عكس الحضور العسكري المكثف في منطقة البحر الأحمر التنافس بين القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة مع كل من الصين وروسيا وإيران، وإلى حد ما تركيا، ففي اعتقاد واشنطن أن بكين تحاول التمدد في منطقة محسوبة تاريخياً ضمن تركة الاستعمار الغربي وحديثاً ضمن نطاق مصالحها، أما بكين فتعتقد أن واشنطن تخلق التوترات في البحر الأحمر بغرض إعاقة مبادرة “الحزام والطريق” والتأثير في قاعدتها العسكرية الوحيدة خارجياً في جيبوتي، وبين واشنطن وموسكو بوصول المدمرة الأميركية “يو إس إس ونستون تشرشل” والفرقاطة الروسية “أدميرال غريغوروفيتش” إلى الميناء ذاته لإنزال معداتها من أجل إنشاء قاعدة “فالامنغو” العسكرية الروسية التي جُمد العمل فيها بعد سقوط الرئيس السابق عمر البشير.
أما عن عزم إيران بناء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر فقد أكد المستشار الأمني السوداني أحمد حسن محمد لصحيفة “وول ستريت جورنال” أن إيران طلبت من الجيش السوداني السماح لها ببناء قاعدة على البحر الأحمر في مقابل تقديم سفينة حربية تحمل مروحيات، وكانت طهران زودت الجيش بطائرات مسيرة لدعمه في الحرب ضد قوات “الدعم السريع”، لكن الخرطوم رفضت طلب إيران في ما يبدو خشية رد الفعل الدولي والإقليمي.
وجاء النفي في رد وزير الخارجية السوداني علي الصادق الذي قال إن “السودان لم يتلق أية طلبات بخصوص إنشاء قاعدة بحرية دائمة على ساحل البحر الأحمر”، كما أكد أن الإيرانيين لم يتطرقوا إلى هذا الأمر عند زيارته إلى إيران في فبراير (شباط) الماضي بدعوة وجهها له وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان.
وكانت وكالة “تسنيم” الإيرانية أوردت نفي المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني هذه المعلومات، إذ عدها “ادعاء لا أساس له من الصحة وله دوافع سياسية”.
وفي المقابل أعلن وزير الخارجية علي الصادق عدم اعتراض الخرطوم على إنشاء قاعدة بحرية روسية تنفيذاً للاتفاق الموقع بين البلدين عام 2020 حول إنشاء قاعدة تموين وصيانة للبحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر، ونصت على إقامة منشأة بحرية روسية قادرة على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، واستيعاب 300 عسكري ومدني.
هذا الواقع يؤذن بحضور عسكري مكثف في البحر الأحمر لهذه الدول بما فيها إيران، إذ إن نفي السودان طلب إيران إنشاء قاعدة عسكرية لا يدحض رغبتها في اقتناص مساحة إستراتيجية للإشراف والتمدد جيوسياسياً على البحر الأحمر، وإنما قد تكون حالت دون الاعتراف بها التداعيات على حلفائها الإقليميين، خصوصاً “حماس” في غزة و”الحوثيين” في اليمن.
مواقع السيطرة
لم تبدأ تحركات إيران في حوض البحر الأحمر بالنزاع في قطاع غزة وإنما منذ اندلاع الحرب اليمنية إثر انتفاضة “الربيع العربي” وتواصل الهجوم البحري على السفن الغربية، ففي أكتوبر (تشرين الأول) 2016 أوردت وكالة “فارس” الإيرانية أن رئيس القيادة المركزية في الجيش الأميركي حينذاك، جوزيف ووتل، اتهم إيران بلعب دور في الهجمات على السفن الحربية الأميركية قرب المياه اليمنية لصلاتها بالحوثيين، وقالت الوكالة شبه الرسمية إن الجيش الأميركي ادعى إطلاق صواريخ تجاه سفينته “ميسون” ثلاث مرات في الأقل من مواقع تحت سيطرة الحوثيين، وبعد اتهام الحوثيين استهدفت القوات الأميركية ثلاثة مراكز رادارية لهم، وقال ووتل إن “الولايات المتحدة لا تعلم كيف حدثت هذه الهجمات”.
1 (4).jpg
تجري القوات البحرية الإيرانية مناورات روتينية على مدار العام لتعزيز قدراتها العسكرية (وكالة “تسنيم”)
وكانت الوكالة نفسها أوردت قبل أشهر من هذا الاتهام، أي في يونيو (حزيران) 2016، تأكيد قائد بحرية الجيش الإيراني وقتها، الأدميرال حبيب الله سياري، “إبحار المجموعات البحرية الإيرانية على بعد آلاف الكيلومترات أبعد من الحدود في عمق البحار”، مضيفاً أن الوجود في الساحة الدولية يحتاج معدات متطورة حديثة، ولافتاً إلى أن بلاده إذا لم تحظ بمعدات مواكبة للعصر فلا يمكن أن يكون لها صوت بين دول العالم.
كما أكد سياري “حضور المجموعة البحرية الـ (41) في خليج عدن، وأن فرقاً للعمليات الخاصة للبحرية الإيرانية استقرت على أطراف خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر”.
بعد ذلك خفت صوت إيران لتعزيز وجودها في منطقة البحر الأحمر من خلال إقامة قاعدة عسكرية في السودان لتأثرها بالمتغيرات الإقليمية خلال الأعوام الماضية، إضافة إلى قطع علاقات السودان معها منذ عام 2016 بعد الهجوم على السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، ثم الوضع غير المستقر في السودان بعد الاحتجاجات التي أطاحت الرئيس السابق عمر البشير عام 2019.
ولفترة تعرّض النشاط الإيراني في حوض البحر الأحمر وعلاقات إيران مع الدول المطلة عليه إلى جمود زاده تبني واشنطن سياسة محاصرة تمدد إيران إقليمياً، وكبح تهديدها الاستقرار والأمن في المنطقة.
مناورات بحرية
بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979 لم يكن لإيران نشاط بحري واضح، غير أنها اُتهمت عام 1984 بدعم جماعة إرهابية زرعت ما يقارب 200 لغم في البحر الأحمر، لكنها نفت ضلوعها في العملية. وفي عام 2011 أعلن النظام الإيراني نشر إحدى غواصاته في دورية لمدة شهرين في البحر الأحمر لتكملها بمناورات في بحر العرب وخليج عدن امتدت حتى البحر المتوسط، ثم كررت نشر الدوريات مرة أخرى عام 2013 ونفذها أسطولها الـ24 في دورية مدتها ثلاثة أشهر في خليج عدن والبحر الأحمر وعبور قناة السويس إلى البحر المتوسط.
وفي عام 2014 قالت إيران إنها دفعت بدورياتها لإنقاذ ناقلة إيرانية تعرضت لهجوم في البحر الأحمر، أما في عام 2015 فقد هدد الحوثيون جزيرة “بريم” الإستراتيجية في مضيق باب المندب، وأعلن سياري أن “البحرية الإيرانية انتشرت شمال المحيط الهندي وخليج عدن، وأن هذا الوجود سيستمر إلى الأبد”.
ويتوقع المتخصص في دراسات الحرب والمحلل الاستخباراتي البريطاني جيمس فارغر أن “إيران قادرة على زرع ألغام بحرية للاستفادة من موقعها في الشرق الأوسط، أو كوسيلة لتعطيل شحن النفط وفتح الطريق أمام مسرح جديد للعمليات في حال نشوب حرب مع منافسيها الإقليميين”.
ونوه فارغر إلى أن “النشاط الإيراني في البحر الأحمر لم يحصل على الاهتمام اللازم على رغم الأهمية الحاسمة لمضيق باب المندب بالنسبة إلى شحنات النفط العالمية، مما يجعله ثالث أكثر الممرات البحرية ازدحاماً في العالم لعبور النفط”.
وأوضح أن “إيران استطاعت صرف الانتباه عن مضيق باب المندب والبحر الأحمر بتركيز الاهتمام الدولي على عقيدتها البحرية، واحتمال قيامها بإغلاق مضيق هرمز باستخدام قوات غير متماثلة، والتأثير الكارثي الذي قد يخلفه الحصار في إمدادات الطاقة العالمية، ثم اتخذت البحر الأحمر طريقاً مهماً لتهريب الأسلحة الإيرانية إلى التنظيمات المسلحة في قطاع غزة وسوريا”.
بزوغ الفكرة
نشأت رغبة إيران في إنشاء قاعدة عسكرية منذ أن سقطت مدينة كيسمايو الصومالية الواقعة على الساحل الغربي للمحيط الهندي بيد قوات الدفاع الكينية وقوات الحكومة الصومالية عام 2012، وطرد “حركة الشباب” الصومالية بعد قصف مواقعهم العسكرية في المدينة. وأعلن التعاون بين كينيا وإسرائيل في هذه المدينة بهدف القضاء على “حركة الشباب”، حيث خُطط لتموضع القوات الإسرائيلية البرية والجوية بالاتفاق مع الولايات المتحدة التي كانت تسيطر على مدينة مومباسا.
وفي تلك الفترة كانت إسرائيل تخطط للسيطرة على مواقع قريبة من البحر الأحمر بعد أن نشطت طهران في التعاون العسكري مع السودان ووقعت اتفاقات وشرعت في إنشاء مصانع عسكرية، وكان المخطط الإسرائيلي هو اعتراض السفن المنطلقة من إيران وإليها وتفتيشها، وصولاً إلى فرض حصار بحري تشارك فيه خلال مرحلة أخرى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
ونفذت إسرائيل ضربات متتالية شرق السودان، ففي عام 2009 قصفت رتلاً من السيارات أسفر عن مصرع عشرات السودانيين والأجانب، وذكرت إسرائيل أن السيارات كانت تهرب أسلحة إلى قطاع غزة.
وفي عام 2011 اتهم السودان إسرائيل بتنفيذ غارة على سيارة في بورتسودان كان بها سودانيان عبر طائرتي “أباتشي أي إتش-64” قادمتين من جهة البحر الأحمر وأطلقتا 16 صاروخاً، كما وجدت آثار صواريخ ومقذوفات وأسلحة قيل إنها الصواريخ المستهدفة ضمن شحنة أسلحة متجهة إلى مقاتلي “حماس” في سفينة قادمة من إيران كانت في طريقها إلى بورتسودان، حيث كان من المقرر تفريغها وشحنها عبر الحدود المصرية إلى غزة، وذُكر أن العملية نفذها سلاح الجو الإسرائيلي بالتعاون مع الأسطول الأميركي في البحر الأحمر.
وفي عام 2012 اتهمت السلطات السودانية إسرائيل باغتيال شخص في انفجار سيارة بمدينة بورتسودان تردد أنه ضالع في تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة من المصانع العسكرية التي أنشأتها طهران في الخرطوم.
قاعدة انطلاق
ومرت أحداث كثيرة متوالية بين الجمود وتصاعد التوتر إلى أن أُذيع في يناير (كانون الثاني) الماضي أن إيران منهمكة في استحداث قاعدة عسكرية في سواحل البحر الأحمر، بهدف تزويد الحوثيين بالسلاح والمواد الكيماوية، وتسهيل السيطرة على الممر الملاحي الدولي، ولتكون محطة انطلاق لعملياتها التوسعية المقبلة.
وشوهدت قوات إيرانية تعمل منذ حوالى عام في جزيرة كمران اليمنية على تشييد عسكري وإنشاء خزانات وقود وورش عدة لتصنيع وتركيب الأسلحة والصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة مع تدريب عناصر الحوثيين.
وترى طهران في السودان قاعدة انطلاق لتحقيق طموحها في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي، إذ تتحرك رغبتها في إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر، وهو طموح قديم يتجدد مع الأحداث الإقليمية المتتالية لتحقيق أهداف من أهمها لعب دور مباشر ومعلن بخصوص الأحداث في قطاع غزة، ومحاولة حماية الحوثيين في حال استمرارهم بالاعتداء على السفن البحرية لإحكام سيطرتهم على الممرات البحرية في المنطقة.
أما الهدف الثاني فهو وضع يدها على السودان بحكم موقعه الإستراتيجي غرب السعودية باعتبارها أكبر المطلين على الممرات الملاحية الرئيسة على ساحل البحر الأحمر، حيث تتوقع طهران أن تضعف هذه السيطرة أو تمتلك أداة لضمان تحقيق مصالحها التي نص عليها الاتفاق السعودي – الإيراني، من دون الالتزام بالشروط السعودية بعدم التوسع الإقليمي وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
أما الهدف الثالث فهو تعزيز قبضتها على حلفائها البعيدين وخلق مسرح نفوذ يكمل ويمتد من نفوذها على اليمن، وذلك بتغير مركز الاشتباكات من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، وكجزء من حملة إيرانية أوسع لتعزيز نفوذها الإقليمي من خلال تطوير قدراتها في المياه الزرقاء، أما الهدف الرابع فهو تطوير قواتها ونشاطاتها البحرية.
ولتحقيق هذه الأهداف ستعمل إيران في هذه المرحلة على تغيير إستراتيجيتها الراسخة بالانتقال من حال التدخل المتزايد من خلال دعم الأقليات الشيعية في العراق ولبنان وسوريا واليمن إلى إستراتيجية جديدة وهي استهداف المناطق الهشة سياسياً وعسكرياً، بمقايضة الدعم العسكري المقدم للجيش السوداني في حال الحرب في مقابل السماح لها بإنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر.
ترسانة بحرية
ولدى البحرية الإيرانية إلى جانب الأسلحة التقليدية مجموعة من الغواصات الروسية الصغيرة نسبياً، وهي قادرة على الحركة والمناورة، كما حصلت طهران خلال الأعوام الماضية على مجموعة غواصات صينية الصنع، إضافة إلى مجموعة أخرى إيرانية.
وتمتلك إيران صواريخ مضادة للسفن تتميز بقدرتها على التعرض لحاملات الطائرات، كما تمتلك أسلحة باليستية بعيدة المدى من طراز “سكود” برؤوس قادرة على حمل أسلحة كيماوية وبيولوجية.
وذكر “الدليل العالمي للسفن الحربية الحديثة” في آخر إحصاء لعام 2024 أن “القوات البحرية الإيرانية تمتلك حوالى 67 قطعة رئيسة مختلفة الأنواع والفئات، بينها 25 غواصة وثمان فرقاطات وثلاث كورفيتات و10 سفن برمائية هجومية و21 زورق دورية”.
وأضاف الموقع، “أسطول السفن البرمائية الهجومية لدى البحرية الإيرانية يتألف من 10 سفن بينها أربع من فئة ’هنغام‘ بريطانية الصنع، و6ست سفن من الفئة ’كربلاء‘ إيرانية الصنع، ويضم أسطول زوارق الدورية في البحرية الإيرانية 10 زوارق بينها 10 من فئة ’كامان‘ فرنسية الصنع، وخمس من فئة ’سينا‘ إيرانية الصنع، وستة زوارق من فئة ’كيوان‘ أميركية الصنع”.
وظلت إيران على مدى الأعوام الماضية تحشد هذه القوات ويتبعها حشد إعلامي كثيف، إذ أكد قائد القوة البحرية لـ “الحرس الثوري” الإيراني الأدميرال علي رضا في أكثر من مناسبة الاستعداد الكامل للقوات البحرية للحفاظ على أمن البلاد، قائلاً “سنعمل على تعزيز القدرة القتالية لقواتنا البحرية بالتعاون مع الشركات المعرفية”.
وفي عام 2021 أزاح القائد العام لـ”الحرس الثوري” اللواء حسين سلامي وقائد بحرية “الحرس الثوري” الأدميرال علي رضا تنغسيري الستار عن مدينة صاروخية جديدة تابعة لبحرية “الحرس الثوري”، وتدشين منظومات صاروخية جديدة.
2 (4).jpg
انضمت المدمرتان “سهند” و”ألبرز” وحاملتا الصواريخ المدرعتان “زره” و”خدنك” إلى البحرية الإيرانية (وكالة “مهر”)
وأفادت وكالة “مهر” للأنباء أن “المدينة الصاروخية تضم مجموعة كبيرة من المنظومات وصواريخ من طراز كروز الباليستية قادرة على الإطلاق بدقة من الأعماق وإلقاء الألغام بمديات مختلفة”.
وفي ديسمبر (كانون الأول) 2023 أعلن تنغسيري إطلاق قوات “بسيج بحري” عابرة للمحيطات، وتزويدها بسفن كبرى ومتوسطة الحجم تمكنها من الإبحار حتى شواطئ تنزانيا.
وفي وقت سابق ذكرت وسائل إعلام إيرانية رسمية أن وزير الدفاع الإيراني وإسناد القوات المسلحة العميد محمد رضا أشتياني حذر من أن مقترح تشكيل قوة متعددة الجنسيات مدعومة من الولايات المتحدة لحماية الملاحة في البحر الأحمر سيواجه مشكلات استثنائية.
وفي يناير الماضي أعلن موقع “نور نيوز” الإيراني دخول المدمرتين “سهند” و”البرز” في إطار المجموعة الـ (94) التابعة لبحرية الجيش الإيراني البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب، إضافة إلى حاملتي الصواريخ المدرعتين “زره” و”خدنك” إلى البحرية الإستراتيجية الإيرانية.
وكشف قائد البحرية الإيرانية الأدميرال شهرام إيراني عن صواريخ “كروز” أرض – أرض وشاطئ – بحر، وطوربيدات وأنظمة حرب إلكترونية واتصالات ورادارات منخفضة وعالية الارتفاع في المجمع الصناعي الكبير للقوات البحرية الايرانية.
وبحسب وكالة “تسنيم” للأنباء فإنه خلال معرض ومؤتمر الدوحة الدولي للدفاع البحري (ديمدكس) الذي تستضيفه وتنظمه القوات المسلحة القطرية في الفترة ما بين الرابع والسادس من مارس (آذار) الجاري عرضت طهران بعض المعدات الدفاعية في جناح وزارة الدفاع الإيرانية، ومن ضمنها صواريخ “كروز” الإيرانية المضادة للسفن.
حقيقة المواجهة
وتدرك إيران أن أية ضربة من إسرائيل ضدها أو العكس ستزعزع استقرار الشرق الأوسط وتثقل كاهل القوات الأميركية المنهكة في المنطقة، ويعكس ذلك أيضاً المخاوف الأميركية من خيار الحرب الواسعة لأن عودة القوات الأميركية لديارها بعد عقود قضتها في أفغانستان والعراق وغيرها، وتجربتها هناك لن تسمح للـ “بنتاغون” بإعادة إرسالها إلى البحر الأحمر بالكثافة نفسها، لكن ذلك لن يحيد الدور الأميركي الذي يمكن أن تواجهه إيران بخطة بديلة عن المواجهة المباشرة.
وهناك احتمال بأن أي تدخل أميركي محتمل في المنطقة لمواجهة إيران سيأخذ شكلاً آخر وسيكون السودان مكانه المناسب، لذلك تسعى إيران إلى الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع الجيش السوداني ومضاعفة الدعم العسكري لقواته، وإذا استمر الجيش السوداني في علاقته مع طهران فسيتحول عنه دعم الولايات المتحدة الذي تجلى في “مفاوضات جدة” إلى دعم الطرف الثاني وهو قوات “الدعم السريع” بعد تخليصه من براثن روسيا.
وتشكل الأزمة السودانية والصراع في غزة أخطر الأزمات التي تواجهها المنطقة، فالاتجاهات التي يمكن أن تؤول إليها كل منهما يمكن أن تقودها إلى نقطة تتحدد عندها خريطة جيوسياسية جديدة للمنطقة.
إنعاش الطموح
وفي هذا المناخ المتأزم حيث تبدو احتمالات الحل ضئيلة، يبدو مناسباً لتتلاعب فيه طهران بإنعاش طموحها في إنشاء قاعدة عسكرية، وإن لم يتم الأمر فعلياً فإن التشويش الإعلامي الذي تحدثه هذه الرغبة سينشط تحركات الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة، مما يمكنها من تفعيل نهج رد الفعل على المسرح نفسه إلى حين ترسيخ وجودها بإنشاء القاعدة العسكرية.
وخلال الظروف السابقة لحرب غزة لم تكن طهران لتجرؤ على التفكير في السيطرة على المجال الحيوي الغربي للسعودية، لكن عاملين مهمين تأسس عليهما تحركها الحالي، الأول أن مجرد طرح إنشاء قاعدة عسكرية في البحر الأحمر بالاتفاق مع السودان وإظهار الأمر وكأنها مضطرة إلى ذلك سيمنحها ورقة مساومة يمكن أن تلوح بها تجاه الأمن القومي السعودي الذي يمس أمن المنطقة أيضاً، وبعد هذه الخطوة ستبدو وكأنها متنازلة عنها أو تقوم بنفي الأمر كما حدث فعلاً، لكن هذا يُترجم على أنه انسحاب اختياري في مقابل الضغط بشروط أخرى، ولا سيما أن اتفاق المصالحة مع الرياض لا يزال يرضخ لاختبارات مدى التزام طهران بشروطه.
أما العامل الثاني فإنه على رغم أن واشنطن ربما تكون راغبة في التلويح بالتهديد الأمني الإيراني للسعودية نتيجة عدم رضاها عن المصالحة بين البلدين، وللتلويح للسعودية بأهمية غطائها الأمني على المنطقة، فإن دافع تحركها لحماية إسرائيل سيرجح احتمال تدخلها، وستسعى بكل الوسائل لمنع إيران من أن تكون حاضرة في البحر الأحمر، وقد حدث هذا بالفعل بتعزيز واشنطن حضورها العسكري البحري في المنطقة منذ أغسطس (آب) 2023 بانضمام أكثر من 3 آلاف جندي “مارينز” وسفينة الهجوم البرمائي “باتان” التي تحمل على متنها أكثر من 24 طائرة، وسفينة الإنزال البحري “كارتر هول”، ثم إضافة عدد ضخم من قطعها البحرية باتجاه شرق البحر المتوسط والبحر الأحمر.