رغم أن الهجوم الجوي والصاروخي الإيراني على إسرائيل لم يكن مفاجئا، وإنما تم إبلاغ الولايات المتحدة به، وكذلك الدول المجاورة المعنية لاتخاذ ما يلزم من إجراءات احتياطية مثل إغلاق المطارات قبله بـ72 ساعة على الأقل، فإن المفاجأة الحقيقية لإسرائيل كانت في قدرة إيران على توجيه هذا الكم الهائل من وسائل الهجوم تجاه إسرائيل، وقدرت المخابرات العسكرية الإسرائيلية كمية الأسلحة التي استخدمتها إيران في الهجوم بأكثر من 350 قطعة ضمت طائرات مسيرة متفجرة وصواريخ كروز وصواريخ باليستية. وقامت وسائل الدفاع الجوي الأمريكية والبريطانية وغيرهما بمشاركة عملياتية ومعلوماتية مع دول أوروبية منها فرنسا، وعربية لم يتم الإعلان عن أسمائها، باعتراض وإسقاط الطائرات المسيرة كافة، وصواريخ كروز، التي يستغرق وصولها إلى إسرائيل ساعتين أو أكثر، بينما فشلت منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلي في اعتراض عدد من الصواريخ الباليستية، كان منها خمسة صواريخ أصابت قاعدة «رامون- نيفاتيم» الجوية في النقب، التي تعسكر فيها طائرات إف- 35 المتقدمة. ويقدر خبراء الشؤون العسكرية والاستراتيجية في إسرائيل أن الهجوم الإيراني، رغم الخسائر المحدودة جدا بشريا وماديا وعسكريا، كشف عن نقاط ضعف استراتيجية مهمة في المواجهة مع إيران.
الهجوم الإيراني كان مجرد جولة استطلاعية أولية بالذخيرة الحية، أثبت أنها تستطيع اختراق المجال الجوي لإسرائيل والوصول إلى أهم قواعدها الجوية وأن تصيبها
ضرب أهم قاعدة جوية إسرائيلية
في اعتقادي أن الرسالة الرئيسية للضربة الجوية كانت إثبات القدرة على تهديد أهم القواعد الجوية الإسرائيلية، التي تنطلق منها طائرات إف- 35. وقد تعرضت القاعدة فعلا لأضرار مادية وعسكرية، رغم البيانات الإسرائيلية التي زعمت أن الأضرار طالت بعض المنشآت فقط. ضرب قاعدة «رامون – نيفاتيم» الجوية الحصينة بخمسة صواريخ باليستية يعتبر، من وجهة نظري، الرسالة الحقيقية الرئيسية للضربة الإيرانية، وما عداها كانت مجرد عمليات للتشتيت ومحاولة صرف الأنظار عن الهدف الرئيسي. فتلك هي القاعدة التي انطلقت منها الطائرات التي نفذت الهجوم على مقر البعثة الدبلوماسية في دمشق في أول الشهر الحالي. وطبقا للتقاليد العسكرية المعروفة فإن البيانات الصادرة بشأن الخسائر العسكرية يجب أن لا تتضمن الإعتراف بحدوث خسائر في المواقع العسكرية الحساسة، وذلك طبقا لخبرتي العملية في غرفة عمليات قوات الأمم المتحدة في العراق، بعد الغزو الأمريكي، وخلال فترة الحرب ضد «داعش». وباستثناء الإصابات التي تعرضت لها القاعدة، التي شملت طبقا لتقارير مخابراتية أمريكية إصابة طائرة نقل عسكرية طراز سي- 130، والمهبط الرئيسي للطائرات، وعدد من منشآت التخزين، فإن هناك ثلاثة اعتبارات تحكم تحديد طبيعة الهجوم الإيراني وتقييم نتائجه.
الاعتبار الأول يتعلق بغياب عنصر المفاجأة في توقيت الهجوم. ونظرا لأن إيران اتفقت بطريق غير مباشر مع الولايات المتحدة على إبلاغها بأنها ستشن عملية عسكرية عقابية محدودة ضد إسرائيل، وأنها ستبلغها بالقرار قبل 72 ساعة من إطلاق العملية، فلم يكن هناك عنصر مفاجأة على الإطلاق. ومن هذا المنظور لا يعتبر الهجوم الإيراني حربا على إسرائيل. أما من ناحية الهدف فإن طهران أكدت في مشاوراتها أن الهجوم، كما قال السيد علي خامنئي، هو ضربة عقابية، لن تكون حربا مفتوحة ولا إقليمية، ومن ثم فإن الاستعدادات الأمريكية والإسرائيلية تركزت على تكثيف إجراءات الوقاية من الهجوم الإيراني، حتى لا يصل أكبر عدد ممكن من الأسلحة الإيرانية إلى داخل إسرائيل. وبالفعل فقد تم اعتراض وإسقاط الطائرات المسيرة والصواريخ الكروز في المجال الجوي الأردني والسوري وربما العراقي، قبل أن تدخل إلى المجال الجوي الإسرائيلي، لكن عددا من الصواريخ الباليستية الأسرع في الوصول – حوالي 10 دقائق بعد إطلاقها- أصاب أهدافا في داخل إسرائيل، منها القاعدة الجوية الكبرى في صحراء النقب، وهي ثاني أهم المواقع الاستراتيجية المحصنة بمنظومات الدفاع الجوي في إسرائيل، بعد مفاعل ديمونة النووي الجديد. ومن المرجح أن عددا آخر من الصواريخ الباليستية أصاب مواقع أخرى، طبقا لبيانات عسكرية حاولت طمأنة السكان في أماكن مختلفة بأن أصوات الانفجارات التي كانوا يسمعونها هي نتيجة لاعتراض صواريخ باليستية في الفضاء الخارجي.
باستخدام معيار المفاجأة فإن الهجوم الجوي الإيراني لا يحمل طابع الحرب لانعدام عنصر المفاجأة. وباستخدام معيار الهدف الذي استبعد منذ البداية حربا مفتوحة، أو إقليمية، فإن الهجوم حقق هدفه عند الحد الأدنى تقريبا، لأن ضرب قاعدة نيفاتيم لم يسفر عن تدمير طائرة ولا مقتل جندي أو تحقيق إصابات على نطاق واسع، لكن الهجوم برهن في الوقت نفسه على أن إيران قررت أن تتدخل مباشرة دفاعا عن نفسها، وهو ما يعزز قوة التحالف الإقليمي المعادي لإسرائيل، بإضافة قوة إيران المباشرة إلى قدرات التحالف الحالية في لبنان وسوريا والعراق واليمن. وفي هذا السياق فإن إيران أثبتت أن لديها القدرة على اختراق إسرائيل جوا، وتهديدها عسكريا. وقد استنتج أحد الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، أن أحد الدوافع التي جعلت طهران تصر على القيام بالهجوم يتمثل في رغبتها في إعادة صياغة معادلة الردع الاستراتيجي ضد إسرائيل.
تقييم نتائج الهجوم
رغم غضب واشنطن، بسبب عدم إبلاغها مسبقا بالهجوم على السفارة الإيرانية في دمشق أول الشهر الحالي، فإن إدارة بايدن أظهرت أقصى قدر من التأييد لإسرائيل والوقوف إلى جانبها، بعد أن فشلت خلال الأيام العشرة الأخيرة في ردع إيران ومنعها من توجيه ضربة عقابية إلى إسرائيل. واشنطن هي التي نسقت عملية إقامة تحالف عملياتي ضم عددا من دول المنطقة، لحماية المجال الجوي الإسرائيلي من الأسلحة الإيرانية، ما يعني من الناحية العملية أن اسرائيل واجهت الهجوم الإيراني ضمن تحالف دولي للمرة الأولى وليس وحدها، شاركت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ودول عربية. وفي الوقت نفسه فقد تضمنت المشاورات بين الولايات المتحدة وإسرائيل خلال الأيام الثلاثة السابقة للهجوم الإيراني رسالة صريحة إلى نتنياهو بعدم الرد، حتى لا تتصاعد تداعيات ذلك وتخرج المواجهة عن نطاق السيطرة. وعلى الرغم من النجاح العملياتي ضد الهجوم الإيراني، فقد رصد الجنرال تامير هايمان المدير السابق للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، مدير معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب حاليا (INSS) مجموعة من المؤشرات التي كشفت عن وجود تعقيدات استراتيجية في الصراع ضد إيران، حتى بمساعدة الولايات المتحدة. من تلك المؤشرات أن واشنطن فشلت في ردع إيران عن شن الهجوم على إسرائيل، وهو ما يجعلها نظريا مكشوفة لهجمات أخرى محتملة. في هذا الصدد فإني أعتقد أن أحد خيارات إيران ربما كان أن ينجح مجلس الأمن في إصدار قرار بإدانة العدوان الإسرائيلي على مقر بعثتها الدبلوماسية في دمشق، وقتل سبعة من مستشاريها العسكريين. وبناء على هذا الفشل اتخذت طهران قرارها الذي أعلنه المرشد العام السيد علي خامنئي بوجوب «عقاب» إسرائيل على فعلتها.
حاليا توجد أصوات إسرائيلية تعمل على استثمار الموقف الحالي لدفع الولايات المتحدة إلى اتخاذ موقف أكثر تشددا تجاه إيران. يقول مئير بن شبات مدير معهد ميسغاف لدراسات الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية، رئيس هيئة الأمن القومي سابقا، مخاطبا الولايات المتحدة بقوله، إن هذا الهجوم يقدم للرئيس الأمريكي فرصة لإعادة بناء سياسته تجاه الشرق الأوسط، وتعزيز قوة التحالف الغربي في المنطقة ضد إيران كدولة معادية، تشارك إلى جانب روسيا في حرب أوكرانيا، وتسعى لتقويض فرصة الولايات المتحدة في إقامة نظام عالمي جديد. وقال إن الهجوم يسلط الضوء مباشرة على الدور الإيراني في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، بعد أن كانت الأضواء مسلطة من قبل على دور حلفائها في المنطقة.
ونختتم هنا بالقول إن الهجوم الإيراني كان مجرد جولة استطلاعية أولية بالذخيرة الحية، أثبت أنها تستطيع اختراق المجال الجوي لإسرائيل والوصول إلى أهم قواعدها الجوية وأن تصيبها، وربما كان من الأفضل عملياتيا تركيز الهجوم الرئيسي على هدفين عسكريين كبيرين، قاعدة جوية ومركز لإحدى منظومات الدفاع الجوي مثلا، وإحداث خسائر عسكرية محسوبة بدقة في إطار استراتيجية الفعل المكافئ، ردا على الضربة الإسرائيلية لمقر البعثة الدبلوماسية الإيرانية في دمشق. إيران قالت إنها تكتفي الآن بالهجوم، وتوعدت إسرائيل بأنها في حال التصعيد سترد بقوة أكبر. وفي المقابل فإن إسرائيل التي تملك حتى الآن أكبر قوة جوية إقليمية، وتتمتع بمزايا تحالف دولي مؤيد لها قالت، إنها وضعت خططا للدفاع والهجوم في حال أي تصعيد من جانب إيران، ورغم الاهتمام العالمي بالدعوة إلى التهدئة ومنع التصعيد، فإن دخان المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية لم يحجب المشهد في غزة عن الأنظار. وما تزال غزة تنتظر شروق فجر يوم جديد تنعم فيه بالأمان.