منذ انفرادها بالسيطرة على قطاع غزّة عام 2007، دخلت حركة حماس في جولات قتالٍ عديدةٍ مع إسرائيل أعوام 2008 و2012 و2014 و2018 و2021 و2022. ولأن حجم الخسائر الناجمة عن كل جولةٍ كانت في حدود قدرة كل من الطرفين على الاحتمال، وتتيح له الادّعاء، في الوقت نفسه، بأنه حقق جانبا من أهدافه، فقد كان بمقدور الوسطاء الساعين إلى وقف القتال الوصول، خلال فترة وجيزة، لم تكن تتجاوز في العادة عدة أسابيع، إلى صيغة للتهدئة مقبولة من الطرفين، وهذا ما يفسّر تحوّل هذه الصيغ إلى هدن مؤقتة تفصل ما بين جولات قتال متباينة الفترات. غير أن جولة القتال الحالية، والتي اندلعت عقب شنّ حركة حماس عملية 7 أكتوبر/ تشرين الأول (طوفان الأقصى)، وردّت إسرائيل عليها بحربٍ شاملةٍ على قطاع غزّة، تختلف عن كل ما عداها من جولات القتال السابقة، سواء من حيث حجم الخسائر الناجمة عنها، والتي تبدو أكبر بكثير من قدرة الطرفين على احتمالها، أو من حيث الأهداف التي يسعى كل طرف إلى تحقيقها، وهو ما يفسّر صعوبة التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار هذه المرّة، رغم مرور أكثر من خمسة أشهر على اندلاع القتال.
نجحت كتائب الشهيد عز الدين القسّام في “حماس” في 7 أكتوبر الماضي، في خداع أجهزة الأمن الإسرائيلية، وشنت هجوماً كبيراً على المناطق المتاخمة لقطاع غزّة، مكّنها من اجتياز السياج الحدودي الحصين الذي يفصل بين إسرائيل والقطاع، والسيطرة على عدة معسكرات ومستوطنات على مساحة تمتد عدة مئات من الكيلومترات المربّعة. وقد استطاعت “حماس” خلال هذا الهجوم الذي لم يستغرق سوى عدة ساعات قتل ما يقرب من 1300 شخص وأسر حوالي 240 آخرين. أما الأهداف التي سعت إلى تحقيقها من هذه العملية غير التقليدية، فيمكن تلخيصها، أولا: تكبيد إسرائيل أكبر قدر ممكن من الخسائر أملاً في تدارك أن كلفة استمرار احتلالها الأراضي الفلسطينية والتوسّع في بناء المستوطنات مرتفعة جدّا وأكثر من طاقتها وقدرتها على الاحتمال. ثانيا، الضغط على الحكومة الإسرائيلية لكبح جماح المستوطنين ومنعهم من مواصلة اعتداءاتهم على الممتلكات الفلسطينية ومن اقتحاماتهم المتكرّرة والمستفزّة للمسجد الأقصى. ثالثا، مبادلة الجنود والمستوطنين الإسرائيليين المحتجزين لديها بآلاف الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية. رابعا، التأكيد على أن الشعب الفلسطيني لن يستكين للاحتلال ويواصل المقاومة إلى أن يتمكّن من ممارسة حقه في تقرير مصيره.
ولأن الضربة التي تلقتها إسرائيل كانت مفاجئة، وأكبر من قدرة حكومتها اليمينية المتطرّفة على الاحتمال، جاء ردّ فعل هذه الحكومة غاضباً ومتجاوزاً كل الخطوط الحمر، فقد ادّعت هذه الحكومة أن إسرائيل تعرّضت لهجوم إرهابي جرى فيه قطع رؤوس عشرات الأطفال واغتصاب وسبي مئات النساء! في محاولة من جانبها لشيطنة “حماس” وإظهارها بمظهر التنظيم الإرهابي الذي لا يقلّ خطورة عن تنظيم داعش، وبالتالي تجريدها من هويتها الحقيقية إحدى فصائل حركة التحرّر الوطني التي تكافح من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتمكين الشعب الفلسطيني من الحصول على استقلاله. ولأن لدى هذه الحكومة أهدافا توسّعية واضحة، فقد سعت، في الوقت نفسه، إلى تحويل المحنة التي تعرّضت لها في 7 أكتوبر إلى فرصة تتيح لها تحقيق بعض هذه الأهداف، ومن ثم قرّرت شنّ هجوم شامل على القطاع لتحقيق مجموعة من الأهداف، بعضها معلن والآخر مستتر، على النحو التالي: أولا، تحطيم البنية العسكرية لحركة حماس وإنهاء حكمها للقطاع. ثانيا، تحرير جميع الرهائن وإعادتهم سالمين إلى ذويهم. ثالثا، السيطرة الأمنية على القطاع بعد إفراغه من سكّانه وانتهاء العمليات العسكرية. ولأن الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا الغربية سارت في تبنّي الرواية الإسرائيلية من دون تحفّظات، وقرّرت تقديم دعم عسكري وسياسي مفتوح وغير مشروط لإسرائيل، فقد بدأت الأزمة تأخذ أبعاداً إقليمية وعالمية، جعلتها تبدو مختلفة كليا عن جولات الصراع السابقة بين “حماس” وإسرائيل، خصوصاً بعدما قرّرت أطراف إقليمية من غير الدول، كحزب الله اللبناني وجماعة الحوثيين اليمنية، الدخول أيضا على خط الصراع والعمل على تخفيف الضغط العسكري على “حماس”.
حركة حماس التي نجحت في تسديد ضربة قوية لإسرائيل يوم 7 أكتوبر ما زالت صامدة وقادرة على تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة كل يوم
والواقع أننا إذا أجرينا مقارنة سريعة بين الأهداف التي سعت “حماس” إلى تحقيقها من “طوفان الأقصى” وتلك التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها من حربها الشاملة على قطاع غزّة، فسوف يسهل علينا أن نكتشف حجم الصعوبات التي تكتنف إمكانية التوصل إلى صيغةٍ تسمح بوقف دائم لإطلاق النار، فقد شعرت إسرائيل بأنها تعرّضت لإهانة كبرى وصلت إلى حد الإذلال، وتم تدمير سمعة جيشها وأجهزتها الأمنية، وخصوصاً أن “حماس” ما زالت تحتفظ بعدد كبير من الأسرى الإسرائيليين. ومن ثم، لن تستطيع محو هذه الإهانة إلا بإلحاق هزيمة عسكرية كاملة ونهائية بـ”حماس” تؤدّي إلى محوها من الوجود، وهو ما يفسّر رفض إسرائيل التام وقفاً دائماً لإطلاق النار، وتمسّكها بهدنٍ مؤقّتة تسمح لها باستئناف القتال عقب تحرير كل مجموعة من الرهائن، وهي صيغة يستحيل على “حماس” القبول بها.
صحيحٌ أنه سبق لـ”حماس” أن قبلت بهدنة مؤقتة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أمكن خلالها الإفراج عن مئات من الأسرى الفلسطينين مقابل عشرات من المحتجزين لديها، لكن قبولها هذه الصيغة جرى لأهداف تكتيكية صبّت في مجملها لصالحها. أما الآن فقد أصبحت صيغة غير قابلة للتكرار، وإلا تخاطر “حماس” بفقدان ورقة الضغط الأساسية التي في حوزتها، الأسرى والمحتجزين، وهذا ما يفسّر الصعوبات الجمّة التي تواجه المفاوضات غير المباشرة التي تجري حاليا عبر وسطاء مصريين وقطريين، بالتنسيق مع الإدارة الأميركية، وهي مفاوضاتٌ تسابق الزمن للتوصل إلى هدنة طويلة نسبيّا مدّتها ستة أسابيع تبدأ مع حلول شهر رمضان المبارك.
قد يبدو لأول وهلة أن موازين القوى تميل لصالح إسرائيل التي تملك من أوراق الضغط ما يكفي لتمكينها من فرض رؤيتها وإجبار “حماس” على القبول بهدن مؤقتة، تهدف إلى استعادة المحتجزين على مراحل، وتجريدها، في النهاية، من أهم أوراق الضغط التي تملكها، فلدى إسرائيل آلة حرب جهنمية تتيح لها إلحاق الأذى بسكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وخصوصا أنها لم تكتف بإلقاء المتفجرات فوق رؤوسهم وقتل وتشريد ومطاردة من تبقوا منهم، وإنما تتعمّد، في الوقت نفسه، تجويعهم وممارسة كل ألوان الإبادة الجماعية في مواجهتهم. ولأنها على يقين من أن خزائن السلاح والمال لدى الولايات المتحدة والدول الغربية مفتوحة، وتستطيع أن تغرف منها ما تشاء، ومن أن “الفيتو” الأميركي جاهزٌ دائما للحيلولة دون تمكين مجلس الأمن من فرض عقوباتٍ عليها، مهما أمعنت في انتهاك القوانين والأعراف الدولية والإنسانية، تبدو إسرائيل مطمئنة تماما إلى أن بمقدورها مواصلة حربها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني إلى أن تستسلم “حماس”.
لا يمكن لأي عقل أو فكر مستقيم تحميل “حماس” المسؤولية عن المأساة الإنسانية التي تدور رحاها فوق قطاع غزّة
غير أن الواقع يشير إلى صورة مغايرة، فحركة حماس التي نجحت في تسديد ضربة قوية لإسرائيل يوم 7 أكتوبر ما زالت صامدة وقادرة على تكبيد الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة كل يوم. وجرائم الإبادة الجماعية التي تمعن إسرائيل في ارتكابها أسقطت كل الأقنعة عن وجهها القبيح، ودفعت الرأي العام العالمي إلى التنديد بها، وأجبرتها على المثول أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. فإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن المجتمع الإسرائيلي يعاني من تمزّقات وشروخ عميقة، بعضها سابق لـ”طوفان الأقصى” وبعضها الآخر لاحق، لتبيّن لنا أن المعركة لم تُحسم بعد، وأن مرور الوقت لا يعمل بالضرورة لصالح إسرائيل. وحده بنيامين نتنياهو، ومعه الجناح الأكثر تطرّفاً وعنصريةً في حكومته، هم أصحاب المصلحة في استمرار الحرب، ويبدو أنهم يعارضون حتى فكرة التوصل إلى هدنة مؤقّته طويلة الأمد، خشية أن تفتح الباب أمام انفراط عقد الحكومة وانهيارها، وهو ما قد يؤدّي إلى دخول المجتمع الإسرائيلي برمّته في مرحلة طويلة من التخبّط وعدم الاستقرار.
تدمي المشاهد المتعلقة بأوضاع المدنيين في قطاع غزّة، والمتداولة على مدار الساعة عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، القلوب، لكنها، في الوقت نفسه، تعرّي إسرائيل التي لا تتورّع عن استخدام المعاناة الإنسانية وسيلة للابتزاز السياسي، كما تعرّي المؤسّسات الدولية التي انكشف ضعفها وعجزها عن التحرّك لحماية البشر ومنع أعمال الإبادة الجماعية. لذا لا يمكن لأي عقل أو فكر مستقيم تحميل “حماس” المسؤولية عن المأساة الإنسانية التي تدور رحاها فوق قطاع غزّة، فليس أمام “حماس” من سبيل آخر لحماية مصالح الشعب الفلسطيني وتمكينه من ممارسة حقه في تقرير مصيره سوى التمسّك بوقف دائم لإطلاق النار، وليس هدنة مؤقتة، وربط الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم بانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع، وعودة النازحين إلى شمال القطاع، وبدء عملية الإعمار على الفور، وذلك بالتوازي مع فتح آفاقٍ جديدةٍ لإطلاق عمليةٍ سياسيةٍ جادّة وحقيقية يمكن أن تفضي فعلا إلى تسوية القضية الفلسطينية، ورفع المعاناة والظلم عن الشعب الفلسطيني الذي تحمّل ما لم يتحمّله شعبٌ آخر في تاريخنا المعاصر.