من أكثر ما يلفت النظرَ في بيان حركة فتح الذي صدر في 15 مارس / آذار 2024، والذي وزَّعته وكالة الأنباء الفلسطينية “وفا”، اتهامُ حركة حماس بأنّها “مفصولة عن الواقع”!! يتابع كاتب هذه السطور بيانات حركة فتح منذ عشرات السنوات كجزء من تخصصه واهتماماته؛ ولعله يرى أنّ هذا البيان هو أكثرها “انفصالًا عن الواقع”، وهو مليء بادعاءات عفا عليها الزمن. كما أن الأسلوب الذي كُتب به لا يليق بحركة واسعة لها ماضيها النضالي، وتقود “الشرعية” الفلسطينية!!
جاء بيان فتح بسبب معارضة حماس للطريقة التي قام بها محمود عباس بتعيين محمد مصطفى رئيسًا لوزراء السلطة، وتكليفه بتشكيل حكومتها في 14 مارس/ آذار 2024. والحقيقة أنّ الاعتراض لم يكن من حماس وحدها، فقد صدر في بيان في اليوم التالي شاركت فيه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثاني أكبر فصيل في منظمة التحرير، وحركة الجهاد الإسلامي، والمبادرة الوطنية.
والبيان الذي جاء هادئًا وموضوعيًا تحدث عن خطورة المرحلة ومواجهة العدوان والتصدي لجرائم الاحتلال، وضرورة التوافق الوطني في هذه الظروف، واستنكر نهج التَّفرد الذي تتبناه قيادة السلطة والمنظمة وفتح، والذي يُعمِّق الانقسام في هذه اللحظة الفارقة؛ بينما يتم استبدال شخصٍ من البيئة السياسية والحزبية ذاتها.
من ناحية ثانية، كان “الانفصال عن الواقع” هو أيضًا السمة الأبرز لكتاب تكليف عباس (رئيس فتح والمنظمة والسلطة) لمحمد مصطفى برئاسة الوزراء؛ وهو ما كان سببًا في استفزاز الفصائل الفلسطينية وصدور بيانها.
وفي هذا المقال لدينا بعض الوقفات مع كتاب التكليف ومع بيان فتح:
ظهر القفز الأكبر على الواقع في تجاهل معركة “طوفان الأقصى”، والزلزال الذي أحدثته في الكيان الإسرائيلي لأول مرة منذ إنشائه قبل 75 عامًا، وسقوط نظريته الأمنية؛ وتجاهل حقيقة التأييد الشعبي الفلسطيني (والعربي والإسلامي) الواسع لهذه العملية؛ بينما اكتفى كتاب التكليف والبيان بالإشارة إلى الآثار الناتجة عن العدوان الصهيوني على غزة، متجاهلًا مرة أخرى البطولات الأسطورية التي سطرتها المقاومة في مواجهة العدوان، والخسائر الهائلة التي يتكبدها العدو لأول مرة بهذا الحجم منذ إنشائه.
ويتحدث كتاب التكليف والبيان عن الإغاثة وتوفير الاحتياجات والإعمار، وهي أمور مهمة، ولكن بشكل منفصل تمامًا عن أجمل ما في الشعب الفلسطيني من بطولات ومقاومة وصمود وتضحيات!!
تكليف يراعي الاعتبارات الإسرائيلية الأميركية
ويتجلى الانفصال عن الواقع، في أن يصدر كتاب التكليف بالطريقة التقليدية الرتيبة لـ”دولة فلسطين”، وكأن أعمال الحكومة ستُنفذ في “سويسرا”، وليس في أرضٍ تحت الاحتلال، وشعبٍ تحت الاحتلال، وفي ظروفِ أشرس وأقذر الحروب وأكثرها وحشية على شعبنا الفلسطيني بما فيها من إبادة وتجويع وتدمير.
وهو ما كان يستدعي – على الأقل كما يفعل أي نظام سياسي يحترم نفسه – تشكيل حكومة وحدة وطنية، أو حكومة طوارئ، تُوحد الجهود والطاقات في مواجهة العدوان واستحقاقات المرحلة.
لقد قام العدو بتشكيل حكومة طوارئ ومجلس للحرب، بالرغم مما يملكه من إمكانات هائلة وتحالف عالمي يقف خلفه؛ أما قيادة السلطة (قيادة المنظمة وفتح) فتجاهلت كل جهود لمّ الشمل الفلسطيني؛ وفضلت أن تُشكّل حكومة جديدة وفق الاعتبارات والمعايير الإسرائيلية الأميركية الغربية؛ لتكون جاهزة ليس للوقوف مع المقاومة في مواجهة العدوان، وإنما لتسلُّم قطاع غزة والحلول مكان المقاومة بعد “سحق حماس”، بحسب المخطط الإسرائيلي الأميركي.
إعلان
واختارت شخصًا كان المعيار الأساس لقبوله هو موافقة الأعداء والخصوم عليه؛ دون أدنى اعتبار للإرادة الشعبية الفلسطينية و”للقرار الوطني الفلسطيني المستقل”!!.. فهل ثمة أسوأ من هكذا انفصال عن الواقع؟!
ووصل الأمر – بحسب ما نقلت وكالة “قدس الإخبارية” في 21 مارس /آذار 2024- إلى أن لجنة أوروبية من موظّفي السفارات في رام الله تعقد مقابلات شخصية مع الوزراء الذين اقترحهم محمد مصطفى لحكومته؛ لتتأكد من مؤهلاتهم وصلاحياتهم “للوظيفة” وفق المعايير الغربية، وأن الذهاب للمقابلات كان بطلب من محمد مصطفى نفسه!!
وهذا الخبر يُعزّزه خبر نشرته “قدس برس” في اليوم نفسه؛ أن لجنة سداسية أمنية – تضم ممثلين عن أميركا ومصر والأردن والسعودية والإمارات، بالإضافة إلى السلطة – تقوم بدراسة ترشيحات محمد مصطفى للوزراء، وأن من أبرز شروط القبول ألا يكون للشخص ماضٍ نضالي، أو سبق اعتقاله في سجون الاحتلال!!
أما ما يصيب المتابع بالغثيان، فهو أن يأتي بيان فتح ليتحدث عما يُسميه ارتهان حماس لـ”أجندات خارجية”!! بل واستخدام لغة غير لائقة تتساءل: إن كانت حماس تريد “أن نُعيّن رئيس وزراء من إيران أو تُعينه طهران لنا”؟! وهو يعلم قبل غيره أن قرار حماس مستقل، وباعتراف وتأكيد الإيرانيين أنفسهم، وأن الالتقاء في خط المقاومة قد يعني التعاون والشراكة، ولكن لا يعني التبعية. وكان على من كتبوا بيان فتح أن يعلموا أن “من بيته من زجاج لا يرمي الناس بالحجارة”!!
أداء حكومي يتجاوز القوى الفلسطينية الفاعلة
يبرز الانفصال عن الواقع في كتاب التكليف الذي يطلب من مصطفى قيادة وتنظيم وتنسيق جهود الإغاثة في قطاع غزة، وتنظيم ملف إعادة الإعمار، ووضع الخطط والآليات لعملية إعادة توحيد المؤسسات بين المحافظات الشمالية والجنوبية كوحدة جغرافية واحدة.
إعلان
ويتجاهل الكتاب تمامًا الحقائق على الأرض في قطاع غزة. فليس الأمر متعلقًا بزلزال أرضي أصاب منطقة في دولة ما، كما يحدث في اليابان أو تركيا والمطلوب علاج تداعياته؛ وإنما هناك احتلال وعدوان وحشي مدمر يريد إعادة تشكيل النظام السياسي في القطاع وفق المعايير الصهيونية؛ وهناك مقاومة بطولية راسخة تلتف حولها الجماهير، كما تشير استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله، وظهرت نتائجها في ديسمبر /كانون الأول 2023 ومارس/ آذار 2024، والتي تتوقع انتصار حماس، وتتوقع سيطرة حماس في اليوم التالي للحرب، وتُفضل أيضًا سيطرة حماس على القطاع، وبأغلبيّات شعبية تقارب الثلثين.
وهي الاستطلاعات نفسها التي لا تعطي أكثر من 11% لسيطرة سلطة رام الله بقيادة عباس على القطاع. وبالتالي فالمنفصل عن الواقع، هو الذي يتجاوز المقاومة وحماس، ويتجاهل أي تفاهم وطني مسبق، مع القوى الراسخة شعبيًا وفعليًا على الأرض، على أمل أن يُهيِّئ له الاحتلال والأميركان بيئة أفضل للحلول مكان المقاومة.
شراكة “شعاراتية”
يتحدث كتاب التكليف عن تعزيز ثقافة الشراكة والحوار والمكاشفة والشمولية والمشاركة في اتخاذ القرارات، ويؤكد على اتخاذ الإجراءات اللازمة والتحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية.
وبعيدًا عن هذه اللغة “الرومانسية”، فإن كتاب التكليف نفسه وتعيين محمد مصطفى جاء مناقضًا لروح الشراكة؛ بينما استمرَّت ممارسات قيادة السلطة وفتح باحتكار السلطة ومنظمة التحرير ومؤسساتها على مدى عشرات السنوات، وبالتهرب من أي استحقاقات انتخابية تمثيلية حقيقية وإلغائها، وباستبعاد قوى فلسطينية فاعلة عن الشراكة في القرار، وإلغاء المجلس التشريعي، وقمع الحريات في الضفة الغربية، ومطاردة المقاومة ورموزها.
ويتجلى التناقض والانفصال عن الواقع في مطالبة كتاب التكليف بتقديم كل دعم ممكن للمنظومة القضائية وتمكينها من أداء دورها. بينما قام عباس الذي أرسل كتاب التكليف بعمل “مذبحة” قضائية، فأنشأ محكمة دستورية على هواه، واستخدمها في تعطيل المجلس التشريعي، وأحكم قبضته على مجلس القضاء الأعلى، واستخدم القضاء في التضييق على النقابات وعلى الخصوم.
كما يتجلى التناقض والانفصال عن الواقع في حديث كتاب التكليف عن إصلاح المؤسسات، وصولًا إلى نظام حوكمة شفاف، بينما قام عباس خلال الـ 17 عامًا الماضية، بتدمير العمل المؤسسي، والهيمنة على السلطة التشريعية والقضائية، وتكريس حكم الفرد، وإصدار أكثر من 400 قانون ومرسوم رئاسي، وتجاهل كل نداءات الإصلاح والشراكة السياسية وإعادة بناء منظمة التحرير.
المراهنة على الحصان الميت
الانفصال عن الواقع يتجلّى في أن قيادة فتح تُصرّ منذ أكثر من 30 عامًا على مسار التسوية السلمية الذي مات وشبع موتًا، والذي استخدمه الإسرائيلي كـ”ورق تواليت”، لتهويد الأرض والمقدسات؛ كما يتجلّى هذا الانفصال في الإصرار على التنسيق الأمني مع العدو، حتى وهو يمارس وحشيته وتدميره ومجازره ضدّ شعبنا، وحتى بمخالفة الإجماع الفلسطيني ضدّ هذا التنسيق؛ بل، وبمخالفة قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي بوقف هذا التنسيق.
أزمة البوصلة
تأتي أزمة الهوية والبوصلة والتموضع السياسي لدى من كتبوا بيان فتح، عندما اتهموا حماس بالتَّسبب بالنكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وخصوصًا قطاع غزة؛ في لغةٍ تفشل (في خضم المعركة) في التفريق بين وحشية العدو، وبين بطولة المقاومة!!
فوَفق استطلاعات الرأي للشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع فإن اللوم على معاناة غزة ينصبُّ بنسبة 84% على الاحتلال الإسرائيلي وعلى الأميركان، ومن وضع اللوم على حماس لا يتجاوز 7%، حتى بعد خمسة أشهر من المجازر والدمار؛ أي أن فتح وقفت عكس الأغلبية الساحقة للرؤية الشعبية الفلسطينية، واختارت اللوم الذي يريح العدو وحلفاءه.
في المقابل فإن الغالبية العظمى- وبنسبة 71%- ما زالت ترى صوابيَّة قرار حماس بشنّ عملية “طوفان الأقصى”؛ مع أن 78% ممن تم استطلاعهم من قطاع غزة قالوا؛ إنه قد قتل أو أصيب شخص واحد على الأقل من أفراد عائلتهم. بل إن غالبية كبيرة بنحو 75% ترى أن هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول أحيا الاهتمام الدولي بالقضية، وأعطى فرصًا أفضل للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو ما فشل فيه عباس وسلطته طوال ثلاثين عامًا.
استشارة إدارة التنسيق الأمني!
يخرج بيان فتح عن أي درجة من الواقعية عندما يستغرب أن حماس لم تَستشر قيادة رام الله أو فتح في عملية “طوفان الأقصى”!! وكأن هذه العملية الإستراتيجية الكبرى تحتاج استشارات كاستشارات اختيار العروس أو شراء العقارات!! وفتح تعلم قبل غيرها أن نجاح العمليات العسكرية من هذا النوع يكمن في سريتها المطلقة، لدرجة أن قيادات كبيرة في حماس نفسها لم تكن على علم بها.
هذا دون الخوض في أنه سيكون من السخف والمثير للسخرية استشارة من يمارس التنسيق الأمني اليومي مع العدو ويطارد المقاومة. ثم عن أي استشارة يتحدث البيان لقيادة سلطة أَصمَّت آذانها عن كل أشكال الإصلاح المؤسسي والشراكة الوطنية وإصلاح البيت الفلسطيني!. وهذا دون الخوض أيضًا، في سؤال فتح إن كانت استشارت الشعب الفلسطيني وفصائله الفاعلة في كارثة اتفاقات أوسلو وتنازلها باسم الشعب الفلسطيني وغصبًا عنه عن أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين للعدو الصهيوني.. وغيرها.
أين إرادة الشعب الفلسطيني؟
وأخيرًا؛ فإن الإصرار على تجاهل الواقع والانفصال عنه يتجلى في الإصرار على الاستمرار بالإمساك بزمام السلطة، بالرغم من أغلبية واسعة من الشعب الفلسطيني تقف إلى جانب المقاومة وبرنامجها، وبالرغم من أن نحو 84% من الفلسطينيين في الضفة والقطاع يطالبون عباس بالاستقالة، و65% يرون في السلطة عبئًا على الشعب الفلسطيني، بل وأيَّد 58% حلّ السلطة نفسها.
باختصار عباس وسلطته في وادٍ، والشعب الفلسطيني في وادٍ آخر.