ما جعل زيارة أردوغان لمصر الخطوة الأولى في تدشين المرحلة الجديدة من العلاقات بين البلدين، التي اتسمت بالخصومة والعداء منذ انقلب السيسي على الرئيس المنتخب ديمقراطيًّا، د. محمد مرسي، في يوليو/تموز 2013.
ما أشارت إليه أوساط مؤيدي العدالة والتنمية في تركيا أن الهدف الرئيس من زيارة أردوغان للقاهرة كان العمل على تعزيز الموقف المصري من الحرب على غزة، وليس تطوير العلاقات التركية-المصرية وحسب. دعت الدولتان في البيان الرسمي في اختتام الزيارة إلى وقف إطلاق النار وتسهيل إيصال المعونات لغزة؛ ولكن ما لاحظه مراقبو مسار التقارب بين البلدين أن أردوغان لم يقم بزيارة معبر رفح، الخطوة التي قام بها عشرات البرلمانيين والسياسيين المتضامنين مع أهالي قطاع غزة خلال شهور الحرب الطويلة.
عمومًا، لم تقتصر الأسئلة التي أثارتها الزيارة على ملف الحرب، ولكنها تعلقت أيضًا بعجز الخطاب السياسي والدبلوماسي عن تسويغ الانقلاب الكبير في الموقف التركي من النظام المصري، الذي لا توجد أدلة كافية على أن الطريقة التي يتعامل بها مع شعبه، ومع قضايا الإقليم، قد تغيرت منذ انقلاب 2013 بأي درجة من الدرجات.
فما الذي تعنيه هذه المنعطفات المتتالية في السياسة التركية الخارجية، التي لم تتوقف عند المصالحات مع عدد متزايد من القوى الإقليمية؟ لماذا تعجز تركيا، التي يُنظر إليها باعتبارها قوة إقليمية رئيسة وحليفة للغرب، عن ممارسة دور فعال في وقف الحرب على غزة؟ لماذا انتقلت تركيا من تجسيد مثال الحرية والديمقراطية والتنمية، الذي نظرت إليه شعوب الشرق الأوسط بإعجاب وود وانجذاب طوال العقدين الأولين لهذا القرن، إلى حليف وثيق لأنظمة الإقليم بكافة توجهاتها؟ وهل ثمة علاقة بين هذه التحولات في مقاربة أنقرة لجوارها الإقليمي وعجزها عن التأثير في الحراك المتعلق بالحرب على غزة؟
تصورات القوة التركية
شهدت تركيا خلال السنوات العشر الأولى من حكم العدالة والتنمية نهضة اقتصادية ملحوظة، حتى إن الاقتصاد التركي كان بين الاقتصادات المتوسطة القليلة التي استطاعت تجاوز أزمة 2007-2008 المالية-الاقتصادية التي ضربت الاقتصاد العالمي، بدون ضرر يذكر. ساعد استقرار الليرة التركية ومعدلات النمو العالية والازدياد المطرد في حجم الصادرات على أن تصبح تركيا، طوال العقد الأول من حكم العدالة والتنمية، ملجأ لاستثمارات الصناديق المالية العالمية الباحثة عن الربح. وإلى جانب القفزة الاقتصادية، تبنَّت حكومة العدالة والتنمية سلسلة من برامج الإصلاحات السياسية والتشريعية، التي قصد بها تعزيز قواعد الحكم الديمقراطي وسلطات الحكومة المدنية المنتخبة. بعض هذه البرامج الإصلاحية تعلق بدوافع أيديولوجية-سياسية لدى حكام البلاد الجدد، وبعضها تم استجابة لشروط الانضواء في الاتحاد الأوروبي، عندما كان لم يزل لدى الأتراك أمل في اكتساب عضوية الاتحاد.
وما لبثت أصداء التحولات السياسية والاقتصادية التركية أن ترددت في أنحاء الجوار، سواء في البلقان أو القوقاز أو العالم العربي. كان أغلب دول الجوار التركي يعاني من سيطرة واستبداد الطبقات الحاكمة، الفئوية أو الأقلوية؛ وأغلبها عانى طويلًا من إخفاق برامج التنمية واللحاق بالغرب، الذي أصبح منذ القرن التاسع عشر نموذجًا للرخاء ونظام الحكم الرشيد. ولم يكن غريبًا أن ترى شعوب الجوار أن تركيا، التي تربطهم بها صلات تاريخية وثقافية عميقة، والتي شاركتهم عقودًا طويلة من التخبط السياسي والاقتصادي، نجحت أخيرًا في تجاوز عقبات التنمية والتحرر. عندما تجول رئيس الحكومة التركية في عدد من دول الثورات العربية والتحول الديمقراطي في أواخر 2011، استُقبل كما الأبطال في القاهرة وطرابلس وتونس.
أصبحت تركيا عضوًا في مجموعة دول العشرين الكبار في العالم؛ وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها في العشرية الثانية من حكم العدالة والتنمية، بما في ذلك محاولة انقلابية في يوليو/تموز 2016، وتوتر علاقاتها بعدد من دول الجوار، إلا أن صعودها الاقتصادي واتساع نفوذها السياسي استمرَّا بلا تراجع. ولأن حركة الثورة والتحول الديمقراطي في دول المجال العربي أخفقت بصورة فادحة، لم يكن ثمة مفر من المقارنة بين وضع تركيا وتأثيرها، وبين أوضاع جاراتها العربية المتعثرة.
خلال العشرية الثانية من حكم العدالة والتنمية وصلت تركيا إلى مستوى أهَّلها لإنتاج ما يقارب ثمانين بالمئة من حاجاتها العسكرية، وأن تصبح إحدى الدول الرئيسة في سوق السلاح العالمية. قامت تركيا بصناعة دبابة محلية، وسيارات مصفحة، وطائرة مروحية، وحاملة طائرات، وسفنًا حربية وغواصات، وعدة أصناف من الطائرات بلا طيار؛ وفي فبراير/شباط 2024، شهدت أول تحليق لطائرة مقاتلة تركية من الجيل الخامس، يتوقع أن يبدأ إنتاجها بالفعل في 2028.
أظهرت حكومة العدالة والتنمية تأييدًا واضحًا للفلسطينيين والقضية الفلسطينية بصورة مبكرة، وتبنت حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، الحق الذي كاد أن تجمع عليه دول العالم بأسره. وما إن حققت حماس فوزًا في الانتخابات، حتى استقبلت أنقرة قادة الحركة الفلسطينية ذات التوجه الإسلامي باعتبارها قوة شرعية منتخبة. ولم تلبث علاقات تركيا الدبلوماسية بإسرائيل أن تعرضت للقطيعة بعد أن اعتدت الأخيرة على سفينة الإعانات التركية البحرية (مرمرة). وحتى بعد استئناف العلاقات بوساطة أميركية وتعويض أهالي ضحايا السفينة مرمرة، ظلت العلاقات بين البلدين فاترة وعرضة للتوتر. ولم تتردد حكومة العدالة والتنمية في إلغاء كافة اتفاقيات التعاون العسكري والأمني مع إسرائيل، التي كانت قد وقَّعتها حكومات التسعينات الضعيفة.
وقفت تركيا إلى جانب الثورة السورية، وعندما أصبحت سوريا مصدر خطر على أمنها بفعل تمركز تنظيم الدولة أو حزب العمال الكردستاني، قامت بحملتين عسكريتين داخل الأراضي السورية، مكنت القوات التركية من فرض سيطرتها على شريط طويل من الأراضي السورية، وتوفير قدر من الأمن لملايين السوريين في الشمال السوري وللمناطق السورية المحررة. كما وقفت تركيا إلى جانب الحكومة الليبية الشرعية في طرابلس، وتعهدت دورًا عسكريًّا مباشرًا في مواجهة خليفة حفتر والقوى العربية الداعمة له، أو حتى دول مثل روسيا وفرنسا. وعندما تعرضت قطر للحصار من أشقائها الخليجيين والعرب، عززت تركيا وجودها العسكري في قطر، وأظهرت عزمًا بينًا على الوقوف إلى جانب حليفتها الخليجية. وما إن اشتعلت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا من جديد، لم تتردد أنقرة في تقديم الدعم العسكري الضروري لمساعدة أذربيجان على استعادة أرضها المحتلة منذ تسعينات القرن الماضي، وإيقاع هزيمة بالغة بالأرمن، وسحب القيادة الأرمينية إلى طاولة المفاوضات.
بوجودها العسكري المستقر في شمالي العراق، وشمال سوريا، والصومال، وليبيا، وقطر، وأذربيجان، إضافة إلى وجودها التقليدي في شمالي قبرص، أصبحت تركيا واحدة من الدول القليلة في العالم التي تنشط عسكريًّا خارج حدودها.
ولم يكن ثمة بد من أن يتطور الإعجاب بتركيا الناهضة إلى تصور لتركيا باعتبارها دولة إقليمية كبرى، دولة تتمتع باستقلال القرار، قادرة على مناكفة القوى الكبرى وتحقيق أهدافها وحماية حلفائها بالرغم من إرادة هذه القوى. وليس ثمة شك في أن اللغة التي اعتاد الرئيس التركي، أردوغان، استخدامها في توصيف إنجازات بلاده، أو في سياقات أزماتها مع دول الجوار أو الدول الغربية، ساعدت بصورة ملموسة على ولادة هذا التصور وتطوره. في كلمة له، في 24 فبراير/شباط 2024، قال أردوغان: إن التحليق الأول للطائرة المقاتلة كآن، أول طائرة مقاتلة تركية، مؤشر على أن بلاده باتت تعد بين دول العالم الرئيسة. ما غاب وسط هذا الإعجاب المطرد بالتجربة التركية أن ثمة حدودًا للقوة التركية، وأن من الخطأ المساواة بين مقدرات تركيا السياسية والاقتصادية وتأثيرها ومقدرات ونفوذ دول مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين، أو حتى القوى الأوروبية من الدرجة الثانية، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا.
حدود النفوذ والتأثير التركيين
ثمة ثلاث دوائر رئيسة، إلى جانب عدة دوائر أخرى أقل أهمية، تفرض حدودًا واضحة، وإن اتسمت بالمرونة أحيانًا، على قوة تركيا وقدرتها على الفعل السياسي:
أولًا: يرتبط الاقتصاد التركي ارتباطًا وثيقًا بالسوق الرأسمالية والنظام الاقتصادي النيو-ليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة وحليفاتها في أوروبا الغربية واليابان. يعتمد الاقتصاد التركي في جزء ملموس منه على الاستثمارات الغربية، ويتجه أكثر من نصف الصادرات التركية إلى الأسواق الغربية. وعلى الرغم من أن تركيا عملت بصورة حثيثة خلال العقدين الماضيين على جذب استثمارات من دول النفط العربية ومن الصين ودول المجموعة التركية، إلا أن حجم هذه الاستثمارات لم يصل بعد إلى مستوى يجعل من الممكن الاستغناء عن نظيرتها الغربية، ولا استطاع توسع دائرة الأسواق المستقبلة للمنتجات التركية في آسيا وإفريقيا وروسيا أن يحل محل أسواق دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
صحيح أن تركيا لم تعد أسيرة كلية لعلاقاتها الاقتصادية والاستثمارية مع شريكاتها الغربيات كما كانت في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن صلاتها بالاقتصادات الغربية لم تزل من القوة بحيث يمكن لدول مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أن توقع ضررًا بالغًا بالوضع الاقتصادي التركي إن أوحت للمستثمرين الغربيين بالخروج من السوق التركية أو فرضت قيودًا على الصادرات التركية، أو فرضت نوعًا من الحظر على متطلبات حيوية من المنتجات الغربية، العسكرية أو المدنية. ولأن كافة القطاعات الاقتصادية والمالية التركية الرئيسة، الدولة والبنوك والقطاع الخاص، تعتمد في إدارة أعمالها على الاقتراض من السوق العالمية، لاسيما الأسواق الغربية، بما في ذلك مؤسسات الإقراض الدولية مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، فإن من الضروري لتركيا أن تحافظ على علاقات صحية مع الدول الغربية الرئيسة، وأن تتجنب القطيعة أو الخصومة السياسية معها.
ثانيًا: تواجه الفاعلية السياسية التركية معارضة، مضمرة أو مكشوفة، من كافة الدول الرئيسة المنافسة في الجوار الإقليمي. تخوض تركيا منذ أكثر من عقد حربًا غير مباشرة مع إيران في سوريا، وربما كان التدخل الإيراني (ودعوة إيران لروسيا) العامل الرئيس في إحباط الثورة السورية وإفشال هدف تركيا في إسقاط نظام الأسد طوال السنوات العشر الأولى من الثورة السورية. كما وقفت إيران بصورة صريحة إلى جانب أرمينيا منذ اندلاع الصراع الأرميني-الأذري في تسعينات القرن الماضي، وصولًا إلى جولة الصراع الأخيرة التي أوقعت هزيمة قاطعة بأرمينيا. ولأن المفاوضات حول تسوية الصراع بين البلدين تتضمن فتح ممر بري آمن بين أذربيجان وتركيا، يمكن أن يؤدي إلى استغناء خطوط الاتصال والتجارة والنقل التركية عن المرور عبر الأراضي الإيرانية، فإن إيران لم تزل تعمل على إحباط مفاوضات التسوية النهائية بين أذربيجان وأرمينيا. وتعمل إيران، التي تمارس تأثيرًا كبيرًا على الساحة العراقية، بصورة حثيثة على منع تمدد النفوذ التركي السياسي-الاقتصادي في العراق، على الرغم من العلاقات الوثيقة التي تربط سُنَّة العراق وأغلب كرده بتركيا.
كما تواجه تركيا معارضة لا تقل تصميمًا من الدول العربية الكبيرة، مثل السعودية ومصر، أو تلك التي تطمح للعب دور إقليمي كبير، مثل الإمارات. ترى هذه الدول، حتى في لحظات الود والتقارب، أن تركيا، مثلها مثل إيران، دولة غير عربية، وليس من المقبول أن يُسمح لها بتوسيع النفوذ في الساحة العربية. عارضت السعودية والإمارات الصلات الوثيقة بين أنقرة ونظام د. مرسي في القاهرة؛ وعملت، مع مصر، على محاصرة الدور التركي في سوريا، بما في ذلك بالتطبيع مع نظام الأسد؛ وخاضت صراعًا مكشوفًا ضد الوجود التركي في ليبيا؛ وتمنع تركيا من لعب أي دور فعال في الأزمة السودانية.
ثالثًا: كافة الأزمات التي نجحت فيها أنقرة في فرض إرادتها، كليًّا أو جزئيًّا، أو توفير الدعم الكافي لحلفائها لتحقيق الانتصار، كانت في جوهرها أزمات ذات طابع إقليمي بحت، لم تكن أي من القوى الكبرى الثلاث الرئيسة، الولايات المتحدة أو روسيا أو الصين، طرفًا فيها. عندما وُجدت مصالح مباشرة للقوى الكبرى، منعت تركيا من تحقيق أهدافها، أو لم تستطع تحقيق بعض من هذه الأهداف إلا بعد توافق مع القوى الكبرى.
لم تستطع تركيا مساعدة أذربيجان على الانتصار إلا بعد أن رفعت روسيا يدها كلية عن الصراع المتفاقم بين الجارتين القوقازيتين، واتخذت موقفًا حياديًّا من الأزمة. وعلى الرغم من أن إدارة ترامب بدت وكأنها تؤيد حصار قطر، إلا أن التهديد الذي واجهته قطر خلال فترة الحصار الأولى كان إقليميًّا في جوهره. وفي ليبيا، قامت تركيا بتوفير الحماية لحلفائها في طرابلس وأوقعت الهزيمة بمحاولة حفتر السيطرة على الغرب الليبي لأن الدول الكبرى لم تبد اهتمامًا يذكر بالشأن الليبي. كانت روسيا بالطبع أكثر ميلًا لحفتر، ولكن تدخلها في ليبيا لم يكن مباشرًا ولا رسميًّا، ولا أفضى إلى قطع علاقاتها بطرابلس. أما في سوريا، فلم تستطع أنقرة تعهد الحملتين العسكريتين في الشمال السوري إلا بعد موافقة موسكو. وعلى الرغم من أن القيادة التركية لم تزل ترى في وجود حزب العمال الكردستاني شرق الفرات خطرًا أمنيًّا، وأنها هددت أكثر من مرة بالتدخل العسكري في شمال شرقي سوريا، إلا أن الوجود العسكري الأميركي يمثل عائقًا صلبًا أمام هذه الخطوة التركية.
تركيا، بكلمة أخرى، لم تزل بعيدة عن تأمين موقع لها بين الكبار، اقتصاديًّا أو عسكريًّا. ولذا، فإن إرادتها السياسية لم تزل محدودة، وأقرب إلى ثقل وفعالية دول الصف الثاني في الساحة الدولية منها إلى نادي الكبار. ولأنها عرضة لضغوط الكبار وعقوباتهم، فليس من المستغرب أن تلجأ أنقرة إلى مراجعة خطواتها كلما وجدت نفسها مهددة سياسيًّا أو عسكريًّا أو اقتصاديًّا. هذا ما حدث في الشمال السوري عندما وقع صدام عسكري باهظ الثمن مع القوات الروسية؛ وهذا ما حدث في شرق المتوسط وجزر بحر مرمرة عندما وقفت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب اليونان، وأنذرت بفرض عقوبات قاسية على تركيا. أما في أوكرانيا وغزة، حيث كانت الأزمة من البداية ذات طابع دولي بالغ التعقيد، فإن قدرة أنقرة على الفعل لم تزل محدودة إلى حد كبير، ومشروطة بقبول أحد أطراف الأزمة الكبار.
ويصعب فهم انعطافات السياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة الماضية بمعزل عن الأزمة المالية-الاقتصادية التي تمر بها تركيا منذ 2019، والتي تعود في جوهرها إلى ضغوط مالية واقتصادية-سياسية غربية، ضاعف من أثرها بالطبع الأعباء الناجمة عن وباء كوفيد-19 الطويل. في محاولة تخفيف حدة التوتر السياسي مع دول الجوار الإقليمي، وإعادة بناء علاقاتها الاقتصادية والمالية مع الأسواق القريبة، تواصل أنقرة سعيها الطويل لإيجاد بدائل لعلاقاتها الغربية، التي لا تكاد تتجاوز أزمة ما إلا لتولد أخرى.
حدود الموقف
تبرز من كل ما سبق المحددات الخارجية التي تتحكم في الموقف التركي حاليًّا في غزة، وهي تفادي تركيا الصدام مع الولايات المتحدة المنخرطة بشكل مباشر في دعم إسرائيل، والحرص على العلاقات مع الدول الغربية التي يعتمد عليها الاقتصاد التركي الذي لا يزال يعاني من الصدمات السابقة، وتسوية الخلافات مع الدول المؤثرة في منطقة شرق المتوسط الحيوية لتركيا سواء كمصدر للطاقة أو جزء من المجال الأمني التركي، وكل هذه الاعتبارات هي اتجاهات طويلة ستظل تحدد الموقف الخارجي التركي في القضية الفلسطينية عمومًا وفي غزة خصوصًا.