المواجهة بين حزب الله وإسرائيل في المعادلة الإقليمية والجيوسياسية الكبرى

المواجهة بين حزب الله وإسرائيل في المعادلة الإقليمية والجيوسياسية الكبرى

أولًا: مقدمة
اندلعت المواجهات على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية في اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى، فقد أعلن حزب الله عن حرب إسناد ودعم للمقاومة الفلسطينية في غزة، وهي في تصاعد مستمر، وتكاد تصبح جبهة قائمة بذاتها، خاصة بعد الضربات المباشرة المتبادلة بين إسرائيل وإيران.

تسعى هذه الورقة إلى توصيف وتحليل الإستراتيجيات المتقابلة بين حزب الله اللبناني والجيش الإسرائيلي، في الحرب الجارية عبر الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. تقارب الورقة هذه الإستراتيجيات من ضمن اللعبة الجيوسياسية الإقليمية الدائرة بين كل من إيران وإسرائيل، مع الأخذ بالاعتبار الحضور والتأثير الأميركي.

تكمن أهمية الإستراتيجية في أنها ذلك الفعل (Course of Action) والعمل الدؤوب الذي يربط الأهداف بالوسائل المتوافرة. وعلى الإستراتيجية بشكل عام، أن توازن بين الهدف والوسيلة المستعملة، وبشرط ألا يتعدى حجم الأهداف حجم الوسائل المتوافرة. من هنا قد يمكن القول: إن الإستراتيجية هي كائن حي يتبدل ويتغير حسب ظروف الحرب السائدة، وما يعكسه مسرح الحرب من مفاجآت وتطورات لم تُؤخذ بالحسبان عند التخطيط.

ثانيًا: الصراع الإقليمي والمسلَّمات الجيوسياسية
إن المسلَّمات الجيوسياسية للفاعلين الأساسيين في الإقليم، إيران وإسرائيل إضافة إلى أميركا، هي التي تفرض إيقاع الحرب وزخمها، كما تحدد إطارها وضوابطها. وهذه المسلمات أيضا هي التي تفرض الإستراتيجيات العسكرية على كل من إيران وإسرائيل، وهي من تحدد دور حزب الله اللبناني كفاعل مركزي في الصراع الدائر حاليًّا.

ويمكن مقاربة مسلمات كل طرف وفق الآتي:

مسلَّمات إيرانية: تنظر إيران إلى نفسها اليوم، كما في الماضي على أنها “امبراطورية” ذات حضور تاريخي في المنطقة. وذلك بغض النظر عن الأيديولوجيات المعتمدة، الدينية منها كما القومية. أراد شاه إيران الراحل، محمد رضا بهلوي، وتحت شعار “القومية الفارسية”، أن يكون الفاعل الرئيسي في المنطقة حتى وُصف بشرطي الخليج، وذلك من خلال صراعه مع القومية العربية آنذاك والمتمثلة بالرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر. لكن بعد النكسة العربية في حرب الأيام الستة، العام 1967، تبدلت معادلات القوة في المنطقة. كما تبدل الخطاب الإيراني تجاه مصر، خاصة أن مصر لم تعد تشكِّل ذلك الخطر الوجودي على “القومية الإيرانية”، وعلى وحدة الأرض. لذلك، وقبيل طرد الرئيس أنور السادات للمستشارين السوفيت من مصر، زارت غولدا مائير إيران لتخرج وتقول لأحد مساعديها: “لم يعد الشاه كما كان”(1).

حاليًّا، يمتد نفوذ إيران وتحت عنوان المقاومة وأيديولوجيا دينية من منطقة الخليج إلى سواحل لبنان، مرورًا بكل بلدان الهلال الخصيب كما باب المندب. ويمكن القول: إن المسلَّمات الجيوسياسية الإيرانية التاريخية لا تزال كما هي، لكن المتغير هو الأيديولوجية الدينية. لذلك، وباختصار، وفق هذا التحليل تتمظهر مسلَّمات إيران على الشكل التالي(2):

السيطرة على مركز الثقل الإيراني الجغرافي والمتمثل بالمنطقة الواقعة بين مجموعة جبال البرز (تمتد من جنوب أذربيجان) وزاغروس (غرب إيران وشرق العراق). في هذه المنطقة يقع مركز الثقل الإيراني البشري كما السياسي.
السيطرة على الداخل وإدارة التنوع الإثني والديني والمذهبي الداخلي.
وأخيرًا وليس آخرًا، العمل على عدم قيام نظام سياسي معاد في العراق (قديمًا بلاد ما بين النهرين)، خاصة أن الخطر الوجودي على إيران كان يأتي من الغرب، أي جهة العراق. كان العراق ممرًّا للإسكندر الكبير الذي أطاح بداريوس الثالث. وكانت الحرب مع العراق، العام 1980-1988، والتي قُتِل فيها مئات الآلاف من الإيرانيين، ولا تزال تؤثر بشكل كبير على العقل العسكري الإيراني كما السياسي في كيفية رسم الإستراتيجيات الكبرى. من العراق أتى التهديد الأميركي لإيران في العام 2003. ومن العراق أتى تهديد تنظيم الدولة الإسلامية، داعش على “إيران”، والذي بدوره أعاد الأميركيين إلى الوجود عسكريًّا في العراق. كذلك الأمر، يمثل العراق “التهديد الأساسي” للثروة الطبيعية الإيرانية بسبب وجود أغلب هذه الثروة على الحدود المشتركة للبلدين في الجنوب الشرقي للعراق.
تعتبر هذه المسلَّمات الإيرانية مسلَّمات تاريخية ثابتة ثبات الجغرافيا، التاريخ كما الحضارة. لكن مع مرور الزمن، تتمظهر مسلمات ظرفية تنتج عن ديناميكية الصراع القائم حاليًّا. وفي هذا الإطار، قد يمكن القول: إن مسلمات إيران الظرفية تقوم على ما يلي:

ديمومة النظام الإسلامي في إيران والحفاظ عليه.
الصمود في وجه التحديات التي تفرضها الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى التحديات الإسرائيلية.
العمل على رسم وتحديد منطقة نفوذ في المحيط المباشر، كما في الإقليم، وذلك باستغلال الفراغ الإستراتيجي والذي كانت الولايات المتحدة الأميركية مسؤولة عنه مباشرة، بعد إسقاط نظام الرئيس الراحل، صدام حسين.
الصمود قدر الإمكان في وجه أميركا، عبر الاتكال على الذات في كل الأبعاد، السياسية منها والاقتصادية كما العسكرية.
وأخيرًا، اعتماد إستراتيجية عدم التماثل (Asymmetry) في كل الأبعاد العسكرية وفي كل الصناعات. بكلام آخر، سعت إيران إلى تحقيق التكافؤ الإستراتيجي (Strategic Parity) مع دول المحيط، خاصة إسرائيل المتفوقة تكنولوجيًّا، كما الولايات المتحدة الأميركية، عبر اعتماد عقيدة عسكرية لا تماثلية.
وهذه الأخيرة (العقيد العسكرية اللاتماثلية) ترتكز على الأبعاد التالية:

القتال بالواسطة وعبر “الوكلاء” أو الحلفاء؛ الأمر الذي يؤمِّن لها مردودًا إستراتيجيًّا كبيرًا مقابل استثمار متواضع.
القدرة على النكران والتنصل من أي عمل عسكري.
تؤمِّن هذه الإستراتيجية مبدأ “الدفاع المتقدم” (Forward Defense) لإيران، بحيث تقاتل دائمًا خارج أراضيها.
اعتمدت إيران على الصناعة العسكرية المحلية، عبر مبدأ “الهندسة العكسية” للتصنيع العسكري، بتقليد الصناعات المتقدمة. وللتعويض في النوعية (Quality) العسكرية للسلاح المُصنَّع محليًّا، اعتمدت إيران مبدأ الاستعمال الكمي (Quantity). تمظهرت هذه الفكرة في عملية “الوعد الصادق” ضد إسرائيل، في 13 أبريل/نيسان 2024.
وأخيرًا وليس آخرًا، لا تقاتل إيران بالأسلحة المشتركة (Combined) على غرار المفهوم الغربي للقتال المشترك، أي قتالًا منتظمًا ومشتركًا بين الأسلحة المتعددة: بر، بحر، جو، فضاء وحاليًّا سيبراني. لا بل هي تقاتل من ضمن المفهوم المشترك فقط، لكن دون التنفيذ الفعلي له. لديها سلاح جوي عبر المسيرات، لكنها لا تستعملها من ضمن هجوم بري مع المشاة. عمليًّا تقوم بدور المشاة “الجماعات” المدعومة من إيران، وتملك القدرة على المبادرة على المستويين، العملاني والتكتيكي، لكن دون المس بالمستوى الإستراتيجي والجيوسياسي. وأنصار الله الحوثيون يقاتلون في البحر في باب المندب ويقومون بهذا الدور، عبر التدخل المباشر في بحر العرب وحول مضيق هرمز.
مسلَّمات إسرائيلية: إن “إسرائيل القديمة” أو “اليهود” كانوا ضمن الإمبراطورية الفارسية (550-330 ق.م). حاليًّا، يمتد تأثير دولة إيران العسكري إلى محيط “دولة إسرائيل” الحالية، حتى ولو بالواسطة. لكن إيقاع اللعبة الجيوسياسية بين الدولتين، يحدده الأميركي بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة. فاللاعب الأميركي هو الحليف الأهم، والمُنقذ الوحيد لإسرائيل من الورطات الإستراتيجية التي تقع غالبًا فيها. أنقذ العم سام إسرائيل في حرب أكتوبر/تشرين الأول العام 1973. وها هو ينقذها اليوم من المأزق الإستراتيجي والجيوسياسي بعد عملية طوفان الأقصى، في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

تعاني إسرائيل من ثلاث معضلات لا حل لها، وقد يمكن القول: إنها مستعصية، وهي: الجغرافيا، والديمغرافيا ومن ثم الطبوغرافيا. إسرائيل بلد هش بالمعنى العسكري، لا عمق جغرافيًّا لها ولا طبوغرافيا، ولا يوجد حواجز طبيعية يمكن الاعتماد عليها للدفاع. أما الديمغرافيا، فحدِّث ولا حرج. تنقسم إسرائيل داخليًّا على عدة مستويات: منقسمة على هوية الدولة بين المتدينين الأرثوذكس، والعلمانيين. منقسمة على المستوى الإثني، بين السفارديم والأشكيناز، وبين من هم من أصل سلافي أو إثيوبي…إلخ.

في المحصلة، الكل في إسرائيل يتفق على حتمية الدفاع عن الكيان، لكن مع الاختلاف بالطريقة والكيف.

تعتمد إسرائيل عقيدة إستراتيجية كبرى، لكن من ضمن عقيدة عسكرية متحولة، ديناميكية ومتغيرة حسب ظروف الصراع ونوعيته. فبعد كل حرب تخوضها إسرائيل، تعمد إلى التعديل والتحديث في هذه العقيدة. هكذا قال المفكر الإستراتيجي الأميركي، إدوارد لوتواك(3).

وقد حدد مؤسس إسرائيل الحديثة، ديفيد بن غوريون، الصورة الكبرى للإستراتيجية الإسرائيلية وذلك منذ إنشاء الكيان، وترتكز على المثلث التالي:

اعتماد منظومة الردع: فالردع بالنسبة لإسرائيل هو أفضل وأقل كلفة من الذهاب إلى الحرب.
الإنذار المبكر: خاصة أن إسرائيل لا تتمتع بالعمق الجغرافي. من هنا هاجس إسرائيل الدائم بإنشاء مناطق عازلة بالقوة، أو عبر ملاحق أمنية لأية معاهدة سلام مع دول المحيط.
وأخيرا وليس آخرًا، وفي حال الحرب السعي الدائم إلى الحسم السريع، مع محاولة تدمير العدو وقدراته إلى درجة لا يمكنه تعويضها بسرعة.
ولخدمة هذه الإستراتيجية الكبرى، لابد من توافر أمرين مهمين، هما: أولًا: تأمين حليف دولي ذي قدرات كبيرة سواء سياسية أو عسكرية. تلعب هنا الولايات المتحدة دور الراعي. ثانيًا: بناء جيش ذي قدرات عالية يملك أحدث التكنولوجيا في العالم.

ولأن إسرائيل تعاني من البُعد الديمغرافي، اعتمدت مبدأ الجيش الصغير، مع القدرة على استدعاء الاحتياط للقتال في حالات الطوارئ. وهذا أمر سلبي على الأمن القومي الإسرائيلي خاصة أن عناصر الاحتياط يعتبرون العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي. تبنَّى هذا الجيش عقيدة القتال ضد “الإرهاب” من الجيش الإنكليزي، ومن أفكار الجنرال ريجنالد ونغيت (1861-1953). تبنى الجيش الإسرائيلي من البحرية الإيطالية، مبدأ قتال القوات الخاصة البحرية. كما تبنى فكرة الهجوم والمناورة من الجيش الألماني، وذلك باعتماد فكرة الحرب الخاطفة (حرب البرق)(4).

وما بين العقيدة الإستراتيجية الكبرى، وعقيدة القتال العسكرية، تبنَّت إسرائيل مبدأ الحرب بين الحروب، وهي سلسلة من العمليات العسكرية لا ترقى إلى حرب، تستهدف النفوذ الإيراني في سوريا. وبذلك قد يمكن القول: إن إسرائيل هي في حالة “الحرب المُستدامة” (Perpetual War)(5).

تتجنب إسرائيل القتال على عدة جبهات وفي نفس الوقت. في “حرب الأيام الستة” (1967)، ثبتت إسرائيل الجبهة السورية، وقاتلت على الجبهة المصرية. وبعد الانتهاء من الحرب على مصر، انتقل الجيش الإسرائيلي للقتال على جبهة الجولان. في العام 1973، وخلال حرب أكتوبر/تشرين الأول، اضطرت إسرائيل إلى القتال على جبهتين وفي نفس الوقت.

في الحرب الدائرة اليوم في غزة وعلى الجبهة اللبنانية، تعتمد إسرائيل إستراتيجية تثبيت جبهة لبنان، واعتبار غزة مركز الجهد الرئيسي للحرب. هذا مع العلم أن إسرائيل، وحسب بعض المسؤولين فيها، تقاتل على جبهات متعددة، تبدأ من غزة، وتصل إلى إيران مرورًا بالضفة الغربية، ولبنان، وسوريا، والعراق، واليمن.

إذن، هذه هي صورة الصراع الجيوسياسي في المنطقة، خاصة بين إيران وإسرائيل، مع الوجود الأميركي المؤثر والذي يعتبر مدير المسرح الحربي الأساسي في المنطقة.

ثالثًا: الحرب على الجبهة اللبنانية
تلعب ضوابط الحرب بين حزب الله والجيش الإسرائيلي دورًا أساسيًّا في المواجهة الحالية، وذلك انطلاقًا من المستوى الجيوسياسي، وحتى التكتيكي مرورًا بالمستوى العملاني.

بمقارنة بين هذه الحرب، وحرب يوليو/تموز العام 2006، تظهر عملية التأقلم للفريقين، خاصة حزب الله، لأنه وفي المُطلق، كان يعد لحرب دفاعية ضد الجيش الإسرائيلي -الذي يعتمد مبدأ الهجوم والمناورة- باعتبار أن هذا ما حصل في حرب يوليو/تموز. والجدير بالذكر أن إسرائيل كانت قد خاضت ضد الحزب عمليتين مشابهتين للحرب الدائرة اليوم، وذلك في العام 1993 (تصفية الحساب بالتسمية الإسرائيلية)، والعام 1996 (عناقيد الغضب بالتسمية الإسرائيلية). لكن حزب الله اليوم، ليس هو الحزب الذي كان في تلك الفترة. فبعد تلك الفترة انسحبت إسرائيل من لبنان تحت ضغط المقاومة في العام 2000، ليعود حزب الله لخوض حرب يوليو/تموز 2006 ضد إسرائيل. كما ذهب الحزب للقتال في سوريا إلى جانب جيش قوة عظمى هي روسيا، والى جانب الجيش السوري. لكن الأكيد، أن حرب اليوم في جنوب لبنان، هي حرب مختلفة عن الحرب في سوريا، حتى إنها مختلفة عن حرب يوليو/تموز. فما إستراتيجيات هذه الحرب؟ وما التكتيكات المتبعة؟

في الضوابط: في الصورة الجيوسياسية الكبرى للحرب الدائرة بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، قد يمكن القول: إن القرارات الجيوسياسية بيد كل من إيران والولايات المتحدة الأميركية. الفريقان لا يريدان حربًا إقليمية شاملة، من هنا التقييدات على المتقاتلين. فالقرارات العملانية والتكتيكية هي بيد من يقاتل على الأرض، لكن شرط ألا تتخطى هذه القرارات الضوابط الكبرى. كان الاستثناء الوحيد هو عملية “الوعد الصادق” الإيرانية (13 أبريل/نيسان 2024)، والرد الإسرائيلي عليها. ففي الرد الإيراني والرد على الرد الإسرائيلي كانت اليد الأميركية الأكثر ظهورًا وتأثيرًا في ضبط الصراع.

في الدينامية الإستراتيجية–التكتيكية: بالنظر إلى نفوذ إيران المتقدم في المنطقة، فهي تعتمد الدفاع المتقدم (Forward Defense) لحماية الداخل الإيراني، وهو ما تقوم به “وحدة الساحات” عمليًّا. يهدف هذا النوع من الدفاع إلى التعويض عن المسافة الفاصلة مع إسرائيل (تقدر بـ1500 كلم)، وقد بيَّنت مؤخرًا عملية “الوعد الصادق” عائق المسافة الجغرافية؛ إذ تتطلب المسيرة الإيرانية حوالي 7 ساعات للوصول من إيران إلى إسرائيل، وهذا وقت كاف للإنذار المبكر. لذلك، يؤمِّن الدفاع المتقدم الإيراني ضد إسرائيل تقصير الـ7 ساعات إلى دقائق؛ الأمر الذي يحرم إسرائيل من الاستعداد للدفاع الجوي، وهو ما يستطيعه حزب الله اللبناني، ليكون العمود الفقري لهذا الدفاع المتقدم.

تعوض إسرائيل هذه الثغرة في مواجهة الدفاع المتقدم، بالسعي الدائم لإقامة مناطق عازلة في أرض أعدائها. هكذا طلبت من حزب الله وعبر الوسطاء الدوليين الانسحاب إلى حدود نهر الليطاني، أي ما يُقارب الـ40 كلم داخل الأراضي اللبنانية. هذا مع العلم بأن قوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل) والمنتشرة في جنوب لبنان تنفيذًا لقرار مجلس الأمن 1701، هي بحد ذاتها تؤمِّن منطقة عازلة دولية قانونية. وتقوم إسرائيل، إلى جانب المناطق العازلة، بتسديد ضربات استباقية ضد محور المقاومة خاصة في سوريا، وذلك من ضمن مبدأ “الحرب بين الحروب”. والهدف دائمًا هو منع إيران من تثبيت منظومة دفاعها المتقدم وعبر الحلفاء على حدود إسرائيل.

تختلف الحرب الدائرة اليوم بين إسرائيل وحزب الله عن حرب يوليو/تموز 2006. ففي حرب تموز، كانت إسرائيل تهاجم وحزب الله كان يُدافع. تعتبر حرب اليوم، حرب استنزاف ثابتة (Stationary)، حدودها الجغرافية معروفة، ومحددة حتى الآن. وإن خرجت هذه الحرب عن ضوابطها، فهي دائمًا تعود إلى مرحلة ما قبل التصعيد، وهنا تظهر أهمية وتأثير الضوابط الجيوسياسية الكبرى.

في هذه الحرب، لا تستطيع إسرائيل قياس نجاحها، حتى ولو استهدفت قيادات حزب الله العسكرية ومن كافة المستويات. فالمقياس الذي تستعمله هو مقياس رقمي (Metrics) لا يمكن ترجمته على المستويين، الإستراتيجي كما السياسي. وإذا كانت إسرائيل قادرة على تحقيق انتصارات تكتيكية ضد حزب الله، فهي نجاحات، وإن تراكمت، سوف لن يكون لها تأثير إستراتيجي كبير. في المقابل، إن أي نجاح تكتيكي لحزب الله، سيكون له تأثير إستراتيجي على الداخل الإسرائيلي. فهل يمكن تخيل الخسائر التي منيت بها إسرائيل بعد تنفيذ حزب الله لعقيدة الضاحية(6) (القائمة على التدمير) لكن معكوسة في منطقة الجليل(7).

يقول بعض الخبراء: إن الحرب الدائرة حاليًّا بين حزب الله وإسرائيل بمنزلة “لعبة حرب” (War Game)، لكنها فعلية بدل أن تكون رقمية (Digital). ففي هذه الحرب، يختبر حزب الله منظومته العسكرية، كما يختبر كافة أنواع الأسلحة المتوافرة، ضمنًا أسلحة الدفاع الجوي، سواء على المستوى التكتيكي، أو حتى العملاني وذلك عند ضرب العمق العسكري للجيش الإسرائيلي عبر استهداف قياداته، من مستوى الفرقة وحتى مستوى الكتيبة. وهو حتمًا، أي حزب الله، يدرس الرد الإسرائيلي، على كل شاردة وواردة بهدف أخذ الدروس الحقيقية والمستقاة من أرض المعركة في هذه الحرب، وإمكانية مشاركتها مع “وحدة الساحات”. وفي لعبة الحرب هذه، يطور ويُعدل حزب الله بنك الأهداف. في نفس الوقت، يوجه حزب الله رسائل ردعية لإسرائيل، مفادها “إياك، إياك” والمغامرة بحرب على لبنان، فلبنان ليس غزة.

في هذه الحرب، يختبر حزب الله مبدأ القتال المشترك بين الأسلحة (Combined)، من قوات خاصة، إلى المسيرات، إلى الدفاعات الجوية، إلى القيادة والسيطرة، إلى التنصت والتشويش وغيرها. هذا عدا اختبار المنظومة اللوجستية. وقد يُضاف إلى هذه الأبعاد، الحرب الإعلامية والنفسية.

في هذه الحرب، يُدرب حزب الله جيلًا جديدًا من المقاتلين، على طريقة قتال مختلفة عن حرب يوليو/تموز 2006، وحتى عن الحرب التي خاضها في سوريا. في هذه الحرب، يستهدف حزب الله مراكز الثقل العسكرية للجيش الإسرائيلي. فهو يستهدف وسائل وأبراج التنصت وجمع المعلومات (عملية عرب العرامشة)، إن كان على مستوى مسرح الحرب الجنوبي، أو حتى على مستوى المنطقة؛ وذلك عند استهدافه قاعدة ميرون (الجرمق).

وإذا كانت إسرائيل عاجزة عن ترجمة النصر التكتيكي إلى نصر إستراتيجي، ومن ثم إلى نصر سياسي، فحزب الله ليس قلقًا على هذه المعايير. فهو يعتمد الشعار التالي: “يربح الحزب إذا لم يخسر، وتخسر إسرائيل إذا لم تربح”. يكفي الحزب الاستمرار للقتال في يوم آخر، وهنا تتقدم المعادلة التالية: إذا كان حزب الله من ضمن محور المقاومة، وإذا كان يحارب حاليًّا من ضمن مبدأ وحدة الساحات، والتي تضم بهذا الاعتبار “غزة”، وسوريا، والعراق، واليمن، وحتى “الضفة الغربية”، فإن أي نجاح تكتيكي له ضد إسرائيل في جنوب لبنان، سوف يصب في سلة الإنجازات التكتيكية الجماعية لحلفاء إيران، بحيث تتحول هذه التراكمات التكتيكية إلى نجاح إستراتيجي مهم. حاولت إسرائيل نقل هذه الصراع من “الوكيل” أو حلفاء إيران، إلى الأصيل عندما استهدفت القنصلية الإيرانية في سوريا. فكان الرد، والرد على الرد، ليعود الوضع إلى “السلة الجماعية لوحدة الساحات”، لكن مع استرداد “الأصيل”، أي إيران، للمصداقية بعد خروجها من الصبر الإستراتيجي مؤقتًا.

يعتبر أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، المعركة مع الجيش الإسرائيلي حرب إشغال، بهدف إراحة غزة، وذلك عبر تثبيت العدد الكبير من الفرق والألوية الإسرائيلية في شمال إسرائيل. في المقابل، يخوض الجيش الإسرائيلي حربًا موضعية (Positional Warfare)، تحديدًا في وضعية “ثبات مؤقت”، ريثما يسمح الوضع الميداني بالانتقال إلى الهجوم وحرب المناورة. لكن الأكيد، أن الانطلاق من الحرب الموضعية الثابتة إلى حرب المناورة والهجوم بعد أكثر من ستة أشهر، سوف يطيح بعنصر المفاجأة.

خاتمة
ركزت الورقة على تحليل الإستراتيجيات والتكتيك المتبع بين حزب الله من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، لكن من ضمن الصورة الجيوسياسية الكبرى في المنطقة. فالصراع في المنطقة معقد جدًّا. فما هو تكتيكي لحزب الله، قد يعتبر إستراتيجيًّا لإسرائيل. وما هو إستراتيجي لحزب الله، قد يكون مسألة حياة أو موت لإسرائيل. خاصة أن المواجهة الحالية تأتي في سياق الحرب الدائرة في قطاع غزة، والجيش الإسرائيلي غارق في وحول غزة، وذلك بعد عملية “طوفان الأقصى” التي أطاحت بكل المفاهيم الإستراتيجية العسكرية لإسرائيل.

تقاتل إسرائيل اليوم لاعبين من خارج إطار الدولة (Non State Actors)، وذلك من ضمن إستراتيجية وحدة الساحات التي تتبعها إيران، وعلى غرار المبدأ الصيني الذي يقول بـ”الموت بألف طعنة”. لذلك هي اليوم في مأزق إستراتيجي كبير يتمثل بما يلي: هي ليست قادرة على الحسم ضد هؤلاء اللاعبين. وإذا أرادت الذهاب لحرب مباشرة ضد إيران وذلك من ضمن عقيدة “الأخطبوط” التي اتبعها رئيس وزراء إسرائيل السابق، نفتالي بينيت(8). فهي ليست قادرة على ذلك دون مساعدة حلفائها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ما ظهر فعلًا خلال الهجوم الإيراني على إسرائيل في عملية “الوعد الصادق”. فهل يمكن لإسرائيل أن تخسر دائمًا ضد لاعب من خارج إطار الدولة في حروب متتالية، خاصة ضد حزب الله؟ بالطبع، كلا. وهل ستذهب إلى إستراتيجية المراحل، أي الانتهاء من غزة والتوجه بعدها إلى جنوب لبنان؟ وماذا لو خسرت مجددًا؛ الأمر الذي يذكِّر بحديث دار بين مؤسس الكيان، ديفيد بن غوريون، ووزير دفاعه، موشي ديان، وذلك عندما سأل ديان بن غوريون: “متى تسقط إسرائيل؟” فرد عليه بن غوريون: “عندما تخسر الحرب الأولى”؟(9).