تراقب أوروبا من كثب المشهد السياسي الأميركي منذ أشهر، وهناك قلق وارتباك من ضعف الرئيس جو بايدن في استطلاعات الرأي، وكذلك خشية العودة إلى الحقبة التي كان فيها الرئيس السابق، دونالد ترامب، يهدّد العلاقة عبر الأطلسي والتي أبقت أوروبا مزدهرة ومطمئنة تحت مظلة واشنطن الأمنية. وفي أعقاب النجاح الذي حقّقه ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، يواجه المسؤولون الأوروبيون احتمال عودته إلى البيت الأبيض، وهي نتيجة سيكون لها آثار محتملة على كل شيء، من السياسة التجارية الأميركية إلى الدعم المالي الأميركي لأوكرانيا في الحرب ضد روسيا.
ومع توقف المساعدات لأوكرانيا، واقتراب الانتخابات الأميركية، يدرك القادة الأوروبيون، بشكل متزايد، الحاجة إلى إعادة التفكير في ما قد يكون عليه التزام الولايات المتحدة تجاه أوروبا وأوكرانيا، لا سيما بعد تصريحات ترامب المتعلقة بتشجيع روسيا على مهاجمة دول في حلف الناتو.
وتبحث سلطات دول الاتحاد الأوروبي عن إنشاء هياكل يمكن أن تكمل أو تكون بمثابة بديل لحلف شمال الأطلسي، وبالتنسيق مع الضمانات الأمنية الأميركية، إلا أن الخلافات المعتادة في التكتل الأوروبي تقف عقبة خلال أي مشاورات، فالجناح الشرقي لأوروبا ليس لديه ثقة كاملة بالجناح الغربي، للردّ على ما يعتبره تهديدات روسية، بالإضافة إلى أن قضية تسديد التكاليف تزيد الشرخ بين الأوروبيين. ووفقاً لصحيفة واشنطن بوست، فقيادة دول الاتحاد الأوروبي تشعر بالقلق والغضب من أن ترامب يغازل روسيا، ويدلي بتصريحات غير مسؤولة في ما يتعلق بحلف شمال الأطلسي. وقد توترت العلاقات عبر الأطلسي خلال رئاسة ترامب، لأسبابٍ ليس أقلها الخلاف التجاري بين واشنطن وبروكسل، وشهد هذا النزاع فرض واشنطن تعريفات جمركية على الصلب والألومنيوم في الاتحاد الأوروبي، وهو ما ردّ عليه التكتل الأوروبي بفرض تعريفات جمركية على سلع أميركية بقيمة ثلاثة مليارات دولار.
في مواجهة شبح عودة ترامب، الذي لا يخفي أولوياته، تثار تساؤلاتٌ بشأن تأثيره على صناديق الاقتراع في الاتحاد الأوروبي
والولايات المتحدة هي أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في الاتحاد الأوروبي، وبلغ إجمالي التجارة في السلع والخدمات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي 1.3 تريليون دولار في عام 2022، ما يجعلها أكبر علاقة تجارية واستثمارية ثنائية في العالم، وفقاً للأرقام الرسمية. ولم تكن المصالح الأميركية متوافقة مع المصالح الأوروبية في الفترة التي كان فيها ترامب رئيساً للولايات المتحدة، من التعريفات الجمركية، والالتزام حيال “الناتو”، ومكافحة التغير المناخي. وقالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، في مقابلة مع قناة فرانس 2 الفرنسية، إن إعادة انتخاب ترامب المحتملة تشكل تهديداً واضحاً لأوروبا، مستندة إلى السياسات التي جرى تنفيذها في فترة ولايته الأولى.
وفي مواجهة شبح عودة ترامب، الذي لا يخفي أولوياته، تثار تساؤلاتٌ بشأن تأثيره على صناديق الاقتراع في الاتحاد الأوروبي، وتزداد التساؤلات بشأن ما إذا كان سيعزّز هذا الاحتمال الصعود المرجّح لليمين المتطرّف، الذي شهدت أكثر من دولة أوروبية صعوداً له أخيراً، أم أنه على العكس سيشجّع الناخبين على توحيد صفوفهم، والتصويت لصالح أوروبا أكثر قوة، لا سيما أن التكتل الأوروبي على عتبات استحقاق انتخابات البرلمان الأوروبي صيف هذا العام، والتي ستحدّد مسار السباق على رئاسات المؤسسات الرئيسية: البرلمان والمفوضية والمجلس الأوروبيين.
ويؤشّر بوضوح إلى توجهات ترامب المستقبلية اجتماعه في فلوريدا، قبل أيام، مع رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، صاحب المواقف المثيرة للجدل في القمم الأوروبية، والزعيم الوحيد في دول الاتحاد الأوروبي الذي يحافظ على علاقات وثيقة مع الكرملين.
ستؤثّر تشكيلة البرلمان الأوروبي المقبل في مجريات الحرب في أوكرانيا، والعلاقة مع روسيا، وحتى على مسألة إمكانية ضم دول جديدة للاتحاد
وتشير الاستطلاعات، سواء في فرنسا أو في النمسا أو في بولندا أو في دول أوروبية أخرى، إلى فوز أحزاب اليمين المتطرّف في تسع دول، كما ستحتل أحزاب يمينية متطرّفة أخرى المرتبة الثانية أو الثالثة في تسع دول أخرى. وإذا تحققت هذه النتائج على أرض الواقع، سنشهد تشدّداً كبيراً في سياسات الهجرة، كما سيكون من الصعب على البرلمان الأوروبي فرض عقوبات على دول أعضاء لا تحترم حقوق الإنسان والحرّيات العامة.
وستؤثّر تشكيلة البرلمان الأوروبي المقبل أيضاً في مجريات الحرب في أوكرانيا، والعلاقة مع روسيا، وحتى على مسألة إمكانية ضم دول جديدة للاتحاد، أو استحالة ذلك وصعوبته، في وقت يتهيأ فيه الاتحاد الأوروبي إلى النظر في إمكانية استمرار تقديم المساعدات المالية لكييف أو تقليصها، كما سيطرح موضوع الدفاع الأوروبي المشترك على طاولة المحادثات، خصوصاً بعد أن أكّد ترامب أن الولايات المتحدة ستحمي الدول الأوروبية التي ستدفع لها الثمن.
وهناك استعجال في واشنطن وعواصم كبرى في أوروبا الغربية لاختيار أمين عام جديد لـ”الناتو”، وألا يكون هذا الملف جزءاً من المساومات داخل أروقة الاتحاد الأوروبي بعد الانتخابات البرلمانية الأوروبية المقبلة، أو أن يلقي بظلاله على قمة الذكرى السنوية الـ75 لتأسيس الحلف في واشنطن في يوليو/ تموز المقبل. وهناك اتفاق واسع على أن رئيس وزراء هولندا مارك روته هو المرشّح الأنسب لهذا المنصب مقارنة بآخرين من الجناح الشرقي للحلف، حيث يعدّ أكثر حذراً في خطابه حيال روسيا من دول أوروبا الشرقية، كما يمكنه التعامل مع تهديد موسكو، وكل من بايدن وترامب.