عند انتهاء فرز الأصوات في الانتخابات البلدية الأخيرة في تركيا، وخسارة حزب العدالة والتنمية، جاء في كلمة الرئيس اردوغان بالمناسبة، أن نتائج الانتخابات «تشكل منعطفا» و»نقطة تحوّل» بعد أكثر من عقدين في الحكم. تعهد بإجراء تحليل وافٍ لنتائج الاقتراع، وبأن الحزب سيقوم بالنقد الذاتي بكل شفافية وشجاعة، ويعمل على إصلاح الأخطاء التي ارتُكبت.
ذلك حق، وأضعف الإيمان مؤقّتاً، لكنّه لم يساعد كما يبدو على إخماد الغضب والدهشة بين أنصاره. ومن جهتنا – نحن أهل المنطقة الأقربين- لا بدّ من الإسهام بذلك النقد، لأهمية ما جرى من انقلاب في المشهد، بعد تسعة أشهر فقط من انتخابات حقق فيها اردوغان وحزبه انتصاراً حاسماً، لأنّ لذلك آثاره على تركيا، وعلى ما حولها أيضاً.
قال البعض إن قدرة اردوغان على التحمّل قد تناقصت، مع كلّ ما قاده من معارك سياسية حتى الآن، في حين أكّد معظم المراقبين أن الاقتصاد هو الأساس وجذر الخسارة.. وهناك آخرون أيضاً يرى كلّ منهم سبباً لتلك النتيجة في ما يخصّه ويتعلّق به، كالكرد والسوريين، وأهل المدن والأطراف، والمتديّنين والعلمانيين، والمواطنين واللاجئين، ومجمل نزاعات الهوية المعقّدة، وغير ذلك مما بقي أو تغيّر، لكنّ أحداً لا يجادل في أن الشؤون المباشرة المتعلّقة بحياة الناخبين هي أوّل العوامل الحاسمة، مع أنها لا تختزلها.
دخلت تركيا مرحلة مختلفة، لن تغيّر شيئاً في المستوى السياسي، ما دامت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة قد حسمت الأمر لصالح أردوغان، لكنّها ستكون دافعاً قوياً لإعادة نظر كلّ القوى في تقدير الواقع والمستقبل
في الاقتصاد كان العنوانان الديناميكيان هما، التضخّم وأزمة المتقاعدين، فقد وصل ارتفاع التضخم إلى 70%، كما أذهلت الناخبين مستويات ارتفاع الفائدة وارتجال التحكّم بها وبقراراتها. انخفضت قيمة الليرة التركية إلى عُشرِها خلال عشر سنوات، وبمقدار خُمسها منذ الانتخابات الماضية فقط.. وحلّقت وتحلّق الأسعار من جهتها. في ظلّ تلك الحالة يعيش المتقاعدون الذين يقارب عددهم العشرين مليوناً على حدٍّ أدنى يعادل 41% من الحدّ الأدنى لأجور الذين على رأس عملهم. وكان أحد هؤلاء، وهو عضو في حزب العدالة والتنمية، قد حضر تجمّعاً لتأييد انتخاب اردوغان في العام الماضي، وهو يرتدي تي- شيرت مكتوباً عليه: «إذا لم تكن هناك عدالة للمتقاعدين، فلن يكون هناك تصويت لك… يا معلّم!». يقال إن عدد هؤلاء حالياً يقارب العشرين مليوناً، وقد كان لذلك تأثيره المباشر الجزئي على صندوق الانتخابات. لوحق ذلك المتظاهر وآلاف غيره بتهمة» إهانة الرئيس»، التي تعاقبها المادة 299 من قانون العقوبات بأربع سنوات سجناً، قابلة للزيادة، في حالة استخدام الإعلام المكتوب (أذكر أن العقوبة الرسمية لذلك في سوريا كانت ستة أشهر، قابلة للزيادة حتى الموت تحت التعذيب). كان لصعوبات المعيشة تلك، التأثير الأول على النتائج كما ورد أعلاه؛ ولكنّ أدخنة أخرى ظهرت من عوامل أخرى، وتفاوتت شدة نيرانها بين موقع وآخر. كانت طريقة مواجهة الحكومة للقضية الكردية/ التركية من أهمّها، التي أصبح الموقف من القضية السورية متأثّراً بقوة بها. فبعد الانفتاح على الكرد، الذي مارسته حكومة العدالة والتنمية في أواخر العقد الأول من هذا القرن، والبدء بالسماح بالبثّ والتعلّم باللغة الكردية، وزيارات اردوغان المتكرّرة لديار بكر، وخطة طريقه للحلّ، تراجع بسرعة خلال عام أو أكثر، وأعاد المسألة إلى إطار «الإرهاب» الاختزالي والمحارب.
قامت الحكومة بسجن رئيس حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) ديمرتاش، وألغت عضوية من ينجح من ممثّليه في الانتخابات التي شارك بها أحياناً كثيرة، كما أجبرته على تبديل اسمه ورخصته مراراً. في الانتخابات البلدية الماضية تمّ عزل كثير من الناجحين من هذا التيّار، وتعيين بدلاء عنهم من المقربين للحزب الحاكم، وهنالك الكثير من الحكايات عن كيف تمّ التدخّل المثير للتساؤلات في العملية الانتخابية؛ ومن ذلك نقل شرطة وجنود أو موظفين حكوميين إلى حيث صناديق الانتخاب، كما يحكى مثل ذلك عن بعض مواقع الانتخاب الأخيرة مثل مدينة فان، التي تمّت إزاحة رئيس بلديتها بعد انتخابه بدعوى حصول خطأ أو تزوير أو غير ذلك. انعكس جانب مهم من تأثير المسألة الكردية في انتخابات إسطنبول مثلاً، حيث تمرّد الكرد حتى على قياداتهم ولم يصوّت الكثير منهم لمرشحها، بل للمرشّح الأكثر قدرة على النجاح. ظهر أنهم يفضّلون- في غمرة غضبهم- انتخاب الخصم المباشر لمرشّح السلطة، وأسهموا بنجاح إمام أوغلو، الخطر الداهم الآن، والمقبل في ما بعد في منافسته لاردوغان في الرئاسيات المقبلة. كانت المسألة الكردية عاملاً فاعلاً في سياسة تركيا السورية. فمسألة المناطق الآمنة، والاجتياحات المتتابعة في الشمال السوري. والتبدّلات الديموغرافية هناك، تُنفّذ كلّها تحت عنوان» الحفاظ على الأمن القومي»، الذي يستهدف إزالة ما يرونه خطراً كردياً وإرهابياً على البلاد، وحتى العلاقة مع الأطراف الخارجية المؤثّرة في المسألة السورية، تغيّرت منذ عام 2016، ليبدأ مسار آستانة مع روسيا وإيران، ثمّ مسار تطبيع العلاقات مع النظام الذي عرقله الأخير نفسه في ما بعد. كما عرقل مسار التطبيع العربي بعجزه عن تنفيذ شروطه، وكما عرقل المسار الدولي واللجنة الدستورية من قبل.
وللمسألة السورية وجه انتخابي آخر يتعلّق باللجوء وفورة الشعبوية، كان في الواجهة أثناء انتخابات العام الماضي، لكنّه ابتعد قليلاً إلى الهامش في الأسبوع الماضي، والحملات الانتخابية الأخيرة. تحتاج هذه الظاهرة إلى دراسات أكثر عمقاً لمقاربتها وتوضيح مفارقتها الجزئية عن العام الماضي. يلفت الانتباه أيضاً أن تأييد السوريين وحماسهم لحزب العدالة والتنمية، بتصويت المجنّسين منهم، أم بعواطفهم- سواء كان عن اقتناع عميق، أم اضطرار في السابق- تحوّل حالياً إلى تعبيرات أقرب إلى السلبية أو المراقبة الصامتة، بالطبع مع استمرار شريحة مهمة بتأييد الحزب الحاكم والتعبير عن العرفان بالجميل. لكنّ الأكثر أهميّة أن أطراف المعركة الانتخابية كانوا – نسبياً- أقلّ استخداماً وتوتّراً في طرح مسائل السوريين، كمعارضين أو كلاجئين. هناك تغيير آخر في سياسات العدالة والتنمية، كان مرافقاً للتحوّل في العلاقات مع الولايات المتحدة وأوروبا وحلف شمال الأطلسي باتّجاه أكثر استرخاءً، وهو تخفيف خفيّ لمظاهر الأسلمة و»تشذيب» علمانية النظام بالتدريج، أفسح الباب على مصراعيه لحزب الرفاه الجديد – بزعامة ابن أربكان- ليتقدّم وهو يزيد في عيارات أيديولوجيا العدالة والتنمية، وينشق عن «تحالف الجمهور قبل أسابيع من الانتخابات، وحتى كاد يخوّنه في موقفه من حرب غزّة من منطلق إسلامي، ضد أولئك، الذين يواصلون بشكل صارخ التجارة مع إسرائيل والقتلة الصهاينة». أدهش حزب أربكان المراقبين إذ حلّ ثالثاً بنسبة بلغت أكثر من 6% من الأصوات على المستوى الوطني. أكلت تلك النسبة من أصوات العدالة والتنمية، كما زادت أصوات الكرد من أصوات إمام أوغلو في إسطنبول.
حتّى في حزب المعارضة الرئيس (حزب الشعب الجمهوري)، كان هناك تغيير كبير وحاسم، جعل منه حزباً قويّاً لا يضارعه حزب آخر، للمرة الأولى منذ عشرات السنين. تلك من أهم ظواهر تلك الانتخابات، التي تعبّر- ربّما- عن تقدّم مسألة الهويّة إلى الأمام، لتأخذ حجماً افتقدته تركيا منذ زمن طويل: ما بين علمانية أسّسها أتاتورك وزادت في القطع مع الماضي دائماً، وإسلام سياسي كان يوصف بأنه معتدل في السابق، وتعقّد مساره بعد ذلك، يطرح أفكاراً عثمانية أحياناً، وإخوانية أحياناً أخرى، ومعتدلة منفتحة في أحيان ثالثة. يُلاحظ كذلك أنه ظهرت سياسات تراجع نسبي باتّجاه أوروبا والأطلسي في العام الماضي، دفعت كما يبدو إلى انتخاب التوجّه الأكثر» أصالةً» نحو الغرب، المتمثّل في حزب الشعب الجمهوري.
بما سبق، وبمثله، دخلت تركيا مرحلة جديدة مختلفة، لن تغيّر شيئاً في المستوى السياسي، ما دامت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية السابقة قد حسمت الأمر لصالح اردوغان والعدالة والتنمية، لكنّها ستكون دافعاً قوياً لإعادة نظر كلّ القوى في تقدير الواقع والمستقبل والبرامج والسلوك. لذلك تظهر الأسئلة على السطح الآن، وسيزداد ظهورها، كلّما خفّ صوت صرخات النصر أو أنين الهزيمة. واستمرار نجاح المعارضة وطريقته في المدن الكبرى كلّها، ظاهرة ستكون عميقة الفعل، تبعد الدرب عن مسارات الشعبوية السائدة… سيكون ذلك إذا حدث مكسباً مشتركاً.