على المسؤولين الإسرائيليين أن يوازنوا بين الحقائق العسكرية، ومخاوف الحلفاء، والمشاعر العامة الداخلية، وحسابات “حماس”، التي لا يتقبل قادتها أنواعاً معينة من “الهزيمة” طالما بوسعهم التأثير على غزة.
بينما لا تزال الحرب مستعرة في غزة، تسعى كل من إسرائيل وحركة “حماس” إلى الوصول إلى المرحلة النهائية وإعلان النصر. وفي حين قد تبدو الأمور مختلفة بالطبع عندما تصمت المدافع، وبالتأكيد بعد عشر سنوات أخرى، فقد مرت ستة أشهر منذ وقوع هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لذا فإن الآن هو الوقت المناسب للبحث في مفهوم النصر من وجهة نظر كل من إسرائيل و”حماس”، وما الذي يحتاجه كل جانب لتحقيق نصر منهجي.
مفهوم النصر من وجهة نظر إسرائيل
يشكل النصر (أو “القرار”) أحد الأساسات الأربعة التي تقوم عليها عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي، إلى جانب الردع والإنذار المبكر والدفاع، وتميّز هذه العقيدة بين أربعة أنواع من النصر:
- النصر التكتيكي: إبطال القدرات القتالية للعدو
- النصر العملياتي: تفكيك المنظومة القتالية لدى العدو من خلال سلسلة من الاشتباكات أو المعارك
- النصر العسكري الاستراتيجي: التخلص من التهديد العسكري على مدى أعوام قادمة
- النصر المنهجي: إحداث تغيير جذري في الوضع الاستراتيجي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً
تُظهر العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة أن جيش الدفاع الإسرائيلي أحرز نصراً تكتيكياً وعملياتياً على “حماس”، أي أن قواته سيطرت على “مكان عيش” الحركة وحرموها من القدرة على القتال في غزة كقوة عسكرية رسمية أو على الحفاظ على نظام منسق من القيادة والتحكم على الأرض أو تحتها.
وسيحقق جيش الدفاع الإسرائيلي “نصراً عسكرياً استراتيجياً” من خلال حرمان “حماس” من الصواريخ والأنفاق وتصنيع الأسلحة وإمكانيات التهريب والحد بشكل كبير من التهديد على الجبهة الداخلية الإسرائيلية ليقتصر على حوادث منعزلة. وهذه عملية طويلة ستأتي بعد النصر العملياتي من خلال سلسلة من العمليات العسكرية التي تمنع فعلياً إعادة تأهيل “حماس” عسكرياً.
بيد، تطمح إسرائيل في النهاية إلى تحقيق نصر منهجي بإحداث تغيير جذري في وضعها الاستراتيجي، وذلك من خلال التخلص من التهديد الذي تطرحه “حماس” على المدنيين الإسرائيليين. ولن يتحقق النصر المنهجي من خلال الوسائل العسكرية فحسب، بل يتطلب أيضاً اتخاذ إجراءات سياسية ومدنية واقتصادية تؤدي تدريجياً إلى تغيير المنطق الكامن وراء تصرفات “حماس” وتقليص الأسباب التي تدفع السكان المحليين إلى مواصلة دعمها. وتواجه إسرائيل حالياً قضيتين تبرزان الفرق بين النصر الاستراتيجي العسكري والنصر المنهجي، مما يوضح السبب الذي يمنع كَوْن الأداة العسكرية هي الأداة الوحيدة المستخدمة لإحداث التغيير:
بقاء قيادة “حماس”: سبق أن فقدت الحركة عدداً من كبار الشخصيات، ومن المتوقع أن تفقد أيضاً عناصر عسكرية وسياسيين رئيسيين، وهذا من شأنه أن يؤثر على قدرتها على إدارة صراع عسكري فعال ومنظم ضد إسرائيل في مختلف الساحات. ولن يتمكن المسؤولونأمثال إسماعيل هنية وخالد مشعل الذين هم قادة سياسيين من إعادة بناء البنية التحتية العسكرية في غزة، كما أن إنشاء جيل جديد من القادة العسكريين سوف يستغرق وقتاً طويلاً. ومع ذلك، ومن أجل الحفاظ على الإنجاز العسكري الإسرائيلي، فلا بدّ من ظهور قيادة سياسية بديلة في غزة بسرعة لإحداث التغيير الحكومي الضروري.
العملية البرية في رفح والسيطرة على طريق التهريب في “ممر فيلادلفيا”: تعتبر إسرائيل “رفح” المعقل العسكري الأخير لـ “حماس”، حيث لا تزال كتائب الحركة تعمل هناك كوحدات عسكرية منظمة. كما أنها تنظر إلى “ممر فيلادلفيا” على أنه شريان الحياة للحركة، مما قد يساعدها على التعافي عسكرياً في المستقبل.
وحتى الآن، يواجه عزم إسرائيل على التحرك داخل “رفح” معارضة واسعة النطاق من مختلف الجهات الفاعلة، وعلى رأسها الولايات المتحدة. وتطالب هذه الجهات إسرائيل بالسماح للاجئين بالعودة إلى شمال غزة، على الرغم من أن إسرائيل تعتزم نقل السكان الفلسطينيين إلى منطقة المواصي شمال غرب رفح لأسباب أمنية. وحذرت مصر من أنها ستعلّق معاهدة السلام مع إسرائيل إذا انتقل الأشخاص الذين تم إجلاؤهم إلى أراضيها بعد العملية العسكرية الإسرائيلية؛ ومن المرجح أن يكون رد الأردن على العملية البرية في رفح غير مواتٍ أيضاً. وبالتالي فإن السؤال الرئيسي بالنسبة لإسرائيلهو ما إذا كان النصر الاستراتيجي في احتلال رفح يستحق الثمن الذي قد تدفعه في حالة التصادم مع الولايات المتحدة وشركائها العرب في عملية السلام.
“حماس”: النجاة مفتاح النصر
من غير الواضح حتى الآن ما الذي كان زعيم “حماس”، يحيى السنوار، يأمل في تحقيقه من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر وما كان تصوره لأفق الحرب. ولكن على خلاف إسرائيل التي ترى أن النصر يتكوّن من عدة عناصر، تركز “حماس”، باعتبارها حركة مقاومة، على عنصر واحد فقط، وهو البقاء. وفي هذا السياق، لا ترى هدف إسرائيل المتمثل بتحويل “حماس” من كيان سيادي إلى مجموعة من الخلايا الإرهابية باعتباره هزيمة، وذلك لأن الحفاظ على السيادة لا يشكل بحد ذاته غاية بالنسبة لـ “حماس”، بل وسيلة لتيسير عمل “المقاومة” ضد إسرائيل وتعزيز الدعم الشعبي.
ومن وجهة نظر السنوار، لا يُقاس النصر بالأراضي التي تم احتلالها، أو تدمير البنية التحتية، أو إيقاع الإصابات، بل بقدرة الحركة على إعادة بناء بنيتها التحتية العسكرية والمدنية، وإدارة المقاومة والرأي العام، والأهم من ذلك، فرض النفوذ على حكومة ما بعد الحرب في غزة. وبما أنه يرى أن النصر مضمون مع بقاء الحركة، فإنه يجري مفاوضات شاقة مع إسرائيل بشأن الرهائن، بما في ذلك المطالبة بضمانات أمريكية بوقف دائم لإطلاق النار والانسحاب الإسرائيلي من غزة.
عندما ينظر السنوار إلى إدارة “حماس” العامة للحرب في هذه المرحلة، فهو يرى على الأرجح مشهداً مختلطاً، ولكنه يميل إلى الإيجابية. فقد أعادت “حماس” القضية الفلسطينية إلى الواجهة في المنطقة وعلى المستوى الدولي، وكشفت نقاط ضعف إسرائيل، وألحقت الضرر بقوتها الرادعة، وأوقفت عمليتها للتطبيع مع المملكة العربية السعودية. وفي الوقت نفسه، تحظى الحركة بدعم واسع النطاق على مستوى الرأي العام الفلسطيني. ومع ذلك، لم تنجح “حماس” في تحقيق هدفها المتمثل في حشد “محور المقاومة”، أي الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس، وعرب إسرائيل، لفتح جبهات متعددة ضد إسرائيل، وهو المبدأ التنظيمي للحرب الحالية.
الخاتمة
تحتاج إسرائيل إلى نصر منهجي وإلى عملية طويلة الأمد ومستدامة من شأنها أن تحدث تغييراً جذرياً على الواقع في غزة. ويمكن أن يتحقق ذلك إذا عززت إسرائيل عملياته االعسكرية التي تضعف “حماس”، وأرست في الوقت نفسه الأساس لإنشاء قوة أمنية مدنية بديلة لفرض القانون والنظام في غزة والتصدي للتهديدات الإرهابية. ولكي يتم تحقيق نصر منهجي حقيقي، سيتعين على إسرائيل الحد من المعارضة – ومن الولايات المتحدة في المقام الأول – للإجراءات اللازمة لتحقيق هذا الهدف.
ومع ذلك، يتعين على المسؤولين الإسرائيليين أيضاً أن يزيلوا العقبات التي وضعوها بأنفسهم أمام إعادة إنشاء “السلطة الفلسطينية” في غزة بصيغة منقحة. وهذا من شأنه أن يجنب إسرائيل ضرورة أن تصبح السلطة المدنية هناك، بما يوفر لها المجال العسكري لمواصلة إضعاف “حماس” مع مرورالوقت. علاوة على ذلك، من المرجح أن يؤدي مثل هذا التحول إلى حشد الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة لتشكيل تحالف لتحقيق المزيد من المكاسب العسكرية (على سبيل المثال، إغلاق طرق التهريب إلى “السلطة الفلسطينية”) والمكاسب السياسية (على سبيل المثال، تعزيز التطبيع مع المملكة العربية السعودية؛ وتشكيل ائتلاف ضد إيران ووكلائها).
وفي الوقت نفسه، يتعين على إسرائيل أن تظهر المزيد من الحكمة في تعزيزالجهود الإنسانية المستدامة في غزة، وفتح المعابر إلى جانب معبر “كيرم شالوم” وإعادة اللاجئين إلى شمال غزة، ومعالجة مسألة إعادة التأهيل. لقد أصبح الملف الإنساني بمثابة حقل ألغام استراتيجي بالنسبة لإسرائيل يمكن أن يؤدي إلى خسارة كاملة للدعم الدولي والإقليمي. وفي هذا الإطار، يؤكد الحادث الذي وقع في الأسبوع الأول من نيسان/أبريل والذي قُتل فيه سبعة موظفين من منظمة “المطبخ المركزي العالمي” في هجوم للجيشالإسرائيلي لماذا من الضروري أن تغيّر إسرائيل مواقفها بشأن القضايا الإنسانية.
- ويتخلل مشهد النصر المنهجي جزءاً آخر وهو مشاعر الرأي العام في إسرائيل تجاه قضية الرهائن على وجه الخصوص. فالوضع غير واضححالياً، ومن المرجح أن يؤدي حل هذه المشكلة الصعبة إلى إثارة مشاعر الخسارة والألم والفشل، لأسباب منها الثمن الذي قد تضطر إسرائيل إلى دفعه مقابل إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين البارزين. إلا أنه من الواضح تماماً أن الجمهور الإسرائيلي لن يتمكن من الحديث عن النصر إلا بعد عودة الرهائن، الأحياء منهم والأموات، بغض النظر عما تحققه إسرائيل من إنجازات عسكرية كبيرة.