أن تستيقظ اليوم في الذكرى الـ49 لاندلاع الحرب اللبنانية في 13 إبريل/ نيسان 1975، وانتهت في عام 1990، وأن تتذكّر مجريات الأسبوع الأخير من جمهوريةٍ متهالكة، لن تحتاج لأكثر من بضعة ثوان للإدراك أن الزمن الفعلي هو العام 2024، لكن روحية الحرب وانقساماتها لا تزال تومئ بظلالها الموحشة على كل دقائق يوميات الفرد والمجتمع. كأن ذلك متعلقٌ بلاوعي اللبنانيين، أن تكون مولوداً من الحرب ولا تحيا سوى في ثناياها، رافضاً تجاوز ذلك بخطواتٍ جبّارة تجعلك إنساناً غير مأسور. دائماً ما يُقال إن معركة الإنسان الفعلية هي مع ذاته، ومتى انتصر فيها انتصر عملياً على كل العقبات التي تعتريه، من علاقاتٍ اجتماعيةٍ سيئة، أو نمط حياة غير مستقرّ وفوضوي. غير أن إنساننا اللبناني يرفض الخروج من هذا اللاوعي المدمّر من الحرب. بعضُنا يعاني منها، وبعضٌ آخر متأثر بها، لكن الأكثرية الساحقة، بما فيها الأجيال التي لم تولَد تحت أصوات القذائف، تأبى التطلّع إلى خارج دائرة التوتّرات المتتالية التي لا تترك لنا مجالاً للتفكير خارج الصندوق.
هناك شيءٌ مرتبط بالمحيط المعزّز لذاكرة دموية. جرائم وسرقات مستمرّة. لا كهرباء في الطرقات ولا طرقات. اقتصاد يضمّ كل أنواع التداول النقدي السلبي، ولا يقوم على أسسٍ صناعية وزراعية وتقنية وغيرها. خطابات سياسية ـ طائفية لا تنضب. حرب حقيقية في جنوب لبنان. ومصطلح “إصلاحات مطلوبة” يشبه ورقةً مرميةً على قارعة طريق في ليلٍ شتويٍّ غزير الأمطار. وسط ذلك كله، لا يبقى إلا فئتان: واحدةٌ تتصارع على السلطة بشكل دائم مع أنصارها، وأخرى اختارت قدر المثول أمام كل ما يأتي من السلطة. الخطّان المتوازيان هنا لن يلتقيا طالما أن الذهنية المتأصّلة في لاوعي اللبنانيين متعلقة بموروثات الحرب، لا بالتطلّع إلى مستقبل أكثر رحابة.
سيخرُج اليوم من يقول “لن نعود إلى الحرب”، لكن كيف سيحصل ذلك، وهناك من يردّد أن مسؤولية الحرب تقع “على الآخر”؟ قبل أيام، أحيت رواندا ذكرى الإبادة الجماعية فيها في عام 1994، التي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص. وفي المناسبة في العاصمة كيغالي، قال الرئيس بول كاغامي: “كانت رحلتنا طويلة وشاقّة. والدروس التي تعلمناها محفورة بالدم”. رواندا التي وقعت مجازرها بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب اللبنانية، باتت دولةً شبه متصالحة مع نفسها، رغم أن عديدين من مرتكبي الإبادة لم يُحاسَبوا. لكن الروانديين يعلمون أن البديل عن أي محاولة للتصالح مع الذات والغفران حرب لا تنتهي إلا بمقتل آخر مواطن لديهم. في لبنان، طُبّق منطق المصالحة والمسامحة على مستوى فردي، خصوصاً لدى قدامى المقاتلين الذين انضووا في صفوف المليشيات المتقاتلة. لم يتحوّل الأمر بعد إلى جهدٍ جماعي، لا يتجاهل الخلافات بين الشعوب اللبنانية، لكنه ضروري للانتقال إلى حالة واحدة وأساسية: الحوار الفعلي الذي يؤدّي إلى توحيد سردية تاريخ لبنان، أو أقلّه تحديد تعدديتها، بما يحفّز إلى الانتقال لبناء دولة حقيقية، عمادُها قوانين تتغير لمصلحة الفرد والمجتمع.
المشكلة في الذكرى الـ49 لاندلاع حرب لبنان أن الأفكار التي أفضت إلى اندلاع الحرب لم تتغيّر، ولم يجتهد أحدٌ لوضع حد للتدهور الفكري في النقاشات بين اللبنانيين، الذي يعود إلى عاملين لا ثالث لهما: الأحكام المسبقة أو النمطية، والضحالة الفكرية الناجمة عن رفض وضع أنفسنا مكان الآخر. بإزالة الأحكام المسبقة ووضع أنفسنا مكان الآخر، نحصل على كثير من عناصر الفهم والوعي، وهو أهم ما نحتاجه في لبنان، غير أن مكاسب استعباد العقل أكبر بكثير من تنويره لكثيرين. بالعبودية تتم السيطرة على الناس، وبالتنوير يتساوى الناس. حرب لبنان علّمتنا أن التنوير يبدأ في اللحظة التي لا “يحتفل” بها اللبنانيون بحربهم، بل يبنون نصباً تذكارياً في وسط بيروت، ويتمسّكون بالدروس المحفورة بالدم، كما فعلت رواندا، فيعلنون تحرّرهم من خيالات حربهم.