أقامت هيئة دراسات المستقبل يوم 19 ديسمبر/ كانون أول الجاري، وكعادتها في نهاية كل عام، يوماً دراسياً في معهد السلام العالمي في مدينة تورنتو في كندا، بحثت فيه الكارثة الإنسانية البشعة التي تعيشها سورية ويغالبها العراق. وكانت هذه “الهيئة” قد تأسست في العام 2002 من خمسة أساتذة أكاديميين معروفين في العالم، تخصصاتهم متنوعة في العلوم الاجتماعية، وانضم إلى الهيئة أربعة أعضاء جدد، وكنت أحد المشاركين في الندوة، بحكم عضويتي التأسيسية للهيئة منذ العام 2002 . وكان موضوع ندوة هذا العام 2015 تراجيدياً مؤلماً، ليس لما عرض فيه من معلومات وأرقام بالخسائر البشرية. ولكن، لما جرى بأعداد الأطفال القتلى والمشوّهين والضائعين والمحترقين، وما جرى من تفسّخ سريع في العلاقات الاجتماعية، وبالمآسي التي حلّت بالمرأة والعائلة وتفكّك نسيج المجتمع، أو بذاك العبث الصبياني الذي ارتكبه المسؤولون المتسلّطون، ومعهم الفصائل والمنظومات والمليشيات والمرتزقة والإرهابيون، مع مشاهد كلّ الدمار والخراب والحرق الذي حلّ بأغلب المدن، وانتهاكها مع الريف .. إلخ.
طرحت في جلسات الندوة تساؤلات مهمة، منها: ماذا ستغدو عليه الأوضاع إثر تداعيات هذه الكارثة التي تجتاح كلّاً من العراق وسورية بالذات؟ ولماذا يتفاقم هذا التنكيل بالإنسان بأقسى ما يمكن؟ ولماذا يتم سحق العراقيين والسوريين بمثل هذه الشراسة، على مسمع العالم ومشهده؟ ما حجم التفسّخ الذي حصل حتى الآن؟ وما السبيل إلى التهدئة؟ ما مسؤولية المجتمع الدولي في حدوث ما نرى؟ وما الذي يمكن فعله؟ أين أصوات الأحرار في هذا العالم؟ ولماذا لم يسمعها أحد؟ وما المصير الذي سيلحق ليس بالكيانات السياسية في المنطقة، بل بنسيج المجتمعات في كلّ من العراق وسورية؟
عرضت في ثلاث جلسات معلومات رسميّة موثّقة، كما عرضت صور وفيديوهات شواهد حية لما حلّ من خراب ودمار وبشاعات يندى لها الجبين. وبحثت الجلسة الأخيرة ثلاث ساعات مصير آلاف اللاجئين والنازحين والمشرّدين في الأرض، ودارت أسئلة محدّدة عن العهر الذي يمارسه المجتمع الدولي في منطقتنا العربية، وخصوصاً في العراق وسورية، وهو يشهد أبشع جريمة تمارس بحقّ البلدين العريقين الجارين، وفي ظلّ حكومتين فاسدتين ومستبدتين، ساهمتا في سحق البلدين وقتل الشعبين عن قصد وسبق إصرار، ودور كلّ منهما مشهود في إشعال الحرب الأهليّة الطائفيّة، تحت سمع العالم ورؤيته، فضلاً عن دور الجماعات المسلّحة والمليشيات والمرتزقة التي رعاها النظامان الحاكمان لإشعال تلك الحرب المقيتة.
لم تبدأ الحرب على العراق وقتل الناس والتدمير الإنساني في عام 2003، بل عاش ثلاث مراحل دمويّة عصيبة، تمثلّت الأولى بحرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، والتي فقد العراق فيها أكثر من ربع مليون إنسان، ثم بدأت حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت عام 1991 وسقط فيها آلاف العراقيين، وسحقت أميركا البنية التحتية العراقية بقصف طائراتها العراق، والتي أعقبها نظام عقوبات الأمم المتحدة وحجم الوفيات البشرية والموت الجماعي العراقي. ثم جاء الاحتلال الأميركي عام 2003 في لحظة تاريخيّة صعبة، إذ استخدمت مواد محظورة، كالكيميائيات والمعدّات الأساسية لنظام معالجة المياه، وكأنّ ثمّة خطّة مبيتّة عن جرائم الإبادة الجماعية ضدّ العراقيين، حسب الوثيقة السريّة لوكالة استخبارات الدفاع الأميركية (DIA)، والتي اكتشفها البروفيسور توماس نوجي في جامعة جورج واشنطن. وقد تأكد مشروع الإبادة الجماعية وثائقيّاً، إذ كشف عن “التفاصيل الدقيقة لطريقة “الإبادة” على مدى عقد، وأوجدت سياسة العقوبات “الظروف الملائمة لانتشار الأمراض على نطاق واسع، بما في ذلك انتشار الأوبئة واسعة النطاق”، وبالتالي “تصفيّة جزء كبير من سكان العراق”.
ودخل العراق في حرب أهليّة طائفيّة طاحنة، وصلت إلى ذروتها في العام 2006، وصولاً إلى 2015، والعراقيون يعيشون مأساة من التفخيخات والانفجارات الانتحارية والعبوات الناسفة والقتل بالكواتم، وصولاً إلى تمددّ داعش وسقوط الموصل وتوابعها والحرب معها. هذا يعني أنه، في العراق وحده، والحرب التي تقودها الولايات المتحدة بين 1991-2003 قتل 1.9 مليون عراقي لأسباب شتى. ثم اعتباراً من العام 2003، كما شرد وهرب من العراقيين قرابة خمسة ملايين على مدى أكثر من عقدين.
اقترفت جرائم إبادة جماعيّة ضد العراقيين، ولم يسكتها أحد، ولم يعارضها أحد. ويستغرب كلّ المؤمنين بحقوق الإنسان عن سكوت المجتمع الدولي، وفي الصدارة منه الولايات المتحدة، وخصوصاً عن الجرائم البشعة التي ارتكبت، ولم يسمع العالم حتى اليوم أية ادانات حقيقية لما يتمّ في المنطقة، خصوصاً وأن الولايات المتّحدة كانت المسبّبة في فتح الأبواب والحدود أمام كلّ المنظمات الإرهابية التي عبثت دموياً بكلّ من سورية والعراق، إذ كان العراقيون، وما زالوا، يعيشون مأساة حقيقيّة منذ العام 2003، بحيث استقبلت النجف وحدها 40000 من الجثث منذ بدء الحرب. ووفقاً لوثائق كشف عنها، فإن 655000 حالة وفاة سجلت في العراق حتى عام 2006 (ويستقرئ أحد المراقبين أن أكثر من مليون نسمة عراقي خسره العراق حتى اليوم).
أما سورية، فقد بدأت المأساة فعلاً في العام 2011، عندما لم يحسن “النظام الحاكم” التعامل السياسي الذكي مع أبناء شعبه سلماً، لتأمين مصالحه الوطنية، ولكنه عامله معاملة الأعداء. لعلّ من أهم ما يمكن الوقوف عنده تلك “التقارير” التي تتضمّن أعداداً مخيفة للقتلى على مدى خمس سنوات في سورية، فهل ماتت الضمائر والناس تسمع وتراقب ما يحدث في سورية، إذ بلغ عدد القتلى السوريين إجمالاً في العام 2011 (7,841). في العام 2012 (49,294). في العام 2013 (73,447). في العام 2014 (76,021). في العام 2015 (50,496). المجموع 257, 79 قتيلاً.
خسرت سورية في خمس سنوات أكثر من ربع مليون إنسان، وفي أكبر جريمة ارتكبت بحق السوريين، وبحق تاريخ سورية والأمّة قاطبة، وخسر العراق على امتداد ثلاثين سنة من تاريخه المعاصر ضعف هذا العدد. وعليه، فإنّ الانسحاق لكلّ من البلدين الجارين جاء متزامناً ومكمّلاً بعضه الآخر.
ساهمت في صنع النكبة التي حلت بالبلدين سياسات بليدة ومجرمة وطائفية، وانتهك الزعماء والمسؤولون في البلدين كل مبادئ الشرعية والوطنية وحقوق شعبيهما، بتغذيتهما الإرهاب، ناهيكم عن مؤامرات حيكت في السر والعلن، ليغدو كل من العراقيين والسوريين مادة دسمة للاستلاب، ودفع الشعبان ثمناً باهظاً في تاريخه اليوم، وبدا كل منهما لا يعرف مصيره.
جرى تحليل لتقرير “بي إس آر”، وتصريحات هانز فون سبونيك، مساعد الأمين العام السابق للأمم المتحدة، وطرح أن الكشف عن أعداد القتلى والمفقودين تعد مساهمة كبيرة في إشعار الرأي العام بخطورة الموقف، خصوصاً وأن التقديرات الموثوقة لضحايا الحرب، وخصوصاً المدنيين في العراق وسورية، ستعمل على تضييق الفجوة بين الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات العريقة واللا أبالية الدولية، مع استهتار العالم بأرواح آلاف البشر في مجتمعاتنا، مقارنة بثائرتهم وهياجهم بسقوط واحد أو اثنين منهم في بلدانهم. ويبدو أنّ العالم لا يعنيه الإرهاب الذي ترعرع في ظلّ سياسات معيّنة، واستراتيجيات مرسومة، ولأهداف مبيّتة.
نجحت ندوة هيئة دراسات المستقبل في تورنتو، فقد فتحت ثغرات خطيرة ومعالجة بعض المشكلات الممنهجة من بعض السياسات، ومنحت فرصة مهمّة للمشكلة التي يعاني منها كلّ من العراق وسورية، وأنها دفعت رسالة إلى المجتمع الدولي، متسائلة عن مصير كلّ من البلدين العريقين.
سيار جميل
صحيفة العربي الجديد