تبدو خريطة الشرق الأوسط متغيّرة بفعل الأحداث المستمرّة منذ الاحتلال الأميركي للعراق، ويبدو أنّ نظريّة الفوضى الخلّاقة باتت مع مرور السنوات العشرين هذه واقعاً تعيشه المنطقة بأسرها، فمنذ أن انهارت الدولة العراقية بدأ ميزان القوى مختلّاً بالفعل بين المشاريع المتصارعة على دول العرب، فأصبح التحكّم الإيراني في الأوراق المحليّة أكبر بعشرات المرّات عمّا كان عليه أيام اجتياح بيروت على سبيل المثال، أو ما بين احتلال الكويت وسقوط نظام صدّام حسين. بات الشعب العراقي حالياً، بغالبية أفراده من العرب الشيعة، محكوماً بالعقلية الغيبية التي تستلهم الماضي لتقفز عن الحاضر من دون أملٍ منظور للمستقبل، والبقيّة من عربه السنّة أصبحت مقهورة في مدنها التي سُمح لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) باجتياحه مقدّمة لهدمها على رؤوس أهلها وتهجيرهم وقمع من بقي منهم. أمّا كُرده، وإن كانوا أفضل حالاً من عربه، فإنّهم محكومون بالفساد أيضاً، فبات كلّ شيء هناك حكراً على عائلات بعينها تحكم وتملك.
جاءت الثورة السورية على نظام الأسد فرصة على طبق من ذهب لحكّام إيران، فمن خلال دفع الحل العسكري نحو خياراته القصوى بمواجهة الشعب السوري، تمكّن الحرس الثوري الإيراني من الانتشار في أغلب مناطق سيطرة قوات النظام، كما مكّن المؤسّسات الإيرانية ذات الطابع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي من التغلغل في بنية الدولة والمجتمع السوريين. أضف إلى ذلك، بالتأكيد، تكريس هيمنة شبه كاملة على لبنان، بعد أن انسحبت السعودية وتركت حلفاءها التقليديين (عائلة الحريري) على قارعة الطريق من دون أي إسناد سياسي، بل ضيّقت عليهم اقتصاديًا أيضاً في خطوة غريبة أشبه بمن يطلق النار على قدميه. أمّا اليمن فعلى شفى الانهيار مع وقوع 14 مليون يمني تحت خطّ الفقر المدقع، وعدم قدرتهم على تأمين وجبة طعامٍ واحدة في اليوم، في حين تستمرّ الصراعات العسكرية وتتعزّز سيطرة الإيرانيين من خلال الحوثيين أكثر فأكثر على القرار اليمني. مفاوضات الولايات المتحدة أخيراً في عُمان مع إيران على وقف الهجمات في البحر الأحمر أحد الأدلّة الساطعة على ذلك.
قد تتدحرج الأمور بعد الحرب على غزّة ولبنان إلى دعم فكرة إعادة إخراج الجنوب السوري من تحت سيطرة النظام والإيرانيين
أما تركيا، صاحبة الإرث التاريخي الطويل في المنطقة، فقد باتت لاعباً له حضورٌ في العراق من خلال تفاهماتها مع حكّام إقليم كردستان العراق من جهة أولى، ومن خلال تدخّلها العسكري الذي تضع من خلاله بعض الخطوط التي تحدّ من سيادة العراق واستقلاله من جهة ثانية. وفي سورية، بات للأتراك القوّة العسكرية الأكبر في مناطق سيطرة المعارضة، وأصبح التأثير التركي في تلك المناطق ملحوظًا جدّاً، سواء على مستوى الإدارة أم الاقتصاد أم الخدمات، فالدوائر التابعة للحكومة المؤقتة ترفع العلم التركي إلى جانت العلم السوري، والولاة الأتراك هم من يديرون مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، وأصبحت مؤسّسات الاتصالات والبريد والمصارف والعملة وقطاعات الصحة والتعليم مربوطةً ربطاً شبه كلّي بالدولة التركية. يؤشّر الواقع الراهن إلى أنّ تركيا باتت من بين القوى الأكثر تأثيراً في المشهد السوري، وعلى فرض أن الحلّ بدأ في سورية اليوم، فلن يزول هذا التأثير إلا بعشرات السنين، إن لم يبق أكثر بحكم الثقل الجيوسياسي التركي على الجسد السوري الهشّ.
على المقلب الآخر، أصبحت إسرائيل أكثر حضوراً مما كان المرء يتخيّله عشيّة معاهدات كامب ديفيد أو وادي عربة أو أوسلو أو احتلال العراق. لقد تغلغلت إسرائيل في بنية الأنظمة العربية من خلال شبكة مصالح اقتصادية عملت على نسجها وترويجها بمساعدة حلفائها الغربيين، ومن خلال تعزيز فكرة انتهاء العداء بين العرب وإسرائيل، وتحوّل وجهته نحو إيران وتركيا. ساهمت الأنظمة العربية الحاكمة بهذا النصر الإسرائيلي الكبير، فقد فتحت أبواب التطبيع على مصراعيها أمام حكومات إسرائيل التي ما انفكّت تنحرف نحو اليمين المتطرّف باطّرادٍ مستمرٍّ لا نهاية له، حتى وصلنا إلى انتهاج سياسة حرب الإبادة الجماعية للقضاء نهائيّاً على الحقّ الفلسطيني في الوجود. إسرائيل حالياً في أوج عربدتها منذ تاريخ إنشائها كياناً غاصبًا قبل ثلاثة أرباع القرن، ولِمَ لا تكون كذلك وهي محميّة بالرعاية الأميركية الكاملة وبالدعم الأوروبي اللامحدود وبالتطبيع العربي المجّاني!
أصبحت الفوضى عنواناً للمنطقة، وصارت أحلام سكّانها محصورة بين الأمن ووجبة الطعام وشربة الماء
نحن الآن على أعتاب حرب جديدة في لبنان، فالتحضيرات لعمليّة “المرساة الصلبة” التي أعلنتها القيادة الإسرائيلية الأشد تطرّفّاً وإجراماً منذ تاريخ تأسيسها باتت واضحة للعيان. ثمّة تغيّرٌ في العقيدة الإسرائيلية للتعامل مع المخاطر المحيطة بهذا الكيان، فلم تعد مراكز الدراسات الإسرائيلية الأكثر التصاقاً بالمستويات السياسية العليا للحكم مثل “The Institute National Security Studies” تخفي هذا التوجّه. تتحدّد ملامح هذه العقيدة الجديدة من خلال مبدأ الفعل المباشر بعد أن كانت تعتمد مبدأ ردّ الفعل تجاه التهديدات القادمة من خارج الحدود. قد تتدحرج الأمور بعد الحرب على غزّة ولبنان إلى دعم فكرة إعادة إخراج الجنوب السوري من تحت سيطرة النظام والإيرانيين، فهذه المنطقة ستصبح، مع مرور الأيام، لإسرائيل مثل جنوب لبنان، أي تهديداً محتملاً مفاتيحُ ضبطه في طهران. لم تكن إسرائيل راضية عن الاتفاق الأميركي الروسي الذي سلّم رقبة قوات المعارضة السورية في الجنوب للنظام عام 2018، لكنها لم تمارس ما يكفي من الضغط لمنعه انطلاقًا من عقيدة ردّ الفعل السابقة. لكنّ روسيا لم تلتزم بتعهّداتها التي قطعتها بإبعاد الوجود الإيراني عن حدود إسرائيل، والأردن الذي سعى إلى هذه العودة يدفع الثمن حالياً، فالتهديدات على حدوده لا تقتصر على المخدّرات، بل هي ضغط متواصل على المملكة من الداخل عبر إغراقها بالسلاح وبالمخدّرات، وعبر إيجاد فئات مستفيدة من ذلك كلّه ضمن المجتمع الأردني.
أعادت الحروب تشكيل أغلب دول المنطقة، وما لم تطاوله نيرانها أودت به أجهزة القمع المخابراتية ودورات الفساد والإفقار الممنهج والاستبداد العائد بعد ثورات ربيع الشعوب العربية. أصبحت الفوضى عنواناً للمنطقة، وصارت أحلام سكّانها محصورة بين الأمن ووجبة الطعام وشربة الماء بعد أن كانت واسعة وسع بناء الدولة الواحدة الحاملة للأمّة العربية الكبرى!