إذا استعاد حزب الرئيس التركي السيطرة على إسطنبول من المعارضة في 31 آذار/مارس، فقد يشعر بغبطة من رخاء البال لكي يركز على خطوات أكثر إيجابية لبناء إرثه، لكن الخسارة قد تجعله يضاعف سياساته القومية والشعبوية داخل البلاد وخارجها.
في 31 آذار/مارس، سيتوجه حوالي 58 مليون ناخب تركي مسجل إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية على مستوى البلاد لاختيار رؤساء البلديات لما يقرب من 4000 مدينة وبلدة صغيرة، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من أعضاء مجالس المدن والمقاطعات وغيرهم من المسؤولين المحليين. ولن يكون للنتيجة تأثير مباشر على حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. لكن مع إدلاء الناخبين بأصواتهم في جميع أنحاء البلاد، تشكل الانتخابات المحلية مؤشراً للسياسة الوطنية في تركيا، أي ما يعادل الانتخابات النصفية الأمريكية.
وعلى هذا النحو، ستساعد الانتخابات أردوغان على تقرير ما إذا كان يمكنه ببساطة البدء بتجاهل منافسيه في هذه المرحلة. ففي الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أجريت في أيار/مايو 2023، هزم المعارضة وهي تحالف من ستة أحزاب تشمل الطيف السياسي، بما في ذلك “حزب الشعب الجمهوري” الذي هو المعارض الرئيسي. وقد رسخ هذا الانتصار حكمه على رأس السلطة في تركيا، وإذا تمكن من هزيمة المعارضة مجدداً في 31 آذار/مارس، فقد يستنتج أنه لم يعد لديه منافسون شرعيون. وسيسمح له ذلك بالشروع بمرحلة بناء الإرث في مسيرته، أي معالجة المشاكل في الداخل (على سبيل المثال، من خلال متابعة “الانفتاح الكردي” أو الحوار مع المجتمع الكردي في البلاد) مع تبني دور أكثر دولية في السياسة الخارجية (على سبيل المثال، مواصلة تطوير علاقات أنقرة الأخيرة مع جيرانها كاليونان؛ ومتابعة إعادة ضبط محتملة مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بسوريا).
لكن إذا لم يتمكن مرشحو الرئيس من انتزاع إسطنبول والمدن الرئيسية الأخرى من المعارضة، فمن المرجح أن يخرج أردوغان من الانتخابات وهو يشعر بالضعف السياسي. بالإضافة إلى ذلك، إذا تغلب عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي هزم مرشح أردوغان في الانتخابات المحلية لعام 2019، على المرشح الحالي للرئيس مراد كوروم، فهذا من شأنه أن يدفع الرئيس التركي إلى الصدارة السياسية باعتباره “السياسي النجم الذي يمكنه التغلب على أردوغان”. ومن خلال هذا التطور، سيظهر إمام أوغلو كمنافس موثوق لأردوغان نفسه، مما يعزز زخم الكتلة المناهضة لأردوغان في البلاد. وفي هذه الحالة، قد يسعى أردوغان إلى تعزيز قاعدته ومنع المعارضة من زيادة دعمها من خلال تكثيف السياسات القومية/الشعبوية محلياً ودولياً.
أهمية اسطنبول
تسيطر المعارضة حالياً على ثلاث أكبر مدن في تركيا، وهي: إسطنبول وأنقرة وإزمير. لكن إسطنبول هي الأكبر على الإطلاق، وتظل العاصمة الاقتصادية والمالية والثقافية للبلاد، وبالتالي تبرز باعتبارها الجائزة الكبرى في الانتخابات. وإذا تمكن كوروم من إعادة انتزاع هذه الجائزة من إمام أوغلو، فسيستنتج الناخبون أن أردوغان فاز في الانتخابات، حتى لو فشل مرشحوه في انتخابات المدن الكبرى الأخرى. وفي المقابل، إذا احتفظ إمام أوغلو بإسطنبول، فسيُنظر إليه على أنه هزم أردوغان بمفرده، مما يجعله منافساً للرئيس. وفي الوقت الحالي، تُظهر استطلاعات الرأي أن المنافسة متقاربة في المدينة، حيث يتقدم إمام أوغلو على كوروم بفارق بسيط.
وإلى جانب أهمية إسطنبول الرمزية في انتخابات 31 آذار/مارس، لدى أردوغان مصلحة في الفوز في انتخابات المدينة لأسباب شخصية ومالية. فقد وُلد ونشأ فيها، ودخل معترك السياسة الوطنية في عام 1994 كعمدة للمدينة قبل أن يصبح رئيس وزراء تركيا في عام 2003 ورئيس البلاد في عام 2014. ويَعتبر إسطنبول “مدينته”، وركناً أساسياً من “سِمة” أردوغان، وبالتالي فهو حريص على انتزاعها من إمام أوغلو.
كما تتمتع إسطنبول بثقل اقتصادي كبير بالنسبة للرئيس. فالمدينة، التي تمثل ما يقرب من نصف القاعدة الضريبية في تركيا وحوالي ثلث ناتجها الاقتصادي، هي بمثابة آلة لكسب المال. فمشاريع البناء والعقارات والتجديد الحضري المحلية (على سبيل المثال، هدم المباني المعرضة للزلازل لبناء هياكل مقاومة للزلازل) تولّد مبالغ كبيرة من المال، ويريد أردوغان إتاحة هذه الأموال لمؤيديه والشركات التي تدعمه. من هنا، فإن الفوز بعمدة إسطنبول يعني كل شيء بالنسبة له.
مساران محتملان
إذا فاز إمام أوغلو على الرغم من المزايا المختلفة التي يتمتع بها أردوغان (على سبيل المثال، السيطرة شبه الكاملة على وسائل الإعلام)، ستنكشف نقاط ضعف الرئيس، وقد يشهد رئيس البلدية المعاد انتخابه صعوداً سريعاً. وفي هذا السيناريو، سيكون الإجراء المضاد الذي سيلجأ إليه أردوغان هو الاستقطاب السياسي. وتحقيقاً لهذه الغاية، قد يطلق مناقشة حول دستور جديد يتضمن تعديل “القيم العائلية”، بحيث يحدد الزواج حصراً كاتحاد بين رجل وامرأة، من أجل حشد الناخبين اليمينيين. وقد يخفض الدستور الجديد أيضاً عتبة الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة إلى 40 في المائة، وهو أمر يسهل على أردوغان تحقيقه أكثر من تحقيق الأغلبية. وفي إطار الاستراتيجية التي سيعتمدها أردوغان للفوز بهذا الاستفتاء، قد يتبنى أيضاً تحولاً صارماً في السياسة الخارجية، مستفيداً من قضايا مثل المشاعر المعادية للغرب، والحرب في غزة، والعلاقات مع الولايات المتحدة لحشد الناخبين اليمينيين. ومن المرجح أن يشبه هذا النهج السياسة التركية في الفترة 2013-2019 تقريباً، عندما أكد أردوغان على السياسات القومية/الشعبوية داخل البلاد وخارجها.
لكن إذا خسر إمام أوغلو، من المرجح أن يقوم أردوغان بتعديل حساباته السياسية وتوجيه تركيا في اتجاه مختلف. أولاً، سيؤدي فوز كوروم إلى تعطيل المسيرة السياسية لإمام أوغلو، وبالتالي سيقضي على الأرجح على التهديد الذي يمثله هذا الأخير للرئيس التركي. فضلاً عن ذلك، فإن “حزب الشعب الجمهوري”، المعارض الرئيسي، سيخسر مصدراً رئيسياً للإيرادات وشبكات الزبائنية في إسطنبول، بينما سيتخلى العديد من عناصر حركة المعارضة الأوسع في البلاد ببساطة عن فكرة التصويت لإخراج أردوغان من الحكم. وبناءً على ذلك، سيخرج الرئيس من الانتخابات وهو يعتقد (عن حق) أنه ليس لديه تقريباً أي معارضة قادرة على الاستمرار ليقلق بشأنها، مع استثناء ملحوظ هو “حزب الرفاه الجديد” الإسلامي الصغير بل المتشدد، والذي يمكن أن يتحدى “حزب العدالة والتنمية” اليميني.
كما أن فوز أردوغان في إسطنبول سيسمح له بدخول مرحلة بناء الإرث في مسيرته، علماً أنه يحكم تركيا منذ عام 2003. فهو يريد أن يتذكره الناس كرجل دولة محبوب، وليس كسياسي مثير للاستقطاب. وإذا تصرف وفقاً لذلك بعد فوزه في الانتخابات في إسطنبول، فبإمكان أردوغان أن يتجاوز الحروب الثقافية التي انخرط فيها غالباً لتعبئة قاعدته، بل ويمكنه حتى احتضان مجموعات متنوعة كثيراً ما كان يعمد إلى شيطنتها في الماضي، مثل الناخبين العلمانيين واليساريين. بالإضافة إلى ذلك، قد يمكّنه هذا السيناريو من طرح حزمة تعديلات دستورية من شأنها إطالة فترة ولايته. ولكن بخلاف سيناريو “الخسارة تؤدي إلى الاستقطاب السياسي” الذي تم وصفه سابقاً، فقد يسعى أردوغان المنتصر في المقابل إلى تحقيق إجماع انتخابي أوسع نطاقاً من أجل تغيير الدستور، بما في ذلك التواصل مع المجتمع الكردي.
وفي الواقع، هنا تأتي المشكلة الكردية المحيرة في تركيا، حيث من المرجح أن يتخذ أردوغان خطوات لمعالجة التحدي السياسي الأكبر الذي تواجهه البلاد في الوقت الحالي. فقد نفذت أنقرة مؤخراً استراتيجية ناجحة لمكافحة الإرهاب من أجل إلحاق الهزيمة بـ “حزب العمال الكردستاني”، المصنف من قبل الولايات المتحدة على قائمة الكيانات الإرهابية. وبعد أن كان يضم آلاف المقاتلين المسلحين داخل تركيا، شهد “حزب العمال الكردستاني” انحسار قوته المحلية إلى بضع مئات من المقاتلين بفضل استراتيجية الحكومة الناجحة في مكافحة الإرهاب. إلّا أنه لم يتم بعد التوصل إلى حل سياسي للمشكلة الكردية. ففي هذه المرحلة، تقتصر مطالب الجماعات المؤيدة للأكراد على بعض الحقوق المتعلقة باللغة الكردية (كما هو الحال في التعليم) والاعتراف برؤساء البلديات المنتخبين من “حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” المؤيد للأكراد.
ومن المثير للاهتمام أن “حزب المساواة وديمقراطية الشعوب”، الذي ربما يترقب أن يمد له الرئيس أردوغان غصن الزيتون، لن يدعم إمام أوغلو في 31 آذار/مارس، على عكس ما حصل في الانتخابات السابقة حيث دعمت الأحزاب المؤيدة للأكراد السياسي الذي رشحه “حزب الشعب الجمهوري”، إذ قرر الحزب بدلاً من ذلك ترشيح مرشحه الخاص. وقد يكلف هذا التطور إمام أوغلو الانتخابات على رئاسة البلدية من خلال استبعاد عدد كبير من الناخبين الأكراد (حوالي 10 في المائة من ناخبي المدينة وفقاً للتقديرات) وتأمين النصر لكوروم.
إن التقارب بين أردوغان والمجتمعات الكردية التي تدعم “حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” سيكون له تداعيات خارج حدود البلاد، لا سيما في ظل الاحتمال المتزايد على ما يبدو للانسحاب الأمريكي من سوريا. فمنذ عام 2014، دخلت الولايات المتحدة في شراكة مع قوات من “وحدات حماية الشعب” الكردية السورية، وهي فرع من “حزب العمال الكردستاني”، لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. وعلى الرغم من أن “وحدات حماية الشعب” اندمجت في “قوات سوريا الديمقراطية” في عام 2015، إلّا أن هذه الشراكة لا تزال تثير غضب أنقرة. ومن المرجح أن تصبح علاقة واشنطن مع “وحدات حماية الشعب” أقل وضوحاً، إن لم تنتهِ تماماً، في حال انسحاب الولايات المتحدة من سوريا. وبغض النظر عما ستؤول إليه سياسة الولايات المتحدة في سوريا، ستصبح قضية “وحدات حماية الشعب” أقل ضرراً على العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا إذا وافق “حزب العمال الكردستاني” على أن يتم حله ونزع سلاحه وانسحابه بالتالي من تركيا دون قيد أو شرط رداً على بادرة من أردوغان تجاه الأكراد.
الخاتمة
تظهر استطلاعات الرأي أن إسطنبول ستشهد سباقاً تنافسياً في 31 آذار/مارس. وعلى الرغم من أن المنافسة تقتصر من الناحية الفنية على عمدة المدينة فحسب، إلا أن النتائج سيكون لها تداعيات كبيرة على الصعيد الوطني، حيث قد يكون إرث أردوغان ومستقبل العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا على المحك.