إذا كان لا بد من استخلاص بعض النتائج من المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية المباشرة، فإن أبرز تلك النتائج يمكن إيرادها على النحو التالي:
أولاً: إن ثمة إجماعاً دولياً على منع تحول هذه المواجهة إلى حرب إقليمية شاملة يمكن أن تتحول إلى حرب عالمية تجر إليها أطرافاً آخرين يرتبطون إلى هذا الحد أو ذاك بإسرائيل أو بإيران. وقد برز هذا الإجماع في رفض توسيع الحرب في موقف الولايات المتحدة الأميركية أولاً، ثم في المواقف الأوروبية. كما أن الصين وروسيا اللتين ترتبطان بعلاقات جيدة مع إيران تتمسكان برفض التصعيد والانجرار إلى اشتباك مفتوح.
ثانياً: أظهرت المواجهة قدرة إيران على حشد مئات الصواريخ والطائرات المسيرة وإطلاقها باتجاه إسرائيل، وبينت في المقابل قدرة إسرائيل على التصدي لهذه الأسلحة، وعلى شن هجمات في العمق الإيراني نفسه، إن عبر مجموعات عاملة على الأرض أو بواسطة سلاحها الجوي، وفي عملية أصفهان الأخيرة أبلغت الدولة العبرية طهران بقدرتها على خرق نظامها الأمني والوصول بسهولة إلى منشآتها النووية المنتشرة في محيط المدينة الإيرانية وأماكن أخرى.
ثالثاً: لكن ذلك لا يعني أن بإمكان إسرائيل أو إيران شن حرب مفتوحة ضد بعضهما بعضاً، حتى لو رغبتا في ذلك. فأي حرب من هذا النوع ستشمل الشرق الأوسط، وقد أظهرت تطورات الأسابيع الأخيرة أنه لا حرب إسرائيلية جدية ضد إيران من دون مشاركة الولايات المتحدة، وأن أقصى ما يمكن أن تطمح إليه إيران هو فرض “معادلة ردع” جديدة على إسرائيل لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت المواجهتان الأخيرتان تسمحان بها.
معادلة الردع الجديدة تفترض كبح حرية الحركة الإسرائيلية في مواصلة عملياتها في سوريا ضد “الحرس الثوري” وميليشياته، وربما تفترض إيران أنها بلجوئها للمرة الأولى منذ قيام النظام الخميني إلى إطلاق صواريخها مباشرة ضد إسرائيل أنها ستتمكن من جعل الدولة العبرية تتوقف عن خوض “حرب الظلال” السرية التي تخوضها داخل إيران لمنعها من استكمال مشروعها النووي.
وفي الحالتين، فإن وقف “المعركة بين حربين” في سوريا، ووضع حد لـ”حرب الظلال” داخل إيران نفسها سيعدان مكسباً هائلاً لنظام المرشد، يمكن توظيفه لتدعيم النظام نفسه من جهة، ولتوطيد “محور المقاومة والممانعة” الذي يتولى مهمة تثبيت النفوذ الإيراني الإقليمي تحت شعار محاربة إسرائيل.
لقد حاولت إيران منذ سنوات طويلة الدفع باتجاه فرض معادلات ردع بين أذرعها والحكومات الوطنية القائمة. وحققت نجاحات مدوية في عدد من البلدان العربية في العراق ولبنان واليمن لم تعد التنظيمات الموالية لإيران مجرد فصائل مسلحة هامشية، بل تحولت باتباعها وسائل الإرهاب والتخويف والخروج على الشرعية إلى ركن من أركان شرعية جديدة مفروضة، وعندما تتحدث إيران اليوم عن حكومات هذه الدول فإنها تصنفها حكومات مقاومة شقيقة.
لكن ذلك لم يكن سوى خطوة أساس على طريق محاولة رسم المعادلة الأهم مع “العدو الصهيوني”، التي توفر المشروعية اللازمة للمخطط الإيراني الأصلي في توسيع مناطق نفوذه وحماية النظام الإلهي في طهران .
اقرأ المزيد
كيف يمكن لأميركا أن تمنع الحرب بين إيران وإسرائيل؟
إيران وعملاؤها يستهدفون الأردن
إيران تقلل من أهمية الهجوم الإسرائيلي وتستبعد الرد
لقد انفردت إسرائيل منذ قيامها بوصفها قوة الردع الأقوى في الإقليم. في 1967 كان يكفي أن تغلق مصر المضائق لترد باحتلال سيناء والضفة الغربية والجولات في ستة أيام. وفي 1973 عندما هددت الجيوش العربية منظومة الردع الإسرائيلية سرعان ما استعادت الدولة العبرية المبادرة. وفي المرتين لعبت الولايات المتحدة دور الراعي والداعم والأب الحنون بلا حساب.
في عام 1982 أيضاً، أنهت إسرائيل حضور منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان بحجة اغتيال سفيرها لدى لندن، وخاضت في حينه معركة انتهت باحتلال عاصمة دولة عربية مستقلة. تبلورت ملامحه في سياسات الردع المتبادل الموقت مع تولي “حزب الله” (المقاومة) ضد الاحتلال في جنوب لبنان بقيادة إيران ورعاية نظام الأسد الأب. وكان اتفاق 1996 لوقف الحرب في جنوب لبنان بمثابة اتفاق إسرائيلي – إيراني – سوري يكرس للمرة الأولى توازن ردع قوامه حق الرد لدى التعرض للمدنيين، لكن مفاعيل هذا الاتفاق انتهت بانتهاء محاولات السلام الإسرائيلية – السورية ثم مع الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني بعد أربعة أعوام.
استلهمت إيران اتفاق 1996، ثم حالة الخروج العامة على القرار 1701 إثر حرب يوليو (تموز) 2006 بين “حزب الله” وإسرائيل، لمحاولة فرض معادلات ردع مماثلة في الداخل الفلسطيني بين منظمات المقاومة والقيادة الإسرائيلية، لكن تلك المحاولات انتهت إلى نتيجتين، الأولى ضرب مشروع السلطة الفلسطينية، والأخيرة ضرب أسس حياة الشعب الفلسطيني في العيش والأمان والوحدة.
اعتمدت إيران التنظيمات الإسلامية في غزة منصة لاستراتيجيتها. وفور إنجاز انقلاب 2007 ضد “حركة فتح” والسلطة الوطنية، بدأت سلسلة من الحروب التي لا تنتهي بين “حماس” وإسرائيل: “الرصاص المصبوب” في 2008، وانتهت إلى مصرع 1436 فلسطينياً وخسائر تقدر بمليار دولار، ثم حرب 2012، اسمها الإسرائيلي “عمود السحاب”، والحمساوي “حجارة السجيل” ونتيجتها مقتل 162 فلسطينياً وهدم 12 ألف مسكن و60 ألف مشرد بلا مأوى.
بعد عامين ستقع الحرب الثالثة في 2014، “الجرف الصامد” الإسرائيلي في مواجهة “العصف المأكول ” حسب تسمية ” حماس”. بعد 51 يوماً كانت النتيجة سقوط 2322 فلسطينياً وجرح 11 ألفاً ودمار لا محدود وتوتر سيستمر وينمو بين قطاع محاصر ودولة محتلة.
لم تنجح محاولات فرض “توازن قوى” جديد في غزة وعبرها. وكانت التجربة اللاحقة مع تكريس إيران جهودها لبناء “محور مقاوم” في “ساحات موحدة”. ازدهرت نظرية وحدة الساحات منذ اغتيال اللواء قاسم سليماني، وبلغت ذروتها مع تولي خليفته اللواء إسماعيل قاآني قيادة اجتماعات فصائل الساحات الموحدة، وجاء “طوفان الأقصى” ليمتحن النظرية على أرض الواقع، فتولت إسرائيل، بدموية فائقة، إسقاط النظرية والبرنامج في آن واحد.
تطلعت إيران إلى معادلة ردع بين فصائلها وإسرائيل تسمح لها بترسيخ معادلة من صنفها بينها وبين الدولة العبرية، لكن إسرائيل عدت المحاولة الإيرانية “تطويقاً نارياً” لها، لا يمكن التعايش معه، فخرقت السقوف في ردودها: قتل وتهجير ودمار في غزة، وإرهاب واعتقال في الضفة، وتدمير واصطياد على الحدود اللبنانية، واغتيال لقادة “الحرس الثوري” في سوريا، في قنصلية تعد أرضاً إيرانية.
وبعد، هل ستنشأ المعادلة التي أرادتها طهران؟ لا شيء يوحي بذلك. وفي انتظار فهم ما ستفعله الولايات المتحدة التي أدارت حتى الآن خلافاً إيرانياً – إسرائيلياً، بدا أنه يمكن التفاوض في شأنه، ستبقى احتمالات التصعيد، خصوصاً في فلسطين وجنوب لبنان قائمة، ما دامت قواعد الاشتباك السابقة قد زالت، ولم تتضح بعد معالم قواعد بديلة.