مثّل تصريح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، 8 مارس/ آذار الجاري، إن الانتخابات البلدية المقبلة ستكون الأخيرة له رئيساً لحزب العدالة والتنمية، أول إشارة رسمية إلى مغادرته السلطة بعد نهاية ولايته الحالية. قال أردوغان أمام حشد من الشباب التركي، “أواصل العمل دون توقف. نركض من دون أن نتنفس لأنها بالنسبة إلي هذه هي النهاية. ومع السلطة الممنوحة لي بموجب القانون، فإن هذه الانتخابات هي انتخاباتي الأخيرة”.
“النهاية” التي لمح إليها أردوغان يجب ألا تشبه نهاية السلطان عبد الحميد الثاني، عندما انتهت به الأمور إلى عزله عن السلطة، وشكلت هذه الخطوة بداية النهاية لسلطنة كتبت حضورها في تاريخ البشرية، فالنهاية بالنسبة إلى أردوغان يجب أن تكون مكلّلة بالنصر بعد معركة انتخابية في مايو/ أيار 2023 لم تكن سهلة بالنسبة إليه، بل استطاعت المعارضة أن تتحد في وجهه، وتسجل موقفًا وحضورًا لا يستهان بهما.
كثرت التحليلات حول تصريحه، وردّ بعضهم السبب إلى الدستور بذاته، حيث لا يسمح له بالترشح للانتخابات المقبلة بعد اربع سنوات. وحتى لو عدّل الدستور فقد يكون العمر سببًا صريحًا لإطلاق مثل تصريح كهذا، وهو على أعتاب الثمانين. لهذا العمر والدستور كافيان لرسم النهاية السياسية لأردوغان، ولكن هل هذا ما عناه في كتابة النهايات؟
مهما كانت النهاية التي يحاول أردوغان رسمها، ومهما تعدّدت أسباب اعتزاله الحياة السياسية، فإن معركة البلديات يجب أن تكون نهايتها سعيدة، كما يريدها أردوغان. لهذا يصحّ فيها استخدام جميع الوسائل تحديداً الخطابات التي تميل إلى العاطفة أكثر من طرح المشاريع الإنمائية، سيما وأن بلدية إسطنبول، العاصمة الاقتصادية للبلاد، في أيدي المعارضة التي فازت بها 2019، وهي مدينة تعني لأردوغان الكثير، حيث بدأ منها مشواره السياسي ومشوار حزبه في التسعينيات، حينما كان رئيسًا لها.
مهما كانت النهاية التي يحاول أردوغان رسمها، ومهما تعدّدت أسباب اعتزاله الحياة السياسية، فإن معركة البلديات يجب أن تكون نهايتها سعيدة، كما يريدها أردوغان
يجيد أردوغان اللعب على التناقضات الدولية لما فيها من تحقيق مصالح لتركيا، لاسيما وسط عالم بات يأخذ شكل الانقسام العمودي، بين قوة مسيطرة تسعى للاحتفاظ بنفوذها، وأخرى صاعدة تريد فرض حضورها في القضايا الدولية. فبين هذه وتلك، يتحرك أردوغان ساعيًا لتكريس الدور الحيادي المنفتح شرقا كما هو الحال غربًا.
يتحرك التركي اليوم بخطى ثابتة نحو كتابة النهايات السعيدة، التي تعيد مكانة تركيا بين الحضارات، وسط حديث بدأ يتصاعد عن الذهاب نحو عالم متعدّد الأقطاب، حيث عليها أن تجد لنفسها مكانًا ذا ثقل وتأثير. لهذا، لم يذهب أردوغان إلى المقاطعة الغربية المفروضة على روسيا، وفي الوقت نفسه لم يذهب للتطبيع مع النظام السوري، كما أرادت كل من روسيا وإيران في قمة تموز 2022.
إنها معركة رسم النهايات، تلك التي يخوضها كل من يصل إلى السلطة في تركيا، نهايات الأبطال التي تشكل نوعًا من التاريخ للحضارة التركية. سبقه في ذلك السلطان عبد الحميد الثاني، لكنّ نهايته لم تكن كما كان يريدها، إذ تشير بعض الكتابات التي تناولت هذا السلطان العثماني، وهو الذي كان عاشقًا لفنون الأوبرا والمسرح، إلى روايات عن أنه كان يأمر الموسيقيين والكتاب العثمانيين بتغيير النهايات الحزينة للأعمال الفنية لتحلّ محلها نهايات سعيدة. سواء صدقت تلك الروايات أم لا، فإن السلطان العثماني، الذي كان معارضوه يصفونه بـ”الطاغية”، لم يستطع رغم سلطاته الكبيرة أن يغير نهاية حكمه أو يجنّب السلطة العثمانية أو مؤسسة الخلافة نهايتها. ففي عام 1909 خُلع السلطان، وبعد ذلك بـ15 عاماً، أُلغيت الخلافة العثمانية بعد قرون من السيطرة على مناطق عدة في آسيا وأفريقيا وأوروبا.
رأى رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، في حديث أردوغان بأنه يحمل الكثير من استمالة المشاعر للوصول إلى مكاسب سياسية
إنهاء السلطنة التي حكمت لأكثر من ست مئة عام حيث فرضت واقعًا سياسيًا وجغرافيًا، شكّل مفصلًا مهمًا في تاريخ البشرية. تأسست هذه السلطنة على يد عثمان الأول بن أرطغرل عام 1200 وانتهت بسقوط الدولة عام 1924. هذه السلطنة وقّعت في لوزان من عام 1922 معاهدة كانت الأقسى في تاريخ البلاد، والتي أفضت إلى الاعتراف الدولي بالجمهورية التركية التي استحدثت على أراضي الأمبراطورية العثمانية في الأناضول وتراقيا الشرقية. وقد سعى أردوغان إلى تعديل الدستور، لتوسيع صلاحيات الرئاسة الأولى، كي يستطيع أن يعيد مجد السلطنة المنقوص نتيجة اتفاقية لوزان الثانية. لهذا أراد رسم النهايات التي تعيد مجد تركيا إلى سابق عصرها، من القوة والحضور.
نهايات أردوغان قد لا تنتهي، فهي ليست المرة الأولى التي يخاطب جماهيره بمثل خطابٍ كهذا، ففي الانتخابات النيابية عام 2009، قال إنه لن يترشح مرة جديدة، وفي عام 2012، ذكر أنها المرة الرابعة والأخيرة التي سيترشح فيها لرئاسة حزب العدالة والتنمية. لهذا فقد رأى رئيس بلدية إسطنبول آكرم إمام أوغلو، في حديث أردوغان بأنه يحمل الكثير من استمالة المشاعر للوصول إلى مكاسب سياسية.
مهما اختلفت كتابة النهايات عند أردوغان، إلا أن الثابت الوحيد أنه يسعى لتكريس النهاية السياسية بانتصار يعود إلى نهاية سعيدة لحياته السياسية، وبالوقت نفسه بتكريس حضور قوي للدولة التركية حيث حلم بإعادة رسم عودة الأمبراطورية التركية إلى سابق عهدها.