كان من المتوقع أن ترد إيران عسكريا على قتل إسرائيل لقيادات من الحرس الثوري بتدمير قنصلية طهران في دمشق، وكان من المتوقع أيضا أن يمثل الرد خطوة تصعيدية إضافية في مسارات المواجهة بين البلدين.
أخذ صناع القرار في طهران مجموعة من المحددات الداخلية والإقليمية والعالمية في الاعتبار وهم يعدون للرد الذي جاء أشبه باستعراض منضبط للقوة الإيرانية يبتغي التذكير بقدرات الردع والدفاع واستعادة شيء من الهيبة في الشرق الأوسط دون التورط في حرب مفتوحة مع تل أبيب وحلفائها الغربيين الملتزمين بالدفاع عن أمنها.
داخليا، يواجه نظام الجمهورية الإسلامية أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية مركبة. فمعدلات النمو العام في تراجع منذ سنوات، ونسب البطالة والفقر في ارتفاع، والعلاقات التجارية مع الصين وبدرجة أقل مع روسيا صارت بمثابة شريان حياة وحيد للاقتصاد الإيراني المتراجعة إنتاجيته بسبب العقوبات الغربية والمعتمد على تصدير النفط للصين واستيراد كافة احتياجاته منها ومن روسيا. اجتماعيا، لم تغب العوامل التي دفعت قطاعات واسعة من النساء والأجيال الشابة إلى تجربة التمرد على حكم رجال الدين ورفض القيود الكثيرة المفروضة على الحريات الشخصية والعامة. خبت انتفاضة النساء الأخيرة بفعل العنف الممنهج الذي مارسته السلطات ضد المتظاهرات والمتعاطفين معهم، غير أن المقارعة اليومية بين النساء المتمردات على مظاهر التدين الشكلي المفروض من لدن آيات الله وبين الأجهزة الأمنية المتربصة بهن لم تتوقف أبدا. سياسيا، وعلى الرغم من التماسك الذي تبدو به سلطات وأجهزة الجمهورية الإسلامية، يخيم شبح عدم الاستقرار على إيران بفعل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وكذلك بفعل غياب إجابة قاطعة على سؤال من سيخلف المرشد الأعلى خامنئي الذي تقدم به العمر ويعاني من صعوبات صحية.
بمثل هذه الوضعية الداخلية، صار لزاما على صناع القرار في طهران التثبت من أن ردهم العسكري على الأعمال العدائية لتل أبيب لن يرتب حربا مفتوحة لا يمكن لهم تحمل كلفتها لا اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا سياسيا. غير أن الرد بصيغة ما على إسرائيل كان قد تحول أيضا إلى ضرورة يمليها تجنب المزيد من تراجع شرعية نظام الجمهورية الإسلامية في الداخل الإيراني الذي يشحنه آيات الله ورجال الدين والحرس الثوري منذ عقود بمقولات تحرير فلسطين والمقاومة والعداء للصهيونية.
إقليميا، ضربت تل أبيب هيبة طهران في مقتل بهجماتها المتكررة على مواقع ومصالح إيرانية منذ نشبت حرب غزة ومن قبلها. وكان الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، عاصمة الحليف الإقليمي الأهم لطهران ومكان تواجد نوعي مؤثر للحرس الثوري وقريب من الوكلاء الإقليميين الآخرين «حزب الله» في لبنان وميليشيات الحشد الشعبي في العراق، أمرا يستحيل على صناع القرار الإيرانيين عدم الرد عليه أو تركه للوكلاء إن في لبنان والعراق أو في اليمن للرد عليه نيابة عن السيد والراعي الكبير في طهران. إلا أن الحسابات الإيرانية كانت تبحث عن صيغة للرد المنضبط الذي لا يدفع إسرائيل إلى المزيد من التصعيد بأعمال عدائية جديدة إن ضد مواقع ومصالح ووكلاء طهران في الإقليم أو ضد أهداف في الداخل الإيراني.
يبدو استعراض القوة المنضبط والخالي من الآثار المدمرة الذي قامت به إيران في الثالث عشر من الشهر الجاري منطقيا ومستندا إلى حساب دقيق لما تقدر عليه الجمهورية الإسلامية ولما لا تستطيعه اليوم
فطهران كانت تدرك أن المزيد من التصعيد يمكن أن يعني نزوعا إسرائيليا نحو ضربات واسعة ضد الوجود الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وضد الوكلاء الإقليميين الذين استثمرت إيران عسكريا وماليا وسياسيا في بناء وتطوير قدراتهم. بل كانت طهران تدرك أن تل أبيب قد تنتهز فرصة هجوما إيرانيا واسعا ضدها لكي تتحرك لضرب المشروع النووي الإيراني واستدعاء الدعم الغربي لتحركها رافعة لافتة التهديد الوجودي للدولة العبرية. لذلك لم يرد صناع القرار في طهران ردا واسعا، بل بحثوا عن استعراض للقوة مأمون العواقب في اليوم التالي، على الأقل إلى حد ما.
أرادت طهران أن يحمل ردها العسكري أو استعراضها للقوة إدخالا لعامل ردع جديد في معادلة الصراع بينها وبين تل أبيب، وهو قدرتها على مهاجمة إسرائيل بصورة مباشرة من الأراضي الإيرانية. فقد دللت الأعمال العدائية المتكررة من قبل إسرائيل ضد مواقع ومصالح إيران أن لعبة طهران في الرد عبر الوكلاء ومن ساحات مختلفة ليست بكافية لردع الدولة العبرية أو للحفاظ على هيبة إيران في ناظر حلفائها الإقليميين وفي ناظر الأطراف الأخرى التي لها مع طهران علاقات طبيعية كتركيا والإمارات أو تنفتح عليها تدريجيا إن لاستعادة الأمن الإقليمي أو للحفاظ على المتبقي من استقرار في الشرق الأوسط كالسعودية ومصر.
ولا شك في أن صناع القرار في طهران بإدخال الرد المباشر كعامل ردع جديد إزاء إسرائيل كانوا يفكرون في نظرة القطاعات الشعبية المتأثرة بمقولات المقاومة والممانعة على امتداد الإقليم إلى إيران بعد ما غاب دورها منذ نشبت حرب غزة ولم يفعل مبدأ وحدة ساحات المقاومة لحماية الشعب الفلسطيني بعد أن ورطته حماس في السابع من أكتوبر 2023. مثل الرد المباشر من طهران بصيغة استعراض قوة محسوب النتائج والعواقب تجاه تل أبيب، إذا، فرصة لإنقاذ شيء من مصداقية طهران في أعين المقتنعين بمقولات المقاومة بعد أن رتب لا فعل آيات الله ورجال الدين فيما خص غزة شكوكا واسعة في نواياهم وقدراتهم وبدت أطراف إقليمية أخرى كمصر والأردن والسعودية والإمارات أكثر قدرة على الفعل والحركة والمناورة إقليميا ودوليا.
دوليا، استند صناع القرار في طهران إلى محددين هما أولا ضرورة الامتناع عن رد مباشر ضد تل أبيب يستدعي تأييد واشنطن والعواصم الأوروبية لتصعيد عسكري واسع النطاق من قبل إسرائيل في أعقاب الرد الإيراني، وثانيا حتمية الظهور عالميا بمظهر الدولة المعتدى عليها بعد الهجوم على قنصليتها في دمشق، والقنصلية هي وفقا للقانون الدولي العام أرض إيرانية، والتي تعمل حقها في الدفاع الشرعي عن النفس برد منضبط ومحدود على الدولة المعتدية.
تنبع أهمية المحدد الأول من قناعة نظام الجمهورية الإسلامية بحضور التربص والرغبة في عمل عسكري واسع ضدها من قبل إسرائيل التي تريد ومنذ سنوات الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، وبحتمية الحيلولة دون إعطاء الفرصة لتل أبيب للحصول على التأييد الأمريكي والأوروبي لمثل ذلك العمل العسكري الذي لا يريده آيات الله ورجال الدين لا اليوم ولا غدا. أما المحدد الثاني فكان من جهة محرك البيان الذي أصدرته بعثة الجمهورية الإسلامية في الأمم المتحدة ليله «هجوم» المسيرات والصواريخ الإيرانية على إسرائيل والذي أكدت به طهران على أن هجومها هو عمل للدفاع الشرعي عن النفس ولا يبتغي المزيد من التصعيد بين البلدين، ومن جهة أخرى كان مبدأ الدفاع المنضبط عن النفس هو فحوى الرسائل الإيرانية للدول العربية المركزية ولتركيا وللغرب في الولايات المتحدة وأوروبا.
وحين توضع كافة محددات الأوضاع الداخلية والإقليمية والدولية كما أدركها صناع القرار في طهران وهم يعدون لردهم المباشر على تدمير تل أبيب للقنصلية في دمشق، سيبدو استعراض القوة المنضبط والخالي من الآثار المدمرة الذي قامت به إيران في الثالث عشر من الشهر الجاري منطقيا ومستندا إلى حساب دقيق لما تقدر عليه الجمهورية الإسلامية ولما لا تستطيعه اليوم، لما أرادته من إدخال عنصر الرد المباشر إلى معادلة مواجهتها مع إسرائيل ولما أرادت تجنبه من حرب مفتوحة وصراع واسع. والأمر هنا يظل بعيدا عن مقولات المقاومة والممانعة مرتفعة الصوت ومنخفضة المضمون مثلما يظل بعيدا عن احتمالية نزوع إسرائيل إلى الرد التصعيدي واسع النطاق وفقا لحسابات الدولة العبرية ومعادلات القوة المعقدة داخل حكومتها ولحظة التهديد الوجودي التي يشعر به مواطنوها منذ السابع من أكتوبر 2023.