يوضح التقرير الأخير “للوكالة الدولية للطاقة الذرية” لماذا يتعين على الغرب أن يعيد التركيز على برنامج طهران النووي، الذي يستمر في التوسع حتى مع تراجع الإرادة الدولية للتصدي له على ما يبدو.
لا تمثل الضربات التي تشنها الميليشيات الوكيلة لإيران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط التصعيد الوحيد الذي بدأته إيران منذ هجوم حركة “حماس” على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، إذ عمد النظام أيضاً إلى تصعيد أنشطته النووية في الداخل. وتتزامن هذه التطورات في المجال النووي مع اتخاذ طهران موقف أكثر تشدداً في سياستها الداخلية، وتجاهلها المتزايد للتحذيرات الأمريكية، واصطفافها المتزايد إلى جانب روسيا والصين، كما يتضح من ارتفاع مبيعاتها من النفط إلى بكين والمعدات العسكرية إلى موسكو.
ورداً على ذلك، اتخذ شركاء الولايات المتحدة الإقليميون إجراءات احتياطية، إذ قامت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بتطبيع علاقاتهما مع طهران وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، فيما ضاعفت الرياض اهتمامها بكل من البرنامج النووي المدني ومعاهدة الدفاع الأمريكية. وترجع هذه الإجراءات، جزئياً على الأقل، إلى ردود الفعل الأمريكية والأوروبية الضعيفة على التصعيد الإيراني، بما في ذلك التصريحات المتواضعة وغير المنسقة حول الملف النووي وردود الفعل غير الحاسمة على هجمات الميليشيات الوكيلة. فمن أجل ثني إيران عن تكثيف مساعيها لتطوير الأسلحة النووية، سيتعين على واشنطن وشركائها اعتماد نهج أكثر صرامةً واتحاداً.
أحدث التطورات النووية
للوهلة الأولى، قد يبدو العنوان الرئيسي للتقرير الأخير الصادر عن “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” مشجعاً. فقد خفضت إيران مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60 في المائة خلال الفترة المشمولة بالتقرير والممتدة من تشرين الثاني/نوفمبر 2023 حتى شباط/فبراير 2024 (للاطلاع على شرحٍ لمصطلحات التخصيب، الرجاء مراجعة هذا الرسم البياني لمعهد واشنطن أو قائمة المصطلحات النووية الإيرانية المرتبطة به). لكن هذه النتيجة حجبت الصورة الأكبر التي ليست وردية على الإطلاق.
في الواقع، زادت إيران مخزونها الإجمالي من المواد المخصبة وضاعفت “معدل” إنتاجها من اليورانيوم بنسبة 60 في المائة. وقد حدث الانخفاض في مخزونها بنسبة 60 في المائة لأن طهران “خفضت تركيز” بعض هذه المواد في الوقت عينه إلى 20 في المائة، مما أدى إلى إنشاء مخزون كبير من المواد التي يمكن تعزيزها من جديد إلى 60 في المائة أو أكثر بسرعة كبيرة نسبياً نظراً لنشر النظام المتزايد لأجهزة الطرد المركزي المتطورة. وتتمثل النتيجة النهائية لهذه الخطوات في أن إيران أصبح بإمكانها الآن إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة لصنع قنبلة نووية واحدة في أسبوع واحد فقط، وما يكفي لإنتاج سبعة أسلحة نووية في شهر واحد. بعبارة أخرى، يمكنها إنتاج ما يكفي من المواد لصنع قنبلة قبل أن يكتشف المفتشون جهودها هذه.
بطبيعة الحال، ستحتاج إيران إلى المزيد من الوقت – حوالي ستة أشهر بحسب بعض التقديرات – لتحويل اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة إلى سلاح قابل للاستخدام. لكن ذلك يجب ألا يطمئن صناع السياسات كثيراً. فإلى جانب تقدمها النووي، تضيّق طهران تعاونها مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” بشكلٍ مطّرد. وقد رفضت تقديم إجابات قابلة للتصديق على أسئلة الوكالة حول الأنشطة النووية غير المعلنة في المواقع النووية المشتبه بها، بما في ذلك العديد من المواقع التي كشفت عنها “الأرشيفات النووية” التي أخرجها عملاء إسرائيليون بشكلٍ سري من الجمهورية الإسلامية في عام 2018. كما قامت أيضاً “بإلغاء تصنيف” محققي “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” المخضرمين ولم تخطر الوكالة مسبقاً ببناء منشأة نووية جديدة. ويدعو ذلك للقلق بشكلٍ خاص نظراً لإمكانية استخدام منشأة جديدة أخرى، مدفونة على عمق كبير بالقرب من نطنز، في الأعمال المتعلقة بالأسلحة النووية.
ونظراً لكل هذه العوامل، بدءً من حجم مخزون إيران من اليورانيوم ووصولاً إلى تطوّر قدراتها على التخصيب وتقليص تعاونها مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” وعملها القائم في مجال التسليح، قد لا يكون لدى الولايات المتحدة والجهات الفاعلة الأخرى الوقت الكافي لمنع النظام من إنتاج سلاح نووي فعال إذا قررت طهران اتباع هذا المسار. وقد تؤدي السرية المتزايدة التي تحيط بإيران إلى تشويش الصورة الاستخباراتية الأمريكية، مما يجعل من الصعب على المحللين تزويد الرئيس الأمريكي بتحذيرات دقيقة بشأن أنشطة النظام ونواياه النووية. وبطبيعة الحال، قد تختار طهران البقاء عند عتبة الأسلحة النووية بدلاً من تجاوزها. ولكن في المقابل، قد يتشجع القادة الإيرانيون من خلال نجاحهم في عرقلة المفتشين، وتوسيع البرنامج دون عوائق نسبياً، وتعزيز قبضتهم المتشددة في الداخل بعد قمع الاحتجاجات الحاشدة. وفي هذا السيناريو، قد تقرر إيران المضي قدماً في مساعيها لتصبح الدولة العاشرة في العالم التي تمتلك أسلحةً نووية.
ردود غربية غير كافية
أطلق التقرير الأخير الصادر عن “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” عدة تحذيراتٍ صارخة في هذا الصدد. ففي تكرار لأحد التقييمات السابقة للوكالة الأكثر إنذاراً بالخطر، ذكر التقرير أن المسؤولين “فقدوا استمرارية المعرفة فيما يتعلق بإنتاج وجرد أجهزة الطرد المركزي، والدوارات والمنافيخ، والمياه الثقيلة ومركزات خام اليورانيوم”، مع الإشارة إلى أن “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” ستواجه على الأرجح صعوبةً في تقديم صورة واضحة عن الأنشطة النووية الإيرانية حتى لو استؤنف التعاون. وأكد تقرير مصاحب أيضاً على مصدر قلق جديد: “إن التصريحات العلنية التي صدرت في إيران بشأن قدراتها الفنية على إنتاج الأسلحة النووية لا تؤدي إلا إلى زيادة مخاوف المدير العام بشأن صحة إعلانات الضمانات الإيرانية واكتمالها”. ويُقصد على الأرجح بـ “التصريحات” قيد الدرس التفاخر العلني الذي أظهره رئيس البرنامج النووي الإيراني السابق علي أكبر صالحي في أوائل شهر شباط/فبراير الماضي بادعائه أن النظام يمتلك أساساً كافة المكونات التي يحتاجها لصنع سلاح نووي ولكنه ببساطة لم يجمعها بعد.
وتنبع ثقة طهران جزئياً من واقع أن الولايات المتحدة ودول الثلاثي الأوروبي الشريكة لها، أي بريطانيا وفرنسا وألمانيا، لم تردّ بشكلٍ حازم على تحذيرات “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” المتكررة. فبعد صدور التقرير السابق للوكالة في العام الماضي، اكتفت هذه الدول في المعظم بالإعلان عن ضرورة استئناف إيران تعاونها مع المفتشين، والتراجع عن تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المائة، والامتثال لـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”. ويوضح التقرير الأخير أن إيران فشلت في اتخاذ أي من هذه الخطوات. لكن الولايات المتحدة ودول الثلاثي الأوروبي استجابت مرةً أخرى بتحذيراتٍ شفهية غير منسقة على ما يبدو، وإن كانت ملموسةً بشكلٍ أكبر.
وأشار الثلاثي الأوروبي على وجه التحديد إلى أنه “في غياب التقدم الحاسم والجوهري، يجب أن يكون [مجلس محافظي «الوكالة الدولية للطاقة الذرية»] مستعداً لاعتماد قرار آخر في اجتماعه المقبل، والنظر في الإجراءات المستقبلية وفقاً للضرورة”. وقدمت واشنطن رداً خافتاً أيضاً، مشيرةً إلى أنها ستطلب “تقريراً موجزاً شاملاً” عن انتهاكات إيران لاتفاقية ضمانات “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” إذا لم يتم إحراز أي تقدم. (يُفترض أن يشبه هذا الموجز ذلك الذي صدر في كانون الأول/ديسمبر 2015 بشأن أنشطة إيران المشتبه بها في مجال الأسلحة النووية). والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة وإيران عقدتا محادثاتٍ سريةً في كانون الثاني/يناير ربما تطرقت إلى القضية النووية. وإذا كان الأمر كذلك، فلم تسفر هذه المحادثات عن انضباط الجانب الإيراني.
وكما كان الحال في الماضي، صدرت بيانات الولايات المتحدة والثلاثي الأوروبي بشكلٍ منفصل وحذرت من تدابير مختلفة، مما يشير إلى وجود فجوة عبر الأطلسي بشأن القضية النووية. ومن المؤكد أن الشركاء قادرون على إظهار وحدة الهدف بشأن إيران، كما رأينا في بيان مجموعة الدول السبع الصادر في 15 آذار/مارس والذي حذر النظام من أنه سيتم اتخاذ تدابير “جديدة وملحوظة” في حال عمد إلى نقل الصواريخ البالستية إلى روسيا. ويظهر عدم التنسيق بشأن القضية النووية مدى تراجعها كأولوية وسط المخاوف المتبادلة على عدة جبهات، بما في ذلك الحربين في أوكرانيا وغزة، واحتمال نشوب صدام مع الصين بشأن تايوان، وخيارات السياسات الضئيلة وغير المستساغة على نحو متزايد مع تقلص فترة تجاوز إيران للعتبة النووية. لكن من خلال تهميش هذه القضية وتقديم جبهة منقسمة، قد يساهم الشركاء في تشجيع تلك العناصر في طهران التي قد تعتقد أن النظام قادر على إنتاج أسلحة نووية من دون إثارة رد فعل غربي كارثي. وقد يؤدي استمرار الانقسام الغربي أيضاً إلى دفع الشركاء الإقليميين المحبطين إلى السعي وراء استراتيجيات تحوط إضافية، بما في ذلك في المجال النووي.
الخطوات التالية
من أجل ردع إيران عن تنفيذ المزيد من الأنشطة المتعلقة بالأسلحة النووية، يتعين على إدارة بايدن وشركائها في الثلاثي الأوروبي النظر في سلسلة من الإجراءات المشتركة. وبالإضافة إلى فرض المزيد من التكاليف الملموسة على طهران، قد تكون هذه الإجراءات السبيل الوحيد لتجنب اتخاذ قرار مصيري بشأن ضربات عسكرية محتملة على إيران.
الإجراء الدبلوماسي:
تبني قرار في الاجتماع المقبل لمجلس محافظي “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” يدين إيران لعدم تعاونها مع الوكالة أو الوفاء بالتزاماتها بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
مطالبة “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” بإعداد تقرير شامل يلخص انتهاكات طهران للضمانات، واستخدام هذه الوثيقة كأساس لإحالة إيران إلى مجلس الأمن الدولي لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
حث مسؤولي الثلاثي الأوروبي إما على تنفيذ بند “إعادة فرض العقوبات” المنصوص عليه في “خطة العمل الشاملة المشتركة” أو التحذير من أنهم لن يسمحوا بانتهاء مفعول هذا البند كما هو مقرر في تشرين الأول/أكتوبر 2025 ما لم تتراجع إيران عن أنشطتها النووية.
الترويج لواقع أن الولايات المتحدة ومجموعة الثلاثي الأوروبي والدول الشريكة الأخرى تعمل بشكلٍ مشترك وناشط على التخطيط لحالات الطوارئ لمواجهة احتمال تجاوز إيران للعتبة النووية.
الإجراء الاقتصادي:
إنفاذ العقوبات القائمة ضد إيران، لا سيما تلك التي تستهدف صادراتها النفطية التي عادت إلى مستويات ما قبل العقوبات في الأشهر الأخيرة.
الإجراء العسكري:
التحذير من أن الولايات المتحدة مستعدة لتنفيذ الأعمال العسكرية إذا لزم الأمر لمنع إيران من حيازة سلاح نووي. وعلى الإدارة الأمريكية أن تطلب من حملة ترامب الانتخابية إصدار بيان مماثل لتوضيح أن هذه المسألة تحظى بإجماع الحزبين.
دعم هذا التهديد العسكري بإجراءات أكثر صرامةً ضد أنشطة إيران التي تدعم التصعيد الأخير من قِبل وكلائها الإقليميين. ويشمل ذلك استهداف سفن التجسس الإيرانية التي تسهّل هجمات الحوثيين في اليمن على السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن.