يدخل السوريون، على اختلاف انتماءاتهم، عامهم الرابع عشر على بدء حراكهم، وتسود في الأفق فكرة واحد فحسب، وهي غياب أيّ أفق واضح للحل، وتشظّي الخلافات والصراع الهويّاتي المنتشر في عموم البلاد، بعد الاحتجاجات العاصفة التي بدأت سلمية في مارس/ آذار 2011، والتي تحوّلت إلى مسلّحة، ثم تشكيل مئات الكتائب والفصائل العسكرية. وللأمانة، كان التدخّل الروسي والإيراني أبرز العوامل التي أدّت إلى عسكرة الحراك السلمي المدني. لم ينجح ذلك كله في إسقاط النظام السوري، ولا الأخير بكل ما استعمله من قوّة ومساندة حلفائه بكل أشكال الممارسة العسكرية، لم يستطع إنهاء المعارضة السورية بشقّيها، العسكري والسياسي، لكنه نجح في حصرها في مناطق مُحدّدة، لينتهي المطاف بسورية بعد 13 عاماً إلى فرض حدود مصطنعة عليها، ومع أنها مؤقّتة وأمنية هشّة، ولم تتحوّل إلى حدود سياسية جغرافية رسمية، أو ما يُمكن تسميتها “حدود” الأمر الواقع وسلطته، لكنها تتّجه صوب شيءٍ من الثبات بعد تجميد الصراع والمعارك، فثمة ثلاث مناطق في سورية، مُختلفة عن بعضها كُلياً، حيث أجزاء كثيرة من البلاد لا تزال يتحكّم بها النظام في دمشق ويفرض عليها سياساته، تُعاني من مجاعةٍ واضحة. وتمكن النظام من فرض جيوب ونفوذٍ مختلف الامتداد والقوة له ضمن حدود المناطق الأخرى، كحال وجوده في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية”، من حيث المربّعات الأمنية، أو القرى العربية الموالية له، أو كتلة الموظفين، وسيطرته على واحدة من أغزر طرق التجارة والاستيراد من مناطق نفوذه صوب شمال شرق سورية، أو بعد توسيع نفوذه في مناطق شمال غرب سورية، والقريبة لمناطق نفوذ المعارضة.
وتسيطر تركيا، عبر فصائل من المعارضة السورية، على قطاعاتٍ من شمال غربي البلاد، وتشهد تلك المناطق أسوأ أنواع الفوضى من حيث الانفلات الأمني، وكثرة “الرؤوس” التي تصدر القرارات، وتشعّب مصادر تمويل حملة السلاح وتسليحهم، والفقر المدقع الذي يعانيه السوريون، حيث ينتشرون في الشمال الغربي من البلاد. أما مناطق نفوذ الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي، حيث الإنتاج الرئيسي للنفط والغاز والقمح، فهي الأخرى تتصف بسوء الخدمات والصراعات السياسية، والتهديدات التركية، والفقر والغلاء الفاقع للمعيشة.
الحدود الحالية ضمن سورية رسمها كل طرفٍ لنفسه، وهو أكبر محفّز لسلوك الخلاف والاعتراض لدى الأطراف الأخرى
وتشترك المناطق الثلاث بسجل أسود في مجال حقوق الإنسان والحريات، وهي في نزاع أو حرب باردة مع بعضها بعضاً، وفي حالة تبادل تجاري، بما يخدم الرساميل وتجّار الأزمات، فالعسكر المسيطر على شمال غرب البلاد ينتهز أي فرصة وأي ضوء تركي أخضر للانقضاض على أيَّ منطقة أو جزء جغرافي خاضع لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد). وتسعى السلطة في دمشق، مع حلفائها، إلى إعادة سيطرتها على مناطق نفوذ “قسد”، حيث منابع الطاقة وطرق نقلها، في حين أن “الإدارة الذاتية”، ورغم استمرارها في إصدار مشاريعها، ومنها العقد الاجتماعي الذي لم يُشارك فيه أيّ طرفٍ خارج سياق المنظومة السياسية الخاضعة لها، فهي الأخرى تعيش حيرة فرص البقاء وتحدّياته، أو المزيد من قضم مساحات سيطرتها، خصوصاً مع زيادة نقمة القواعد الاجتماعية في دير الزور والرّقة عليها، وعدم تقديمها الحدّ المطلوب من الخدمات في عموم مناطقها.
وأمام النار الخامدة والحرب الباردة بين تلك الأطراف، يُمكن القول إن فلسفة النزاع الدائرة حالياً قائمةٌ على أساس اللاتعايش، فالحدود الحالية ضمن سورية على سبيل المثال رسمها كل طرفٍ لنفسه، وهو أكبر محفّز لسلوك الخلاف والاعتراض لدى الأطراف الأخرى. وإذا كان ميزان الصراع العسكري يميل دوماً بالضد من “قسد” و”الإدارة الذاتية”، فإن سيطرتها على منابع الطاقة تُثير هي الأخرى جملة ضخمة من محرّكات العنف والرفض لوجود “الإدارة الذاتية” من الفواعل في دمشق وشمال غرب البلاد، خصوصاً مع حالة الفقر والوضع الاقتصادي المميت لديهم، والاعتقاد السائد هناك، وفقاً لمروياتٍ عديدة، بشأن الاستقرار الاقتصادي في مناطق شمال شرق سورية، نتيجة بيع النفط والمواسم الزراعية الوفيرة، وهي فكرة مغلوطة بطبيعة الحال، فكل سورية بما فيها شمال شرق البلاد في حالة صيام وجوع وفقر دائم.
يضعنا تحليل بيئة النزاع في سورية أمام خريطة غريبة وخطيرة للقوى والأطراف الفاعلة في الملف السوري
المشترك بين كل مناطق النفوذ المتشعّبة هو غياب إطار فعّال لإدارة التنوّع، ففي الشمال الشرقي، لا يجد الآشوريون والسريان، غير المنخرطين في “الإدارة الذاتية”، أيّ تعبير عنهم ككيان سياسي وهويّاتي فعّال، أو تعبيرهم عن هويّتهم كما هم يرغبون به، ويرى قسم كبير من العرب أنهم مغيّبون ومهمّشون من دائرة صناعة القرار ضمن “الإدارة الذاتية”. أما العرب الموالون لدمشق فهم في جبهة مواجهة باردة ومجمّدة ضد “الإدارة الذاتية”، والواصل إلى قراهم ومناطقهم يشعر بأن لا شيء قد حصل في سورية طوال الــ13 سنة. أما الكرد المعارضون لسياسات “الإدارة الذاتية” أو غير المنخرطين ضمن توجّهاتها، فهم غالباً ضمن مرمى نيران الآخر، من حرقٍ لمقرّاتهم، والاعتقالات، وصولاً إلى استمرار خطب الكراهية والعنف، والتصرّف على أساس أنهم “عملاء وخونة” لا غير.
أما في شمال غرب سورية، فتكثر مآسي المجتمع المحلي في عفرين، وعلى يد بعض فصائل المعارضة، ليكون هناك سقوط حرٌّ ومدوٍّ لكل قيم وأفكار الثورات، فالقصاص على الهويّة الكردية، والسعي إلى إنهاء أيّ وجود لأتباع الديانة الإيزيدية من أبناء الشعب الكردي، ما هي سوى تكرار لمآسي ومظلوميات ما قبل عام 2011، من دون إغفال الممارسات العنفية والسرقات ضد جميع فئات المجتمع السوري وشرائحه في عموم شمال غرب البلاد. أما حيث مناطق السلطة، فلا تنوّع ولا تعدّدية ولا وجود للآخر، ولا شيء سوى فكرة المؤامرة، وتسيّد العروبة على الجميع من دون أيّ استثناء.
إذا تمكّنت الأطراف الفاعلة من وضع حد نهائي للسلاح وآلة القتل في البلاد، ربما يبدأ السوريون حياتهم مُجدّداً
من جهة ثانية، يضعنا تحليل بيئة النزاع في سورية أمام خريطة غريبة وخطيرة للقوى والأطراف الفاعلة في الملفّ السوري. أولاً: الوجود الميداني والعسكري الموزّع على الخريطة السورية هو من نصيب الوجود الأميركي، الروسي، الإيراني، السوري، “قسد”، تركيا، فصائل المعارضة السورية، ووجود إنساني وقومي لإقليم كردستان العراق. ثانياً: ثمّة علاقات بين حزب العمّال الكردستاني والاتحاد الديمقراطي، وعلاقات بحدود دنيا بين “الإدارة الذاتية” والحكومة السورية على أساس الحوارات السابقة بينهم. ثالثاً: العلاقات المضاعفة والوطيدة هي بين إقليم كردستان العراق مع التحالف الدولي وروسيا وتركيا، والمعارضة السورية، وجبهة السلام والحرية والمجلس الكردي، وهذا الأخير مع الائتلاف الوطني لقوى المعارضة السورية وتركيا، وعلاقة “العمّال الكردستاني” مع قوات سوريا الديمقراطية، وعلاقة الأخيرة مع التحالف الدولي. رابعاً: في حين أن العلاقات الضعيفة هي من حصة “قسد” والإدارة الذاتية مع كلٍّ من روسيا وتركيا وإقليم كردستان والمجلس الكردي، وجبهة السلام والحرية، وغياب العلاقات أو التنسيق بين المجلس الكردي مع التحالف الدولي وروسيا وإيران والنظام. خامساً: أما حالة العداء فهي بين تركيا و”العمّال الكردستاني” ومرفوضة من روسيا وأميركا التي ترفض وجود إيران. وسادساً: علاقات النفوذ هي كالتالي: حزب الاتحاد الديمقراطي مسيطر على أحزاب “الإدارة الذاتية”، ونفوذ إقليم كردستان ضمن المجلس الكردي، والنفوذ الأميركي والتحالف مع “قسد”، ونفوذ تركيا ضمن المعارضة السورية، ومع الفصائل العسكرية في شرق الفرات وغربه، ونفوذ إيران وروسيا في سورية. وسابعاً: تقوم علاقات عدم التوافق وفق الخط البياني بين المجلس الكردي وجبهة السلام والحرية مع “قسد” وإيران وروسيا والنظام السوري، وبين كردستان العراق وإيران. و”العمّال الكردستاني” مع إقليم كردستان والمجلس الكردي وجبهة السلام والحرية.
الواضح أن الصراعات الجانبية والباردة بين الأطراف الخارجية ذات النفوذ في سورية (تركيا وأميركا وروسيا وإيران) تُشكل سببا من أعمق الأسباب التي أدّت إلى تشظّي اللوحة السورية وعدم توافق السوريين فيما بينهم. وأمام كل ما سبق من أنواع الصراع المختلفة، فإن أهم المضامين المشتركة وأكثرها في تلك النزاعات هو: صراع هويّاتي، ونفوذ على السلطة وطرق نقل الطاقة، اصطفاف سياسي وفقاً للفكر والخلفية السياسية، الشكل المقبل للمنطقة، ونوعية السلطة بالنسبة للجيران مثل تركيا والأردن وإقليم كردستان.
حالياً، ما يشترك به السوريون في عموم البلاد وخارجها هو الإحباط من ضياع وطنهم وسط أعنف الهزّات والصراعات التي فتتت بلادهم، وكانت مخالفة جذرياً لتوقعاتهم بشأن الحلول والوقت الذي استغرقته الحرب. وتالياً، الربط بين سقف التوقعات والمطالب من جهة، ومن جهة ثانية الواقع الذي نعيشه، مهّدا الطريق لمزيدٍ من اليأس وكل أشكال ردّات الفعل العنفية. وتالياً، الصراع الهوياتي في أوجه، خصوصاً مع تفسير سلوكيات الجماعات والكيانات العسكرية والسياسية تجاه الآخر المختلف، وهو ما يؤجّج المزيد من النزاع والصراع، من دون لحظة الوقوف عن القتل، وإذا تمكّنت الأطراف الفاعلة من وضع حد نهائي للسلاح وآلة القتل في البلاد، ربما يبدأ السوريون حياتهم مُجدّداً، وإنْ بوتيرة بطيئة بشدّة كبيرة، أو ربما يُفسَح المجال للعقل السوري في البحث عن كيفية صناعة السلام بينهم.