يذهب العديد من دوائر القرار الغربية والعربية إلى أنّ خطر التهجير الجماعي للفلسطينيين (الترانسفير) لم يعُد قائماً، كما كانت عليه المخاوف في بداية الحرب على غزّة، لأسباب رئيسية، في مقدّمتها الإصرار الفلسطيني، رغم الكارثة الإنسانية الكبرى، على التمسّك بالأرض (ورأينا محاولات العودة إلى المناطق الشمالية في غزّة من آلاف الفلسطينيين وبقاء عشرات الآلاف هناك رغم انعدام كل شروط الحياة)، والرفض العربي الشديد، مصرياً وأردنياً، وعدم تقبّل المجتمع الدولي الأفكار الإسرائيلية بهذا الخصوص.
ومن المعروف أنّ سيناريو الترانسفير لم يكن خيالياً أو مجرّد “تحليل”، بل عُرض بالفعل، في الزيارات الأولى لوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن، على الدول العربية. وتذكُر روايات المسؤولين الأردنيين كيف أنّ الملك رفضه بصورة قاطعة، واعتبره “إعلان حرب” (المصطلح الذي استخدمه وزير الخارجية الاردني أيمن الصفدي علناً، لاحقاً، في الحديث عن أي ترانسفير إلى الأردن)، وعرض مسؤولون أردنيون على بلينكن أخذه في جولةٍ لرؤية المخيمات الفلسطينية منذ 1948 و1967، عندما قال إنّها فكرة مؤقتة حتى تقضي إسرائيل على حركة حماس هناك!
بالرغم من فرضية تراجع سيناريو الترانسفير، بل وتوقّف المسؤولين الإسرائيليين عن الحديث عنه علناً، وتراجع الإدارة الأميركية عن تبنّي فكرة “الترحيل المؤقت”، إلاّ أنّ الإطمئنان إلى فكرة انتهاء هذا الخطر ليست صحيحة، لأنّ السلوك الإسرائيلي في غزّة والضفة الغربية والقدس لا يزال يؤشّر على أمرين رئيسين: الأول، أنّ هنالك تسويفاً إسرائيلياً في غزّة وتدميراً متعمّداً للبنية التحتية، وإصراراً على اجتياح رفح، وقطع حبال الحياة في القطاع، فضلاً عن التصريح العلني بعودة الاحتلال ورفض عودة حكم “حماس” أو السلطة الفلسطينية، بل وإقامة خط عرضي يفصل وسط القطاع وشماله عن جنوبه، بحجّة تأمين المساعدات من الميناء البرّي إلى المواطنين، وهي سياسة خطيرة تعزّز المخطّطات الإسرائيلية، ما يعني أنّ التوجه الغالب على المسؤولين الإسرائيليين يتمثل في القيام بعملية الترانسفير الإجباري، أو التمهيدي، والتحضير للترانسفير الإجباري (يسمى اختيارياً) متوسّط المدى.
الأمر الثاني أنّ خيار التهجير هو الوحيد الذي يمثل الأفق الاستراتيجي للمشروع الصهيوني – الإسرائيلي في فلسطين، عاجلاً أم آجلاً، وإذا كان نتنياهو وبن غفير وسموتريتش وأفيغدور ليبرمان وغيرهم يصرّحون بذلك، فإنّ الأحزاب والتيارات الإسرائيلية الأخرى لا تختلف معهم على “الهدف النهائي”، وهو ما نجده جليّاً في مخطّطات تهويد القدس، التي تجري علناً، على قدمٍ وساق، وتوضع موازنات معلنة بالمليارات لتنفيذ ذلك، وحتى في الضفة الغربية التي يجرى تقطيعها وتمزيقها وإغراقها بالحواجز والمستوطنات وكل استراتيجيات اقتلاع الحياة والتهجير للفلسطينيين.
إذاً، من الخطأ الفادح التعامل اليوم مع خطر التهجير وفق فرضيتين: الأولى أنّه انتهى في الحرب على غزّة وجرى إحباطه، فهو لا يزال قائماً والخطط الإسرائيلية على أرض الواقع تؤكّد ذلك بما لا يدع مجالاً للشك. والثانية أنّه يمثل فقط مشروع اليمين الإسرائيلي، بل هو مشروع الهوية اليهودية للدولة، وهو الأمر الذي تسير السياسات الإسرائيلية جميعاً نحو تحقيقه من دون معارضة من المجتمع الدولي أو حتى الدول العربية.
هذه “ساعة الحقيقة” التي دقّت بخاصة لدى الفلسطينيين، في المناطق الأربع (غزّة، الضفة الغربية، القدس، ما يسمّى الداخل أو الـ48)، فهم جميعاً غير مرحّب بهم في “دولة إسرائيل” التي يحلم بها الإسرائيليون جميعاً.
الرسالة الإسرائيلية الكبرى في حرب الإبادة والتهجير والاعتقال والقتل والتجويع والاستيطان والتهويد في كل فلسطين أنّ ثمن بقاء الفلسطينيين هو حياتهم بالمعنى الحرفي للكلمة. وإذا كان هنالك طرفٌ آخر معنيّ بهذه الحقيقة فهو الأردن (بدرجة أقل مصر)، الذي يمثل سيناريو الترانسفير بالنسبة له ليس فقط “وطناً بديلاً” بل “نظاماً بديلاً”، والمعضلة الكبرى إذا كان هذا هو المشروع الإسرائيلي الاستراتيجي الوحيد على الطاولة. أما عن باقي الدول العربية فالجواب كان واضحاً في ثنايا الإبادة الحالية في غزّة.