إذا كانت الولايات المتحدة قد دخلت بحلول 2024 عام انتخابات رئاسية وتشريعية تترقبه دوائر اليمين واليسار في المجتمع الأمريكي ويراه البعض حاسما فيما خص مصير الديمقراطية ويتحسب لنتائجه حلفاء ومنافسو القوة العظمى في المنظومة العالمية التي تشهد صراعات خطيرة وتقلبات متسارعة، فإن ألمانيا، صاحبة الاقتصاد الأوروبي الأكبر وثالث أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة والصين، صارت أيضا بحلول 2024 وحتى خواتيم 2025 في مرحلة انتخابات بالغة الأهمية ستشمل انتخابات تشريعية على مستوى عدة ولايات في الشرق والغرب الألماني وانتخابات للبرلمان الأوروبي وانتخابات للبرلمان الفيدرالي (البوندستاغ). ستحدد نتائج هذه الانتخابات مجتمعة وجهة هذه الدولة الكبرى إن في الداخل بقضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماعية الملتهبة أو في الخارج الذي تشتعل به الحرب الروسية-الأوكرانية في الجوار الجغرافي لألمانيا وتتواصل به حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة ويغيب فيه الأمن عن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الحيوية للمصالح الألمانية.
في الداخل، وهو داخل لم يعد ممكنا إنكار صعوبة قضاياه، ستحسم انتخابات 2024 و2025، من جهة، سؤال من سيقود ألمانيا سياسيا وإذا ما كان الحزب الاشتراكي الديمقراطي متحالفا مع الخضر وأحزاب أخرى في اليسار واليمين سيواصل الحكم على المستوى الفيدرالي والحضور بقوة على مستوى حكومات الولايات وفي البرلمان الأوروبي أو إذا ما كان الحزب المسيحي الديمقراطي متحالفا مع شريكه الحزب المسيحي الاجتماعي ومع الحزب الليبرالي الحزب الديمقراطي الحر (وربما مع حزب الخضر وفقا لنتائج الانتخابات) سيعود إلى الحكم على المستوى الفيدرالي ويواصل انتصارات السنوات الماضية على مستوى الولايات وعلى المستوى الأوروبي. والحقيقة أن قضايا الداخل الملتهبة، وهي تتنوع بين تراجع معدلات النمو الاقتصادي لتصبح من بين أسوأ معدلات النمو في القارة الأوروبية وأزمات معيشية كالعجز في الوحدات السكنية المعروضة في السوق مقارنة بالطلب وأزمات تراجع مستويات الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة وتحديات التعامل مع العدد الكبير من اللاجئين وطالبي اللجوء والضغوط التي يضعونها على الخدمات التعليمية والصحية ونظم الرعاية الاجتماعية ومؤسسات الاندماج المجتمعي، تزيد من حدة التنافس الانتخابي بين يسار الوسط الذي يمثله الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر وبين يمين الوسط الذي يعبر عنه المسيحيون الديمقراطيون ومعهم الحزب الديمقراطي الحر الذي يظل، وإن شارك في الائتلاف الحكومي الحالي مع الاشتراكيين والخضر، أقرب إلى يمين الوسط.
يتبنى يسار الوسط سياسات اقتصادية واجتماعية ومالية أولوياتها إدارة انتقال ناجح إلى الاقتصاد الأخضر والطاقة المتجددة وتجديد الاستثمارات الحكومية في المرافق الكبرى وتوسيع شبكات الرعاية الاجتماعية وتسهيل اندماج اللاجئين وطالبي اللجوء الشرعيين، وتتعثر بعض سياساته بسبب الخلافات الكثيرة داخل الائتلاف الحاكم الذي يقوده المستشار أولاف شولتس ويندر به صناعة التوافق بين الخضر وبين الديمقراطيين الأحرار، ويفقد الكثير من التأييد الشعبي بسبب تراجع النمو الاقتصادي واستمرار الأزمات الاجتماعية. أما يمين الوسط، فيريد العودة إلى الحكم الذي غاب عنه مع رحيل المستشارة السابقة أنغيلا ميركل ويطرح سياسات اقتصادية تجتذب القطاع الخاص بمقترحات تخفيض الضرائب وتخفيف الاشتراطات الحكومية الكثيرة المفروضة على الأسواق، ويتبنى سياسات اجتماعية تريد تقليص أعداد اللاجئين وطالبي اللجوء وتجتذب من ثم دوائر الناخبات والناخبين القريبة من اليمين العنصري والشعبوي. خلال السنوات الماضية، نجح المسيحيون الديمقراطيون في تحقيق نتائج جيدة في صناديق الاقتراع في عدة ولايات ألمانية موظفين ذلك خطابهم المتشدد تجاه اللاجئين ومستغلين تعثر الائتلاف الحاكم وخلافاته الكثيرة. ستحسم انتخابات 2024 و2025 حظوظ يسار الوسط ويمين الوسط، وتحدد هوية الطرف الذي سيقود ألمانيا ونوعية السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي سنطبق في الداخل.
ستحسم انتخابات 2024 و2025 حظوظ يسار الوسط ويمين الوسط، وتحدد هوية الطرف الذي سيقود ألمانيا ونوعية السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي سنطبق في الداخل
في الداخل أيضا، ستحدد انتخابات العام الحالي والقادم مسألة وزن ودور اليمين العنصري والشعبوي في السياسة الألمانية. فقد شهدت الفترة الماضية صعود حزب البديل لألمانيا، ممثل اليمين العنصري، في صناديق الاقتراع وفي استطلاعات الرأي العام إلى الحد الذي صار معه الحزب حاضرا داخل العدد الأكبر من برلمانات الولايات في الشرق وأيضا في الغرب الألماني وأصبحت معه نسب تأييده بين صفوف الناخبات والناخبين تقترب من 25٪.
ليس هذا فقط، بل، وبعد أن ذاعت في ألمانيا مجددا أنباء تآمر بعض القريبين من اليمين العنصري ومن حزب البديل لألمانيا على النظام الديمقراطي وسعيهم إلى الإطاحة به (اجتماع مدينة بوتسدام السري قبل أسابيع) وخرج الآلاف في تظاهرات شعبية دفاعا عن الديمقراطية ورفضا لليمين العنصري، لم تتراجع نسب التأييد الشعبي لحزب البديل لألمانيا. على العكس تماما، تدلل استطلاعات الرأي العام الراهنة على استعداد مزيد من الناخبات والناخبين للتصويت لمصلحة الحزب إلى الحد الذي قد يقترب معه من تشكيل الحكومة على مستوى ولاية «تيرينغن» الواقعة في الشرق الألماني وتجرى انتخاباتها التشريعية في 2024.
يهدد صعود اليمين العنصري والشعبوي استقرار السياسة الداخلية في ألمانيا التي تظل، وإن تفاوتت بها رؤى يسار ويمين الوسط بشأن قضايا الهجرة واللاجئين، ملتزمة بالمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون وبعيدة عن تطبيق سياسات الباب المغلق التي تتبعها حكومات اليمين المتطرف في بلدان أوروبية أخرى. يهدد صعود حزب البديل لألمانيا أيضا الاتحاد الأوروبي الذي تقوده القاطرة الألمانية منذ عقود ويتوافق على تقويته اقتصاديا وسياسيا يسار ويمين الوسط، ويريد اليمين العنصري بوطنيته المتطرفة التخلص منه والتحرر من قيوده واشتراطاته الكثيرة التي يتناسى العنصريون والشعبويون كونها ضمنت رفاهية ورخاء وأمن ألمانيا لعقود طويلة. المقلق في الأمر هو القبول الشعبي الواسع بين دوائر الناخبات والناخبين المؤيدة لحزب البديل لألمانيا للطرح الهدام بشأن الاتحاد الأوروبي واستجابتهم هنا للمقولات الشعبوية (الألمان ينفقون على فقراء أوروبا وعاطليها) مثلما يؤيدون المقولات العنصرية فيما خص المهاجرين واللاجئين (الأجانب يخطفون أماكن عمل الألمان ويستغلون نظم الرعاية الاجتماعية التي شيدها المجتمع الألماني على مدار عقود).
أما في الخارج، فستحسم انتخابات ألمانيا وجهة السياسات المطبقة من قبل برلين تجاه الجوار الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتجاه المنظومة العالمية ككل. وإذا كان يسار ويمين الوسط لا يختلفان جوهريا فيما خص الموقف من الحرب الروسية-الأوكرانية ودعمها للدعم العسكري والمالي لكييف وفك الارتباط الاقتصادي مع موسكو بالامتناع عن استيراد الطاقة منها وتحمل الكلفة الاقتصادية الباهظة لاستيراد الطاقة من أماكن أبعد إلى أن ترتفع معدلات إنتاج الطاقة المتجددة والنظيفة وغير النووية داخل ألمانيا، إلا أن السياسة الخارجية لبرلين حتما ستتأثر إن باستمرار أو بتغير شخوص القائمين عليها في مبنى المستشارية ومبنى وزارة الخارجية مثلما ستتأثر أيضا بالتقلبات المحتملة في سياسة الحليف الأمريكي حال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. كذلك قد تعني عودة يمين الوسط إلى الحكم في 2025، مقارنة بالوضع الحالي والوضع المتوقع إن استمر يسار الوسط في الحكم، توجه ألمانيا نحو تقديم المزيد من الدعم العسكري النوعي لأوكرانيا ومن ثم المخاطرة بتوترات إضافية مع روسيا ومع الحكومات الأوروبية المتحفظة على مواصلة دعم كييف دون أفق لإنهاء الحرب. كذلك لا تختلف سياسات يسار ويمين الوسط فيما خص التأييد الأحادي لإسرائيل ولحربها الدموية على غزة وللفصل العنصري والاستيطان وممارسات القمع المطبقة في الضفة الغربية وللتمييز ضد المواطنين الإسرائيليين من أصول فلسطينية داخل أراضي 1948.
في المجمل، إذا، لن تغير توازنات يسار ويمين الوسط جوهريا في السياسة الخارجية الألمانية. غير أن صعود اليمين العنصري والشعبوي، وما قد يحدث من صعود محدود لليسار المتطرف أيضا، سيجعل من السياسة الخارجية مادة للتنازع في الفضاء العام الألماني. فحزب البديل لألمانيا، ولا يختلف عنه العدد الأكبر من قوى أقصى اليسار، يعارض مواصلة تقديم الدعم لأوكرانيا ويطالب بالانفتاح التفاوضي على روسيا لإنهاء الحرب. وتتردد في بعض دوائر أقصى اليمين واليسار انتقادات خافتة للتأييد الأحادي لإسرائيل، وهي، وإن غاب تأثيرها بحسابات اليوم ويظل لزاما علينا كمتعاطفين مع الحق الفلسطيني عدم الاهتمام بها لخلفياتها المعادية للسامية، قد تتعالى بعد انتخابات 2024 و2025 في الفضاء العام والفضاء السياسي لجمهورية برلين.