مع تراكم الأزمات السياسية والاستراتيجية أمام الحكومة الإسرائيلية، وعجزها عن إغلاق أي منها، أكان حسم الحرب على غزة، أم ملف الأسرى والمخطوفين، واستمرار مشاهد البلدات الفارغة من السكان في جبهة الشمال، وورطة قتل الجيش الإسرائيلي متطوعي “المطبخ المركزي العالمي” في غزة، وزيادة التوتر في الجبهة الشمالية وأمام إيران، بدأ المشهد السياسي في إسرائيل بالانتقال من مرحلة الوحدة والعمل الجماعي والتحلي بالمسؤولية، وفقاً للمفاهيم الإسرائيلية، خلال حرب وصفتها القيادات الإسرائيلية بأنها حرب وجودية وحرب استقلال ثانية، إلى مرحلة الخلافات العلنية بين مركّبات التحالف الحكومي، ودعوات لتقديم موعد الانتخابات، وعودة الاحتجاجات الصاخبة إلى الشوارع.
أزمة المعاهد الدينية مؤجلة
فشلت الحكومة الإسرائيلية الأسبوع الماضي بالتوصل إلى اتفاق حول ملف إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، ولم تقدّم رداً متفقاً عليه للمحكمة العليا لغاية نهاية مارس/آذار الماضي، ورفضت المستشارة القضائية للحكومة غالي بهراف ميارا الدفاع عن موقف الحكومة. المحكمة العليا رفضت طلب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تمديد المهلة الزمنية للرد بثلاثين يوماً، وأصدرت قراراً أولياً بإلزام الجيش التحضير لتجنيد الشباب الحريدي، وإيقاف الميزانيات الحكومية المخصصة للمعاهد الدينية المشمولة بنظام إعفاء الطلاب من الخدمة العسكرية.
قرار المحكمة يشكّل ضربة قاسية للأحزاب المتشددة دينياً-الحريدية، وتحدياً أمام حكومة نتنياهو وحلفائه الطبيعيين، سيضطر للتعامل معه خلال الأشهر المقبلة ومحاولة إعادة العجلة إلى الوراء، عبر محاولة سنّ قانون يكون مقبولاً عند الأحزاب الحريدية، وعند بقية أحزاب التحالف الحكومي، وأمام المحكمة العليا، وهي مهمة شبه مستحيلة.
فشلت الحكومة الإسرائيلية بالتوصل إلى اتفاق حول ملف إعفاء طلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية
مع الإشارة إلى أن قرار المحكمة هذا يأتي استمراراً لقرارات سابقة اتخذتها المحكمة العليا خلال الحرب على غزة، تشكل ضربة مباشرة وقاسية للخطة الحكومية لتقييد القضاء. ففي بداية العام الحالي ألغت المحكمة قانون “إلغاء حجة المعقولية” الذي سنّه تحالف اليمين قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ويرمي إلى تقييد تدخّل المحكمة العليا في قرارات الحكومة وسياساتها، وفي عملية سنّ القوانين في الكنيست. بعد ذلك قررت المحكمة تأجيل بدء سريان تعديل قانون “الإطاحة برئيس حكومة” للكنيست المقبل. هذا القانون يرمي إلى تصعيب، بل استحالة، فصل رئيس وزراء من منصبه لأسباب صحية أو جنائية، وهدفه الأساس منع الإطاحة بنتنياهو بسبب الملفات الجنائية المتداولة ضده في المحاكم.
وكان هدف سنّ قانون جديد لترتيب وضمان إعفاء الشباب الحريدي من الخدمة العسكرية، مريحاً للتحالف الحكومي، ومنع تدخّل المحكمة العليا بهذا القانون، أحد أهداف الخطة الحكومية لتقييد القضاء. والآن تقرر المحكمة وجوب تجنيد الشباب الحريدي ووقف الميزانيات الحكومية للمعاهد الدينية المشمولة بالترتيب القائم.
قرارات المحكمة هذه ما كانت لتمر بهذه السهولة وبدون احتجاجات جدية من قبل داعمي الخطة الحكومية، وبدون احتجاجات الفئات المتشددة دينياً – الحريديم حول قانون الإعفاء من الخدمة العسكرية، لولا الحرب على غزة وأحداث السابع من أكتوبر. يمكن القول إن المحكمة العليا تفتت بنود الخطة الحكومية لتقييد القضاء، وتدافع عن مكانتها بعد الهجوم المتكرر عليها في الأعوام الأخيرة.
كما كان متوقعاً، بدأت سهام الانتقادات تطاول رئيس حزب المعسكر الرسمي بني غانتس بعد مرور نحو ستة أشهر على حرب الإبادة على غزة، ودخول “المعسكر الرسمي” إلى حكومة الطوارئ لإدارة الحرب. غانتس شريك نتنياهو في إدارة الحرب ويتحمّل مسؤولية الإخفاقات والإنجازات.
تراجع مكانة غانتس انعكس في استطلاعات الرأي العام في الشهر الأخير بحيث حصل بعض التراجع في عدد المقاعد المتوقعة لحزب المعسكر الرسمي، وتوقفت وجهة الصعود التي رافقت الحزب منذ بداية الحرب على غزة. وبدأت الضغوط على غانتس، من داخل حزبه، للقيام بخطوة أو تحرك ما يميّزه عن نتنياهو، ويعيده إلى مركز القيادة السياسية في ظل الحرب، خصوصاً على ضوء عودة الاحتجاجات في الأسابيع الأخيرة، المطالبة بتحرير الأسرى وإجراء انتخابات مبكرة.
ضغوط على غانتس للقيام بتحرك ما يميّزه عن نتنياهو، ويعيده إلى مركز القيادة السياسية في ظل الحرب
غانتس اختار الانضمام إلى الأجواء المطالبة بتقديم الانتخابات. وأعلن في مؤتمر صحافي يوم الأربعاء الماضي أنه يفضّل الاتفاق على موعد انتخابات مع نتنياهو، مقترحاً أن يكون الموعد في سبتمبر/أيلول المقبل. وبذلك ينضم غانتس إلى موقف الوزير المستقيل جدعون ساعر الذي طالب بالاتفاق على موعد للانتخابات بداية العام المقبل، وكذلك مطالب حركات الاحتجاج التي تطالب بتقديم الانتخابات.
غانتس أصر على البقاء في التحالف الحكومي لغاية الآن، على الرغم من محاولات نتنياهو التفرد في اتخاذ القرارات بما يخص مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حركة حماس، والشعور العام أن نتنياهو يرمي إلى تعطيل اتفاق تبادل الأسرى بغية إطالة أمد الحرب لأهداف سياسية شخصية. وقد علّل غانتس بقاءه في الحكومة بأنه يرمي إلى إنهاء ملف الأسرى والمخطوفين في غزة، وضمان التوصل إلى صفقة مع “حماس”، وأيضاً بسبب التوتر في الجبهة الشمالية واحتمال اندلاع حرب أوسع مع حزب الله.
التغير في موقف غانتس ودعوته لتقديم الانتخابات لا يعنيان أن هذه الملفات ستغلق لغاية سبتمبر، موعد الانتخابات المقترح، إنما يعكسان الانطباع أن إغلاق هذه الملفات بعيد ولا فائدة من الاستمرار في هذه الحكومة، التي تطيل بقاء نتنياهو رئيساً لها، وأنه يمكن التقدم نحو انتخابات بالتوازي مع إدارة ملف الأسرى وتحت إمكانية توسع جبهة الشمال.
زعم غانتس أن تحديد موعد للانتخابات سيسمح باستمرار الحرب بدون التعاطي بشكل متكرر مع مسألة الانتخابات، وأن ذلك سيتيح مواصلة الجهود الأمنية، وسيمنع حدوث تصدع في الأمة، وأن “مثل هذه الخطوة ستزيد الثقة والوحدة في الأمة وبين مقاتلينا، وستمنحنا أيضاً دعماً دولياً ضخماً نحن في أمسّ الحاجة إليه”. وأوضح أن همه الأساسي هو إعادة الأسرى والتعامل مع الخطر في الجبهة الشمالية وإعادة سكان البلدات الحدودية إلى منازلهم. بذلك حدد غانتس أهداف الانتخابات ومحاورها، وأوضح أن الحملة الانتخابية المقبلة ستتمحور في الجوانب الأمنية، والوحدة الداخلية، والشرعية الداخلية والدولية لاستمرار الحرب، والسعي نحو تحقيق انتصار وفق المفاهيم الإسرائيلية.
غانتس لا يعرض أي مشروع سياسي واضح المعالم، ويتهرب من التعامل مع ما يسمى إسرائيلياً اليوم التالي للحرب
غانتس لا يعرض في هذه المرحلة أي مشروع سياسي واضح المعالم، ويتهرب من التعامل مع ما يسمى إسرائيلياً اليوم التالي للحرب على غزة، ولا يعرض أي تصور للقضية الفلسطينية واستمرار الاحتلال. واضح أنه يريد الحفاظ على صدارته لاستطلاعات الرأي العام الأسبوعية في إسرائيل، وهو يخشى أن يتحول أي تراجع في الاستطلاعات إلى حالة دائمة تؤدي إلى تآكل مكانته الحالية. فهو يريد أن يكون في صف حركات الاحتجاج، أو على الأقل يسعى ألا تعاديه حركات الاحتجاج.
من المهم الإشارة هنا إلى أن زخم حركات الاحتجاج في الأسابيع الأخيرة والتصعيد، كان نتيجة التشبيك والتعاون بين حركة أهالي الأسرى مع قسم حركات الاحتجاج التي نشطت قبل السابع من أكتوبر ضد الخطة الحكومية لتقييد القضاء وضد حكومة نتنياهو. هذا التشابك أعطى زخماً وقوة للتظاهرات في الأسبوع الأخير، التي تطالب الآن بالتوصل إلى صفقة تبادل فورية وإلى تبكير الانتخابات البرلمانية.
موقف غانتس يعني عملياً، أنه في حال عدم حصول أي تقدّم أو تغيير في ملف الأسرى والجبهة الشمالية، لغاية عودة الكنيست من عطلة أعياد الفصح اليهودية منتصف مايو/أيار المقبل، سينسحب من التحالف الحكومي. طبعاً لن يؤدي ذلك بالضرورة إلى حل الكنيست والتوجه إلى انتخابات مبكرة. فما زال تحالف اليمين يملك 64 عضو كنيست. إلا أن شرعية حكومة اليمين واليمين المتطرف في المجتمع الإسرائيلي ستكون في أدنى مستوياتها. وستواجه الحكومة انتقادات جدية من الساحة الدولية، بحيث ستكون الحكومة رهينة الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش. هذا الأمر سيصعّب على الحكومة إدارة الحرب وضبط الشارع الإسرائيلي واحتواء الاحتجاج، والحفاظ على التنسيق أمام الإدارة الأميركية. وما سمعناه من توبيخ الرئيس الأميركي جو بايدن لنتنياهو في المحادثة الهاتفية بينهما يوم الخميس الماضي، والمطالبة بوقف إطلاق نار موقت، يمكن أن تتحول إلى مطلب أو ربما شرط أميركي لأي دعم أميركي عسكري أو دبلوماسي لإسرائيل.
خروج غانتس من التحالف الحكومي يمكن أن يؤدي إلى تحويل مطلب تقديم موعد الانتخابات إلى مطلب أساسي لدى حركات الاحتجاج، وربما الإعلام، وسيكون من الصعوبة بمكان على نتنياهو أن يمنع تحديد موعد متفق عليه للانتخابات، إلا إذا اتجه نتنياهو إلى مغامرات سياسية أو أمنية لتعطيل محاولات تبكير الانتخابات البرلمانية.