أحيت رواندا ذكرى الإبادة الجماعية، وسط حضور عالمي واسع لكبار المسؤولين. وأطلقت العاصمة كيغالي أسبوعا من الحداد والحزن على أرواح قرابة مليون شخص حصدهم النزاع القبلي الوحشي قبل 30 عاما. وأوحى المشهد الاحتفالي في القاعة، من خلال الإيقاع والإضاءة أن أرواح الضحايا، من رجال ونساء وأطفال، لا تزال تخيّم وتلقي بظلالها على المكان. ولا يعني ذلك فقط أن أهل تلك البلاد الذين مرّوا بتلك التجربة القاسية لا يزالون يتذكّرون الأبرياء الذين قضوا في الحرب الأهلية، بل هو في العمق تعبيرٌ عن الصدمة التي لا يزال الناجون من تلك التجربة المخيفة يعيشونها، وأنها لم يتقادم عليها الزمن، بل باقية حتى تتحدّد المسؤوليات وتجري محاسبة الضالعين فيها، سواء الذين ارتكبوا الجريمة، أو المقصّرين الذين لم يتحرّكوا لمنعها، وهذا أمرٌ اعترف به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأسبوع الماضي، حين صرّح بأن فرنسا “كان بإمكانها وقف الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا مع حلفائها الغربيين والأفارقة”، لكنها “لم تكن لديها الإرادة”. ولن يبدو هذا الاعتراف بعيداً من التطهّر الذاتي، ولن يصدّق أحد كلام ماكرون وغيره قبل أن تتصرّف القوى العظمى من وحي تلك المأساة، وتتحرّك لمنع الإبادة في أماكن أخرى، وأول خطوة هي العمل على محاسبة كل الذين أقدموا على ممارسات ذات طابع وحشي، على مستوى العالم، وعدم التهاون تجاه ذلك من دون تمييز.
وكان لافتا أن من بين الحضور في الحفل إسحق هيرتسوغ رئيس اسرائيل، التي تمارس إبادة، حالياً، ضد الشعب الفلسطيني في غزّة، من دون موقف دولي جاد يوقفها عند حدّها، بل تقدّم لها الولايات المتحدة التغطية السياسية والسلاح والذخيرة التي تقتل بها المدنيين وتدمّر البنى التحتية. وهذا مثالٌ آخر على المعايير الانتقائية التي يقيس بها المجتمع الدولي مواقفه ومشاعره. وهو يمارس ذلك صراحة وبلا حرج، وعلى نحو فاضح. ولدينا مثال آخر غير فلسطين، التي تعيش تحت حكم الابارتهايد، وتحضُر كلما جرى الحديث عن التقصير الدولي، هو المثال السوري، حيث جرت خيانة الضحايا في ذروة المأساة، عندما اتفق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على المقايضة الكيماوية في سورية عام 2013. وبدلا من أن تكون مجزرة السلاح الكيماوي في الغوطة، في أغسطس/ آب من ذلك العام، مدخلاً إلى محاسبة رئيس النظام بشّار الأسد، جرى العفو عنه بقرار أميركي روسي، ليستمرّ في حرب الإبادة ضد الشعب السوري، التي تجاوز تعداد ضحاياها نصف مليون، ومعاقيها قرابة ثلاثة ملايين، ومهجّريها بين الداخل والخارج أكثر من ثمانية ملايين. ولا تزال مستمرّة بأشكال مختلفة، في حين يدير العالم ظهره لها غير مكترثٍ بمعاناة ملايين الأبرياء.
حين يحيي العالم ذكرى الإبادة في رواندا، ويغضّ الطرف عنها في فلسطين وسورية، لا يكفي وصف موقفه بازدواج في المعايير، فهذا تعبيرٌ مخفّف لا يغطّي على التواطؤ المكشوف الذي يعبّر عن نفسه بصفقات علنية على حساب الأبرياء الذين تخلت عنهم العدالة الدولية التناسبية، التي عكست نفسها في محاكمة الرئيس اليوغسلافي الأسبق سلوبودان ميلوسيفيتش بوصفه مجرم حرب، لأنه مارس التطهير في يوغسلافيا، وغضّ الطرف عن بشّار الأسد في حين أن ملفه أثقل، والأمر ذاته بالنسبة لمحكمة الجنايات الدولية، التي لم تتّخذ أي خطوة لجهة محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في غزّة، بل تعبر مواقف المدّعي العام كريم خان عن انحياز لإسرائيل. وفي ظل كل هذا التواطؤ والصمت، لا يمكن رؤية إحياء ذكرى ضحايا الإبادة في رواندا بعيدا عن التغطية عليها في أماكن أخرى، كما هو الحال في سورية وفلسطين.