أثارت انتخابات مجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة في إيران، والتي جرت بالتزامن في الأول من مارس/ آذار الحالي، أصداء متباينة في الأوساط السياسية الإيرانية، ونقاشات صاخبة في المجالين، السياسي والإعلامي، كان عنوانها العريض مقاطعة الانتخابات، وفشَل رهانات النظام على تصويت كثيف في هذه الانتخابات، بعد تعويله عليها لاسترجاع جزء من شرعيّته الشعبية المتآكلة في السنوات الأخيرة.
تظهر القراءة المتأنية للأرقام المتداولة لنسبة المشاركة في الانتخابات التي كان يُنظر إليها أنّها اختبار حقيقي لشرعية النظام، أن تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات تعدّ من مفردات التعبير الديمقراطي في إيران منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية عام 1979، فبعدما كانت نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية لعام 2016 تتجاوز 62%، انخفضت في انتخابات عام 2020 إلى 42,57%، لتواصل النسبة انخفاضها في الانتخابات التشريعية الأسبوع الماضي إلى 41%، مع ازدياد واضح للأصوات الباطلة والأوراق البيضاء، والتي تُصنّف أيضاً في خانة الأصوات الاحتجاجية، وشكّلت، في طهران وحدها، قرابة خُمس مجمل الأصوات، الأمر الذي يؤكّد ازدياد نسبة المقاطعة للانتخابات مع كل دورة انتخابات جديدة، لكنّ الجديد في هذه المقاطعة أخيراً أنّها تأتي في سياقات جديدة، أبرزها مواقف جذرية لتيارات كثيرة رافضة لنظام الولي الفقيه، وخصوصاً بعد سلسلة الانتفاضات الشعبية أعوام 2018 و2019 و2020 و2022، والتي رفعت شعاراتٍ استهدفت المرشد خامنئي وعديدين في النظام الإيراني، إلى جانب ازدياد تململ الشعب وحنقه من إجراءات مجلس صيانة الدستور بعد استبعاد عديدين من الشخصيات الإصلاحية والمعتدلة من سباق الترشّح في الانتخابات أخيراً، الأمر الذي يدلّ بدوره على أنّ نظام الثورة الإسلامية في ربيعه السادس والأربعين أصبح في تراجعٍ مستمرٍ ويفقد شرعيته الشعبية.
فشَل رهانات النظام على تصويت كثيف في هذه الانتخابات، بعد تعويله عليها لاسترجاع جزء من شرعيته الشعبية المتآكلة في السنوات الأخيرة
الحديث عن شرعية إجراءات مجلس صيانة الدستور في استبعاد المرشّحين من التيارين، الإصلاحي والمعتدل، وحتى من التيار المحافظ، والتي غالباً ما تنال انتقادات كثيرة داخلية وخارجية قبل كل انتخابات إيرانية، يستتبع حكماً الحديث عن محاولة النظام الإيراني إعادة إنتاج شرعيته الثورية، وخصوصاً في ظلّ الصراع الذي بدأ يتسع بشأن هوية النظام السياسي، على خلفية سياسات المرشد الحالي، علي خامنئي، التي أدّت إلى بروز الهوية القومية كردة فعلٍ على عسكرة النظام وعسكرة الهوية العقائدية، بعد تنامي دور الحرس الثوري واتساعه، والذي بات يتمتّع بهيكلية موازية لدولة ضمن الدولة.
لذا وعلى الرغم من محاولات رموز النظام الإيراني حثّ الناخبين على المشاركة في الانتخابات، ومحاولة استخدام جميع الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك، بدءاً بإطلالات المرشد علي خامنئي، وحثّ الناخبين على المشاركة في الانتخابات، إلى تقديم الإغراءات والفتاوى الدينية التي تعدّ المشاركة في الانتخابات واجباً شرعياً، وانتهاءً بالتهديدات ومحاكمة من يدعو إلى المقاطعة، إلا أنّ إجراءاتهم على أرض الواقع تدلّ على عدم اكتراث النظام الإيراني، وتحديداً التيار المتشدّد، بحجم المشاركة الشعبية في الانتخابات، فهذا التيار كان همّه الوحيد وهدفه الأول تأمين استمرار السيطرة المطلقة له على مفاصل الدولة الإيرانية، وخصوصاً في هذه المرحلة التي يرى فيها أن انتظام صفوفه وتوحيد جبهته وجعل جميع المؤسّسات ضمن إرادة الولي الفقيه علي خامنئي، أكثر أهميةً من الإصغاء لصوت الشعب، لأن المعيار الأساسي، حسب ما تراه رموز هذا التيار، هو تطبيق حكم الله لا إرضاء رغبات البشر الذين هم بعيدون عن العصمة، وقد يقعون في الخطأ وتتلاعب بهم وسائل الإعلام.
تنامي الغضب الشعبي في الشارع الإيراني، وتعالي الأصوات المنتقدة لخامنئي ومؤسّسته
ومن هنا، يمكن فهم سبب عدم اكتراث رموز التيّار المتشدّد بنسبة المشاركة المنخفضة في الانتخابات أخيراً، فهذا التيار يعلم جداً أنه بات أكثر بُعداً عن الشعب، وأن خطابه الديني والسياسي الذي استخدمه مع الأجيال الأكبر سنّاً، لم يعد يُجدي نفعاً مع الأجيال الحالية التي أظهرت قناعةً كبيرةً ورغبةً حقيقيةً بضرورة التغيير. لهذا من المتوقع أن تكون هذه الانتخابات تأسيساً لمرحلة جديدة مقبلة، سيكون عنوانها العريض التصفية داخل النظام السياسي ككل، وداخل التيار المحافظ بشكلٍ خاص، في محاولةٍ من رموز هذا التيار لإعادة إنتاج الشرعية الثورية على حساب الشرعية الشعبية.
في المحصلة، يمكن القول إنّ السياقات التي أحاطت بالانتخابات أخيراً وإجراءاتها كشفت قدراً متزايداً من الصراع ما بين الشرعيتين، الثورية والشعبية، في ظل التحولات الآخذة في التشكّل داخل النظام السياسي، فسيطرة المحافظين المتشدّدين على السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، وتنامي دور الحرس الثوري الإيراني وطموحاتهم بممارسة مزيد من السلطة، مقابل تنامي الغضب الشعبي في الشارع الإيراني، وتعالي الأصوات المنتقدة لخامنئي ومؤسّسته، كلها تدلّ على دخول مؤسّسة النظام السياسي مرحلة جديدة أكثر استقطاباً بين أقليّة مرتبطة بدوائر الحكم، اغتنَت منذ الثورة، تسعى إلى إعادة إنتاج شرعيّتها الثورية، وأغلبيّة أنهكها فساد النظام بجميع مؤسّساته، تسعى إلى سحب شرعيتها الشعبية.