الحرب جنوب لبنان: إيران “دولتنا”؟

الحرب جنوب لبنان: إيران “دولتنا”؟

تحدّث الموفد الأميركي آموس هوكستين في زيارته الأخيرة للبنان عن تغيير النموذج الأمنيّ على طول الخطّ الأزرق على الحدود في جنوب لبنان. وعن ترتيبات للخروج من الحرب لا علاقة لها بأيّ هدنة في غزّة. صاحب قرار الحرب والسلم في لبنان أقفل الباب أمام كلّ ما طُرح في الفترة الأخيرة.

لم تغِب الدولة اللبنانية عمّا يجري على أراضيها يوماً، كما هي غائبة اليوم عن الحرب الدائرة على الحدود في جنوب لبنان. يكاد المراقب لا يرى لها أثراً:

ـ حرب مندلعة بين لبنان وإسرائيل في أقصى جنوب لبنان، لا ناقة للدولة فيها ولا جمل.

ـ فراغ في الكرسي الأوّل في البلاد، ومجلس نيابي غير قادر على الاجتماع لانتخاب رئيس.

ـ مجلس وزراء يحتاج إلى ألف وسيط ومبادرة للالتئام، وإن التأم فلا يقدّم ولا يؤخّر.

ـ مجالس بلدية منحلّة أو مشلولة، وفي أحسن الأحوال ممدّد لها. مناصب حسّاسة مشغولة بالوكالة وللضرورة، من مصرف لبنان وصولاً إلى قيادة الجيش.

ـ نازحون لا أحد يسأل عنهم أو ينبئهم بمصيرهم، وانهيار ماليّ يزيد الفراغ في الجمهورية فراغاً.

ـ عام دراسيّ لا يُعرف مصير جزء لا يستهان به من الطلّاب خلاله.

ـ موفدون دوليّون ووسطاء يأتون إلى البلد ويرحلون، وما من مسؤول واحد قادر على تقديم إجابة واحدة لهم تشذّ عمّا يقوله الحزب. منذ انخراطه في حرب مع إسرائيل دعماً وإسناداً لأهل غزة. ودون مشورة أحد ودون الوقوف على رأي أيّ من المكوّنات اللبنانية “الشريكة” في الوطن.

الدولة غائبة… كما لم تغِب يوماً

حتى في عزّ الحرب الأهليّة اللبنانية، لم تكن الدولة مستباحةً إلى هذا الحدّ. كما هو حاصل جنوب لبنان اليوم. انتُخب خلال الحرب الأهليّة تلك ثلاثة رؤساء للجمهورية اللبنانية وفي الموعد الدستوري المحدّد. وأحدهم انتُخب في عزّ الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة بيروت.

لم تغِب الدولة اللبنانية عمّا يجري على أراضيها يوماً، كما هي غائبة اليوم عن الحرب الدائرة على الحدود في جنوب لبنان
أكثر من ذلك، أبرم لبنان اتفاقية 17 أيار في عزّ الحرب تلك، و”ما كان بالإمكان أفضل ممّا كان”، على ما صرّح يومها أمير من أمراء الحرب وقتها… والسلم لاحقاً. أبعد من ذلك، لم تكن الدولة مفلسةً ولا مديونةً، وكان على رأس مؤسّساتها مَن في يده الحلّ والربط.

كان اللبنانيون موعودين بقيامة جديدة للوطن، وعودة للأمن. كانوا ينتظرون شيئاً ما، شيئاً يعيد إلى وطنهم الدفء والسلام. كانوا موعودين بشرعيّة ما وإن طال السفر.

أمّا اليوم، فما من مسؤول لبناني قادر حتى على تقديم وعدٍ واحد، أو بصيص أمل ما. عيون أهل الدولة على الحزب وما يقرّره حسن نصر الله. عيون الموفدين الدوليين كذلك. أمّا عيون السيّد فعلى جبهات كثيرة، ما أبعدها عن حدودنا! من باب المندب والبحر الأحمر وصولاً إلى إيران مروراً بالحدود المصرية الفلسطينية.

أمّا قرار السلم والحرب، فقد انتقل منذ زمان بعيد إلى يد النظام السوري، ومنه إلى وريثه الشرعي الحزب، الذراع السياسية والعسكرية الطولى لإيران في الإقليم.

والأنكى من ذلك أن لا بصيص أمل يلوح في الأفق. لا بوادر لتمخّضٍ ما تولد منه دولة. بل على النقيض من ذلك، المؤشّرات والمعطيات كلّها تفيد بأنّنا ممعنون في الذهاب إلى اللادولة. واللادولة في لبنان مرادف لدولة الحزب منذ عقود.

الخروج من الحرب ليس كدخولها

آخر المعطيات والمؤشّرات ما قاله موفد الرئيس الأميركي ومبعوثه الخاص ومهندس عملية الترسيم البحري جنوب لبنان مع إسرائيل، آموس هوكستين. وذلك خلال زيارته الأخيرة للبنان. قال بالفم الملآن وعلى مسامع اللبنانيين، كلّ اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين: أيّ هدنة في غزة لن تمتدّ بالضرورة إلى لبنان. يجب أن يتغيّر النموذج الأمنيّ على طول الخطّ الأزرق من أجل ضمان أمن الجميع. أي أنّ توقّف الحرب في غزة لا يعني بالضرورة توقّفها في جنوب لبنان.

الحرب

عليه، فإنّ دخول الحرب إسناداً لغزّة، لا يشبه البتّة الخروج منها. لا بدّ من ترتيبات لهذا الخروج، وهي ترتيبات لا شكّ سيضطلع بها الفاعلون في الحرب، وعلى طرفَي الجبهة، أي الحزب وإسرائيل.

حتى في عزّ الحرب الأهليّة اللبنانية، لم تكن الدولة مستباحةً إلى هذا الحدّ. كما هو حاصل اليوم
سبق هذا الكلام بأشهرٍ حديثٌ عن ترسيم برّيّ. وهو عمليّاً قائم، لكنّه حديث عن انسحاب برّيّ لإسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلّة وعلى رأسها مزارع شبعا يرمي إلى ترسيم أدوار ووظائف وتوزيع حصص.

مفردة ترتيبات التي تسبق الحديث عن انسحاب إسرائيلي من الأراضي اللبنانية المحتلّة. والحديث عن تغيير النموذج الأمنيّ اللبناني. فضفاضة وحمّالة أوجه واتفاقيات مباشرة أو غير مباشرة، تتخطّى الحدود، ولا شكّ أنّها تدخل في صميم الدولة.

الفرص المهدورة والآمال العريضة

من جهته الحزب لم يرفض هذا الكلام لا جملةً ولا تفصيلاً. جلّ ما صدر من قياديّيه والناطقين باسمه رسمياً ومواربةً. ومن أعلى الهرم حتى أسفله. أن لا خوض في هذه الأحاديث قبل توقّف الحرب الإسرائيلية على غزة.

إذاً لم يغلق الباب. بل على العكس من ذلك فتحه على مصراعيه. أكثر من ذلك أوحى أمينه العامّ في أكثر من خطاب بأنّ الانسحاب الإسرائيلي من مزارع شبعا اللبنانية جنوب لبنان تحصيل حاصل. وصارح اللبنانيين بفرصة جدّيّة يجب التقاطها والاستفادة منها.

كثرٌ يسألون عن الثمن. كثرٌ يظنّون الحزب جمعيةً خيريّةً تدفع الدم والسلاح لتحرّر الأرض ثمّ تحلّ نفسها تلقائياً. وبالتلقائيّة نفسها التي يفترضون من خلالها أنّه ما إن تتوقّف الحرب على غزة، ستتوقّف على لبنان ومنه.

هؤلاء بغالبيّتهم ينتظرون منذ زمن مآلات المفاوضات الإيرانية الأميركية ونتائجها. يظنّون أنّ ما لدى أميركا لتعطيه لإيران أغلى ممّا عند إيران! يعتقدون أنّ إطلاق يدها أميركياً مع الإفراج عن أموالها المحتجزة منذ عقود، أرجح في الميزان الإيراني. وأثقل من كفّة أذرع الجمهورية الإسلامية العسكرية والسياسية من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين.

إقرأ أيضاً: محور “لو كنت أعلم”.. ماضٍ بلا غد

كيفما رست الاتفاقيات الجديدة، ومهما ضاقت أو اتّسعت، جمهورية اللادولة التي نغالب فيها الشوق إلى الدولة، تحصيل حاصل للدويلة والمحور وجمهورية الملالي. ودولة كهذه هي دولة “ما علمنا وذقنا”، على ما يقول المؤرّخ أحمد بيضون.