في اجتماع مع الشباب مساء الجمعة 8 مارس/ آذار أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن الانتخابات البلدية المزمع عقدها في الحادي والثلاثين من مارس/ آذار الجاري، هي الأخيرة له في السلطة وفق القانون، إذ يحدد الدستور مدة الرئاسة المسموح بها بمدتين فقط.
وأضاف أردوغان أنه سيعمل خلال الفترة المقبلة، على منح الثقة لمن سيحملون المسؤولية من بعده.
ورغم أن الولاية الرئاسية الحالية ستنتهي في 2028، إلا أن هذا التأكيد المبكر أثار حالة من التباين داخل البلاد بين المؤيدين والمعارضين على حد سواء.
فقد نجح أردوغان منذ ظهوره المبكر رئيسًا لبلدية إسطنبول عام 1994 (كان عمره حينها 40 عامًا) ثم رئيسًا للوزراء عام 2003، في أن يملأ الدنيا ويشغل الناس (مع أو ضد).
بحلول عام 2028 سيكون أردوغان قد أمضى 25 عامًا في الحكم، رئيسًا للحكومة، ثم رئيسًا للدولة، أي أننا أمام جيل ولد ونشأ وترعرع ولم يعرف له رئيسًا سوى أردوغان، وهناك أجيال أخرى عاشت شطرًا من حياتها في مراحل انهيار الدولة أواخر التسعينيات، وتعرف الفرق جيدًا بين ما قبل وما بعد الأردوغانية، لهذا فانصراف الرجل لن يكون بالحدث السهل.
لذا فالساعات الأولى التي تلت الإعلان أفرزت عددًا من الأسئلة الأولية بشأن دوافع أردوغان، ولماذا أبدت المعارضة تشككها؟، ومستقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم وإمكانية تماسكه بعد أردوغان؟
هل يطمئن أردوغان المعارضة؟
ذهب البعض إلى أن هدف التصريح المفاجئ هو جذب تعاطف الناخبين الأتراك، للتصويت للحزب في الانتخابات البلدية. استرشادًا بما سبق وردده أردوغان العام الماضي من أن انتخابات الرئاسة 2023 هي الأخيرة بالنسبة له.
لكن أردوغان آنذاك طالب الجماهير صراحة بالتصويت له، ورغم ذلك لم يحسم الانتخابات إلا في الجولة الثانية، أما هذه المرة فلم يطلب ذلك، وكل من شاهد لقاءه المتلفز رأى كيف بدا متأثرًا وهو يؤكد موعد الانصراف.
في تقديري أن الإعلان لم يكن مناورة، بل ربما أراد طمأنة المعارضة بشأن عدم ترشحه مرة أخرى، لعلها توافق على التعاون معه في إنجاز دستور جديد، بدلًا من الحالي الذي كتبه العسكر عقب انقلاب سبتمبر/أيلول 1980 الذي قاده الجنرال، كنعان إيفرين، ووافق عليه الشعب آنذاك، وأجريت عليه تعديلات كثيرة حتى الآن.
فالمعارضة تخشى من أن يمنح الدستور الجديد أردوغان فرصة الترشح مجددًا، لذا تفضل بقاء الدستور الحالي، الذي لا يمنحه تلك الفرصة باعتباره استفاد من الفترتَين المسموح بهما دستوريًا.
علمًا بأن المادة 116 من الدستور الحالي تقرر أنه إذا قرر البرلمان بأغلبية ثلاثة أخماس إجمالي عدد الأعضاء (360 نائبًا) تجديد الانتخابات، فإنه تجرى انتخابات البرلمان والرئاسة معًا، وأنه إذا كان هذا الإجراء خلال المدة الثانية للرئيس فإن من حقّه الترشح مجددًا.
لكن أردوغان يبدو فعلًا مصممًا على الانصراف، ولن يبحث عن أي مخارج دستورية للبقاء، فما يهمه الآن أن يختم حياته السياسية بإعداد دستور مدني، لذا أتوقع أن تبدأ المفاوضات بشأنه مع الأحزاب عقب الانتخابات البلدية.
المعارضة تشكك
قابلت المعارضة التركية إعلان أردوغان بالتشكيك، بزعم أنه سبق أن صدرت مثل تلك الإعلانات، لكنها لم تنزل إلى حيز التنفيذ.
فصحيفة “جمهوريت” اليسارية المعارضة والداعمة لحزب الشعب الجمهوري، أعادت نشر تصريحات سابقة لأردوغان، على حسابها على منصة “إكس”، كان يؤكد فيها رحيله.
لكن عند التدقيق يتأكد مصداقية موقف أردوغان الحالي، ففي عام 2009 أعلن أن انتخابات 2011 ستكون آخر ترشح له للبرلمان، وبالفعل لم يترشح أردوغان بعدها للبرلمان نهائيًا، إذ تولى منصب الرئاسة في أغسطس/آب 2014 وحتى الآن.
وفي عام 2012 أعلن أنه لن يترشح مرة أخرى لرئاسة حزب العدالة والتنمية، وبالفعل ترك أردوغان رئاسة الحزب عام 2014 مع توليه منصب الرئاسة (كان النظام آنذاك لا يزال برلمانيًا)، ولم يعد إلى رئاسة الحزب إلا بعد التعديل الدستوري الذي تم عام 2017 وتحول بمقتضاه نظام الحكم إلى نظام رئاسي.
وفي العام الماضي أعلن أن انتخابات 2023 هي الأخيرة له، وجاءت تصريحاته الأخيرة لتؤكد ذلك المعنى.
إذن، لا أرى مبررًا لهذا التشكيك من المعارضة، بل عليها أن تعمل على مواجهة استحقاقات اللحظة التي ستصحو فيها وتجد الساحة خالية أمامها من أردوغان، الذي فشلت في هزيمته في أي استحقاق انتخابي منذ عام 2002.
حزب العدالة فيما بعد الأردوغانية
نجح أردوغان في تأسيس حزب العدالة والتنمية باعتباره حزبًا يصنف كـ “يمين وسط”، وليس حزبًا محافظًا “إسلاميًا” خالصًا، على غرار الأحزاب المتعاقبة التي أسسها الراحل نجم الدين أربكان.
كان مفهوم أردوغان، وهو يؤسّس الحزب مع مجموعة من الأقران في أغسطس/ آب 2001، قريبًا من فكر الرئيس الراحل، تورغوت أوزال، وحزبه الوطن الأمّ. لذا، فالتحدي الماثل أمامه الآن كيف يحافظ على تماسك الحزب في وجود أطياف متعددة داخله؟
خاصة أنه على مدار عشرات السنين من التجربة الحزبية، تعرضت أحزاب تركية للأفول أو التفكّك عقب رحيل المؤسس أو تركه رئاسةَ الحزب، والأمثلة كثيرة، لكنّي أذكر فقط حزب الشعب الجمهوري الذي أنشأه مؤسس الجمهورية، كمال أتاتورك، ولم يصل من بعد رحيله إلى الحكم إلا لفترات قليلة! ناهيك عن الانشقاقات داخله، وتعرّضه للحل عقب انقلاب 1980.
يضم حزب العدالة والتنمية عدة كتل رئيسية، يأتي في مقدمتها كتلة المحافظين، ومعظم رموزهم من المنتمين لحركة “المللي غروش” التي أسسها أربكان، مثل نائب رئيس الحزب ورئيس البرلمان، نعمان قورتولموش، ووزير العدل السابق، عبد الحميد غل، ورئيس الحزب في إسطنبول، عثمان نوري كاباك تبه.
ويأتي بعدهم كتلة القوميين، وأبرز وجوههم، وزير الداخلية السابق، والنائب البرلماني الحالي، سليمان صويلو.
إضافة إلى تيار الشباب أمثال بلال أردوغان، وسلجوق بيرقدار، الذي يتمتع بشعبية كبيرة في أوساط الشباب التركي، لدوره المعروف في تطوير الطائرات المسيرة.
هذه الأسماء وغيرها لها من الثقل والرمزية ما يمكنها من تأسيس أحزاب مستقلة في أي وقت، بل إن بعضها كان رئيسًا بالفعل لحزب آخر، قبل أن ينضم للعدالة والتنمية، مثل قورتولموش وصويلو.
من هنا فإن التحدي الكبير الذي سيواجه أردوغان خلال السنوات المتبقية، هو ترتيب الحزب، بحيث ينجو من لعنة التفكك.
ولِمَ الذهاب بعيدًا؟ فعندما ترك أردوغان رئاسة الحزب عام 2014 لأحمد داود أوغلو، كاد الحزب يتسرب من بين يديه. بل لم ينجُ فعلًا من الانشقاقات، فقد انشقّ داود أوغلو وأسس حزب المستقبل، وكذلك فعل الوزير السابق، علي باباجان، بتأسيس حزب التقدم والديمقراطية، وكان يمكنهما جذب شريحة مؤثرة من حزب العدالة والتنمية، لكن ذلك لم يحدث، وعجز الحزبان عن ضم أي نائب برلماني من الحزب الحاكم. وما ذاك إلا لوجود أردوغان في رئاسة الحزب.
وبعيدًا عن هذه التحديات، فإنه سيكون من المفيد لتركيا إتمام أردوغان هذا الانتقالَ في حياته وبإشرافه، منعًا لأيّ هزّات مؤثرة، ثم يتفرغ بعدها لكتابة مذكراته التي ستكون – حال إتمامها – وثيقةً سياسيةً مهمة تميط اللثام عما خفي من تجربته السياسية بكلّ ما فيها من إنجازات كبيرة، وأيضًا إخفاقات لم تخلُ منها مسيرتُه.