تزاول الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الأيام لعبة دقيقة للغاية. فهي من جهة تزوّد الاحتلال الإسرائيلي بأعتى أنواع الأسلحة لمواصلة الحرب الإبادية على قطاع غزة، وهي من جهة ثانية تجتاز مرحلة مضطربة من العلاقة مع الحكومة الإسرائيلية بسبب تعنت الأخيرة فيما يتعلّق بأي تصور لما بعد الحرب يقرّ ولو بطرف دولة للفلسطينيين.
لكنها من جهة ثالثة تسهر على اعتراض المسيّرات والصواريخ التي وجهتها إيران على إسرائيل انتقاماً لاستهداف سفارتها في دمشق. وفي الوقت نفسه، ومن جهة رابعة، ومن موقع أنها الترس الحامي لإسرائيل في وجه الضربة الإيرانية، تضغط أمريكا من أجل تحجيم الرد الإسرائيلي على هذه الضربة، إن لم يكن تعليقه أو تأجيله.
يأتي كل ذلك عشية مواجهة انتخابية لعلّها الأكثر خطورة في تاريخ أمريكا، وفي عالم يزداد اضطراباً تتواصل فيه كل من الحرب الروسية – الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة، وتبرز فيه متاهات خارطة مركبة من التهديف المتبادل على امتداد الشرق الأوسط من باب المندب حتى مضيق هرمز وكرمان، ومن بلوشستان حتى صحراء النقب، برّاً وبحراً.
في كل هذا الولايات المتحدة تريد في الوقت نفسه الشيء ونقيضه: دعم الهمجية الإسرائيلية، وحمل هذه الهمجية على شيء من الواقعية بالنسبة إلى اجتراح تصور لمرحلة ما بعد الحرب.
وأيضاً، تحاول إدارة الرئيس جو بايدن التوفيق بين التفاوض مع إيران بما في ذلك حماية هذا التفاوض من الإغارة الإسرائيلية عليه، إنما من دون أي مآل واضح لهذا التفاوض.
لقد مزّق دونالد ترامب الاتفاق الذي وقع عليه باراك أوباما ولم يستطع بايدن في المقابل إحياء الاتفاق بل اكتفى بإحياء ملتبس للتفاوض. ما يهمّ الولايات المتحدة قبل كل شيء آخر هو أن لا ترهقها منطقة الشرق الأوسط في وقت تزداد فيه الحرب الروسية – الأوكرانية تعقيداً.
تدعم أمريكا إسرائيل، مع خطاب مؤدلج لتسويغ هذا الدعم بالمزايدة على الصهيونية نفسها، لكنها تدرك أيضا أنه من مصلحة إسرائيل أن تورّطها في النزاع أكثر فأكثر، غير مكترثة بالوضع الدولي الإجمالي ومصالح الولايات المتحدة على امتداد الكوكب.
لقد أظهرت الأشهر الفائتة أن نظام القبة الحديدية أظهر فعالية أكبر من تجارب الحروب السابقة مع قطاع غزة، وجاءت الضربة الإيرانية لتظهر أن نظام القبة الحديدة هو جزء من شبكة مضادة للصواريخ والمسيّرات تشرف عليها الولايات المتحدة في المنطقة وتنخرط بها حكومات عربية إلى جانب إسرائيل.
في المقابل، أظهرت الحرب أن الفاتورة الدموية الإبادية العالية لا تقترن بفعالية ميدانية تقارن بها وقادرة على فرض الإملاءات الإسرائيلية على مصير القطاع. فهل يؤسس اجتماع المعطيين اليوم لنوع من إرهاق إقليمي عام يمهد للوصول إلى تعليق الحرب الحالية وبأي ثمن يكون هذا وبأي شكل؟
مع الانتقال إلى المواجهة الإسرائيلية الإيرانية المباشرة ولو عن بعد، تكون المنطقة قد وصلت بالفعل إلى مفترق طرق: فإما العد العكسي السريع لنهاية الحرب في غزة وإما اتساع رقعة الحرب وتراجع القدرات والآليات العاملة على كبحها أو تأطيرها، وفي طليعة تلك السياسة التي تعتمدها الإدارة الأمريكية. يصعب الفصل منذ الآن في أي اتجاه سيسلك الواقع الإقليمي من بعد مفترق الطرق هذا، لكن خروج الحرب عن كل تحكم بها، وعن كل سيطرة، ليس بالأمر السهل في منطقة باتت العلاقات بين بلدانها والقوى العظمى في العالم متقاطعة ومحيّرة.