أن تضرب دولة معادية سفارة بلدك فهذا يعني أنها تعتدي على أراضيك، أي على سيادة دولتك. الأمر بهذا الوضوح والبساطة، فلا يحتمل أي اجتهاد أو جدل. صحيح أن إسرائيل لم تعلن مسؤوليتها عن الهجوم كعادتها غالباً، لكن العالم كله يعرف من المعتدي. فهذا الهجوم يختلف عن عشرات الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيرانية في سوريا طوال العقد الأخير، وحتى عن اغتيالات قامت بها الأجهزة الإسرائيلية لعلماء إيرانيين على الأراضي الإيرانية، فبقيت تحت جنح الظلام ولم تحرج القيادة الإيرانية كحالها اليوم.
المشكلة أن إيران التي واظب مسؤولوها كل يوم على التهديد برد قاس منذ قصفت إسرائيل قنصليتها في دمشق، تدرك أنها لن تتحمل أكلاف أي رد مكافئ للاعتداء الإسرائيلي، ولا هي قادرة على تقبل الصفعة بلا رد، ولن يجدي أي رد تقليدي «في المكان والزمان المناسبين» بواسطة وكلائها عبر الإقليم في ترميم هيبتها المجروحة كدولة، مع احتمال تحوّلها إلى الصبي الذي يتلقى الصفعات بصورة روتينية ولا يجرؤ حتى على الاعتراض اللفظي.
القيادة الإيرانية لا تريد الحرب، وقد التزمت منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، بقواعد اشتباك مقبولة أمريكياً وإسرائيلياً، وحين قتل بعض وكلائها ثلاثة جنود أمريكيين في شمال شرق الأردن، قبل حين، في خروج على تلك القواعد، ألزمت ما يسمى «المقاومة الإسلامية في العراق» بالتوقف عن استهداف الأهداف الأمريكية» والتزمت هذه فأوقفت هجماتها ذات الأغراض الإعلامية. وما زال حزب الله ملتزماً بمستوى منخفض من التحرشات الصاروخية على المناطق الحدودية، وحده الحوثي مستمر في هجماته على السفن العابرة في البحر الأحمر، ويتلقى الضربات من التحالف الغربي بصورة متناسبة.
ما هو غير متناسب يأتي من الجيش الإسرائيلي الذي تحركه الحكومة المتطرفة، فيرفع سقف أهدافه باستمرار محمياً من أي مساءلة أممية بفضل الغطاء الأمريكي والبريطاني والفرنسي، الدول الثلاث التي صوتت في مجلس الأمن لمنع إدانة إسرائيل على استهدافها القنصلية الإيرانية الموجودة داخل حرم السفارة في دمشق. فبخلاف واشنطن، واضح أن نتنياهو يريد توسيع رقعة الحرب لأنه أفلت من العقاب على كل جرائمه وانتهاكاته للقانون الدولي وقواعده المتعارف عليها، بما في ذلك استهدافه لطوابير المدنيين الواقفين لاستلام مواد الإغاثة، ومؤخراً قتله لأعضاء «المطبخ الدولي» السبعة في اليوم نفسه الذي قصفت فيه القنصلية الإيرانية في دمشق. نتنياهو يريد توسيع رقعة الحرب، ليس فقط في نوع من هروب إلى الأمام من الاستحقاقات الداخلية أمام عجز جيشه عن تحقيق أهدافه المعلنة، القضاء على حركة حماس وتحرير الرهائن، مقابل نجاحه في قتل المدنيين واستهداف المستشفيات وتحويل قطاع غزة إلى خرابة كبيرة، بل أيضاً لجر الولايات المتحدة لصراع عسكري مباشر مع إيران وحزب الله كحالها مع ميليشيات الحوثي في اليمن.
لا يبقى أمام إيران إلا الرد بالطريقة التقليدية نفسها، أي بمناوشات محدودة عبر وكلائها الإقليميين، وهذا النوع من الردود لا يكفي لترميم صورتها الجريحة
إيران التي ورثت منهجية «الرد في المكان والزمان المناسبين» و«لن نسمح لإسرائيل بجرنا إلى معركة بشروطها» من الدكتاتور السوري الراحل حافظ الأسد، بوصفها «عدة شغل» الممانعة، تقف اليوم أمام خيارات كلها بمرارة العلقم. ذلك أن المنهجية المذكورة كانت تعتمد على تحريك منظمات عسكرية للقيام بعمليات محدودة لا تسبب الأذى لإسرائيل، لكنها تقدم خدمة دعائية لإيديولوجيا الممانعة التي تحظى بجمهور عربي واسع يتقبل هذا التخدير عن طيب خاطر. كذلك كانت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مستفيدة من ذلك المستوى المنخفض من الصراع لأنه يقدم لها ما تحتاجها من ذرائع للتشدد مع الفلسطينيين، في الحرب أو في المفاوضات على حد سواء.
سترد طهران على الاعتداء الإسرائيلي لأنها لا تستطيع ألا ترد، لكنها لا بد أن تتجنب في الوقت نفسه رداً أكبر من إسرائيل وربما بمعية الولايات المتحدة هذه المرة، فتصبح الحرب التي لطالما أبعدتها عن حدودها إلى أراضي دول إقليمية أخرى، على أراضيها هذه المرة، في الوقت الذي تفتقد فيه إلى إجماع وطني في ظل الثورات الشعبية الدورية التي تندلع كل بضع سنوات، وفي ظل الصراع المحتمل في قلب النظام على خلافة خامنئي.
في هذه الحالة لا يبقى أمام إيران إلا الرد بالطريقة التقليدية نفسها، أي بمناوشات محدودة عبر وكلائها الإقليميين، وهذا النوع من الردود لا يكفي لترميم صورتها الجريحة بعد ضربة دمشق، وهو ما يمكن أن يشجع نتنياهو على تكرار عمليات نوعية مماثلة لا تقيم وزناً للقوانين الدولية.
الغريب هو هذا التأخر في الرد الإيراني. مضى إلى الآن أسبوع كامل وما زالت القيادة الإيرانية في طور إطلاق التهديدات. وهو ما يعني أنها لا تملك خططاً جاهزة تنتظر الأوامر بالتنفيذ للرد على تحديات كبيرة، كما تفعل إسرائيل في حالات أقل من حالة إيران اليوم.
الخلاصة أن صورة إيران كدولة إقليمية كبيرة ذات طموحات امبراطورية تهيمن على أربع عواصم عربية، قد تلقت ضربة كبيرة. أما واليها على دمشق فهو «بطبيعة الحال» غير معني بأن العاصمة التي «يحكمها» تعرضت لهجوم صاروخي من العدو الإسرائيلي الغاشم، فهو معتاد على ذلك، ولن يضيره تلقي المزيد من الضربات كل يوم، فوزير خارجيته قد قام على أي حال بوظيفته الروتينية في إصدار بيان إدانة روتيني بدوره. بقي فقط أن يتلقى التوبيخ المألوف من حليفه الإيراني على التسريب الاستخباري المحتمل بشأن اجتماع قادة الحرس الثوري في القنصلية الذين قتلتهم إسرائيل في هجومها الأخير.