اهتمّت وسائل الإعلام العالمية أخيراً بمناقشة ما دأبت على تسميته “اليوم التالي” لحربٍ ما زالت مشتعلة في قطاع غزّة. ويتضح من التقارير التي نشرت في هذا الشأن أن لدى كل الأطراف المعنية بالأزمة الراهنة رؤى وتصورات واضحة عما ينبغي أن تؤول إليه الأوضاع في القطاع بعد توقف القتال. يصدُق هذا على الحكومة الإسرائيلية، وعلى الإدارة الأميركية، وعلى السلطة الفلسطينية في رام الله، وعلى فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة في غزّة، كما يصدُق، في الوقت نفسه، على الدول العربية المنخرطة حاليا في جهود وساطة تهدف إلى التوصّل لصيغة مقبولة لوقف دائم لإطلاق النار، وفي مقدّمتها مصر وقطر.
تعكس تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، في هذا الموضوع إصرارا واضحا على رفض الوقف الدائم لإطلاق النار إلا بعد تحطيم البنية العسكرية لحركة حماس وإسقاط حكمها في قطاع غزّة، من دون أن يكون لديه أي تصوّر محدّد لمستقبل القطاع بعد توقف القتال، فنتنياهو يرفض أن تعود السلطة الفلسطينية في رام الله إلى إدارة القطاع لسبب واضح، حرصه الشديد على قطع الطريق نهائيا أمام أي محاولات لإقامة دولة فلسطينيّة على حدود 1967. لكن الأمور المتعلقة بما ستؤول إليه الأوضاع بعد توقف القتال لا تزال مختلطة بشدّة في ذهنه، فهو تارّة يتحدّث عن حاجة إسرائيل إلى منطقة عازلة في الشمال لحماية المستوطنات الإسرائيلية الواقعة في غلاف غزّة، وتارّة أخرى يتحدّث عن الحاجة إلى وجود أمني إسرائيلي دائم في كل القطاع لمنع تكرار ما حدث في السابع من أكتوبر، وفي أحيان أخرى يتحدّث عن تطلعه لتنصيب إدارة مدنية في القطاع تتشكل من رؤساء القبائل والعشائر.
أما إدارة بايدن، فرغم دعمها الكامل لنتنياهو في كل ما يتعلق بتحقيق أهدافه الرامية إلى تدمير “حماس” وإقصائها تماما عن المشهد السياسي، إلا أنها تختلف معه إلى حدٍّ ما بشأن تصوّرات “اليوم التالي”. ولأنها تحاول الإيحاء بأنها ما زالت مهتمة بفتح الطريق مجدّدا أمام البحث الجدّي عن إمكانية إقامة دولة فلسطينية في مرحلة لاحقة، ترى أنها يمكن أن تتحقّق في إطار صفقة أوسع لتطبيع العلاقة بين السعودية وإسرائيل، يبدو واضحا أنها لا تمانع في تولي السلطة الفلسطينية بعد “تجديدها” إدارة القطاع، وذلك في نهاية مرحلة انتقالية توكل فيها أمور القطاع إلى قوّة متعدّدة الجنسيات تشارك فيها دول عربية توافق عليها إسرائيل. وقد نشرت صحيفة بوليتيكو الأميركية يوم 28 مارس/ آذار الماضي تقريرا يفيد بأن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تدرس حاليا إمكانية تمويل قوة متعدّدة الجنسيات تتشكل من بعض الدول العربية وتتولى الولايات المتحدة قيادتها من دون أن تشارك بقوات فيها.
ربما تكون السلطة الفلسطينية الطرف الوحيد الذي يعرف ما يريد بالضبط، حيث يبدو واضحا أنها تحاول انتهاز الفرصة لاستعادة الأوضاع التي كانت قائمة في القطاع قبل عام 2007، أي قبل انفراد “حماس” بالسلطة فيه. ويبدو أن إقالة الرئيس محمود عبّاس حكومة محمد اشتية، وتكليف محمد مصطفى بتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط، يأتي في سياق الاستعداد لهذه المرحلة، غير أن هذه الخطوة المنفردة لم تحظ بترحيب عام في معظم الأوساط الفلسطينية، خصوصا من “حماس” وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة التي لا تزال أجنحتها العسكرية منغمسة كليا في القتال الذي ما زال دائرا في القطاع. ومن ثم تتركّز استراتيجيتها في المرحلة الراهنة على توفير مقومات الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية الجهنمية، وعلى حشد الطاقات للحيلولة دون تمكين نتنياهو من تحقيق أهدافه. ومن الطبيعي، في سياقٍ كهذا، أن تسعى “حماس” وحلفاؤها إلى التوصل لصفقة، تضمنها قوى وأطراف دولية فاعلة، وتفضي إلى وقف دائم لإطلاق النار، وذلك بشروطها المعروفة: انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية، عودة النازحين من شمال القطاع ووسطه، رفع الحصار المضروب على القطاع وإزالة القيود المفروضة على تدفق المعونات الإنسانية، مبادلة الأسرى الفلسطينيين المعتقلين في السجون الإسرائيلية بالمحتجزين الإسرائيليين لديها، البدء في إجراءات الإعمار. وفي ما يتعلق بإدارة القطاع بعد توقف إطلاق النار، ترى “حماس” أنه شأن فلسطيني داخلي ينبغي التوصل إلى توافق عليه عبر التشاور مع كل الكيانات الممثلة للشعب الفلسطيني.
إدارة بايدن، رغم دعمها الكامل نتنياهو في تحقيق أهدافه الرامية إلى تدمير “حماس” وإقصائها عن المشهد السياسي، إلا أنها تختلف معه إلى حدٍّ ما بشأن تصوّرات “اليوم التالي”
أما الأطراف العربية الرسمية التي ارتضت دور الوسيط في هذه الجولة من الصراع، وفي مقدّمتها مصر وقطر، فتبدو حريصة على الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع كل الأطراف، خصوصاً مع الطرفين الأميركي والإسرائيلي. ولأن دولاً عربية عديدة لديها خلافات جوهرية مع “حماس”، وتتمنّى بالتالي لو خرجت مهزومة من هذه الحرب، لم يكن بمقدور النظام الرسمي العربي، الضعيف والمنقسم على نفسه، انتهاز الفرصة التي أتاحتها عملية طوفان الأقصى، والتي فاقت جسارتها كل خيال، وكذلك الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، ومن ثم أخفق في استخدام ما يمتلكه من موارد ومن عناصر القوة لدفع القضية الفلسطينية خطواتٍ إلى الأمام ولممارسة ضغوط حقيقية على كل من إسرائيل والولايات المتحدة لحمْلهما على اتخاذ خطوات عملية وجادّة في اتجاه إقامة الدولة الفلسطينية. لذا يبدو واضحا أن هذا النظام ما زال يراهن على دور أميركي في تسوية القضية الفلسطينية، ما يفسّر استعداد دول عربية عديدة للتنسيق مع إدارة بايدن والتعاطي مع رؤاها وتصوّراتها بشأن “اليوم التالي”، بما في ذلك الأفكار المتعلقة بتشكيل قوة متعدّدة الجنسيات لإدارة القطاع في مرحلة بعد وقف إطلاق النار.
تجدُر الإشارة هنا إلى أن إسرائيل صاحبة فكرة تشكيل هذه القوة وأول من طرحها وعرضها على الجانب الأميركي، وهي فكرة ارتبطت في ذهن إسرائيل في البداية بمهمّة محدّدة، الإشراف على توزيع المساعدات الإنسانية، فإسرائيل تدعي أن “حماس” تستولي على جزء كبير من المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع، بالتواطؤ مع وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). ولأنها (إسرائيل) تسعى في الواقع إلى التخلّص من هذه المنظمّة الإغاثية التي تذكر العالم بمشكلة اللاجئين وبالنكبة الفلسطينية الأولى لعام 1948، فقد تصوّرت إسرائيل أن من شأن تشكيل قوات متعدّدة الجنسية، خصوصا إذا شاركت فيها دول عربية أن يساعد على إضعاف “أونروا” وأن يضمن، في الوقت نفسه، عدم انتشار الفوضى في القطاع المنكوب. ولكن عندما شرعت في مناقشة هذه الفكرة مع المسؤولين في إدارة بايدن، بدأت تتكشّف جوانب وفوائد أخرى لها من المنظور الأميركي. وتفيد تقارير صحافية عديدة بأن كلاً من وزيري الدفاع والخارجية الأميركيين، لويد أوستن وأنتوني بلينكن، ومستشار الرئيس بايدن للأمن القومي جاك سليفان، وافقوا على الفكرة من حيث المبدأ، وبدأوا في طرحها ومناقشتها مع بعض الدول العربية، وأن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت ناقش تفاصيلها في زيارته واشنطن أخيراً، ثم تبيّن أن الإدارة الأميركية مهتمةٌ بها وشرعت في دراستها من كل جوانبها بالفعل، ما يفسّر التصريحات الصادرة أخيراً عن وزارة الدفاع الأميركية، والتي تبدي استعدادها لقيادة هذه القوات وتمويلها، من دون المشاركة بقوات على الأرض.
أي تصوّر لمرحلة اليوم التالي لا يتضمّن خطوات محدّدة لإقامة الدولة الفلسطينية محكوم عليه بالفشل
والواقع أن نشر قوات دولية متعدّدة الجنسية في قطاع غزّة، سواء كانت هذه عربية خالصة أو بالاشتراك مع دول أخرى، فكرة خبيثة وسيئة للغاية، خصوصا إذا تقرّر نشرها قبل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من القطاع والتزام المجتمع الدولي بخريطة طريق لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس، فإسرائيل والولايات المتحدة يسعيان، بشكل واضح، إلى توريط الدول العربية ودفعها إلى الدخول في مواجهة مسلحة مع “حماس” تحت غطاء الجهود المشتركة لمكافحة “الإرهاب”. غير أنه ينبغي على جميع الأطراف أن تدرك أن استئصال “حماس” من المشهد الفلسطيني مسألة مستحيلة، وبالتالي، أي تصوّر لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار ينبغي أن يكون مجمعا عليه من كل مكونات الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حركة حماس التي لولاها لما أصبحت القضية الفلسطينية مدرجة على جدول أعمال النظام الدولي على نحو ما هو حادث. كما عليها أن تدرك، في الوقت نفسه، أن أي تصوّر لتلك المرحلة لا يتضمّن خطوات محدّدة لإقامة الدولة الفلسطينية محكوم عليه بالفشل، وسيؤدّي إلى تحويل أي وقف دائم لإطلاق النار إلى مجرّد هدنة تفصل بين انفجارين.
إذا كان المجتمع الدولي يرغب حقا في إقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/ حزيران (1967)، فعلى مجلس الأمن تشكيل قوات حفظ سلام دولية استنادا إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يعهد إليها بإدارة كل من الضفة الغربية وقطاع غزّة لفترة لا تتجاوز العامين، وتكليفها بتنفيذ ثلاث مهام محددة: تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، إعادة إعمار القطاع، تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في كل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، لاختيار السلطة التي يحق لها قيادة الدولة الفلسطينية المستقلة، والتي لن يتحقق السلم والأمن الدوليين إلا بقيامها.
سبق للأمم المتحدة أن قامت بدور مشهود في تمكين شعب ناميبيا من الحصول على استقلاله وإقامة دولته، رغم خضوعه بعد الحرب العالمية الأولى لانتداب من الفئة ج، فلماذا لا تقوم بدور مماثل لتمكين الشعب الفلسطيني، الذي خضع في الوقت نفسه لانتداب من الفئة أ، من الحصول على استقلاله وإقامة دولته؟ أظنّ أن هذه هي الطريقة العقلانية الوحيدة والضرورية لتصحيح ظلم تاريخي وقع على الشعب الفلسطيني، وساهمت الأمم المتحدة في ارتكابه.