اتسم النصف الثاني من القرن العشرين بزيادة التكامل الاقتصادي بين دول العالم بشكل مطَّرد. غير أن الاقتصاد العالمي وفقاً – للعديد من المؤشرات – يتجه حالياً في الاتجاه المعاكس للتكامل الاقتصادي. وتزايد الجدل حول أهمية التعددية والفوائد غير المتكافئة للعولمة، خاصة بعد تباطؤ تعافي الاقتصاد في عدة مناطق خاصة بعد الأزمة المالية العالمية (2008-2010). وقد ساهم الجدل المتزايد تجاه التعددية في تزايد السياسات الانغلاقية، بحيث أصبح صناع السياسات أكثر تقبلاً لإقامة الحواجز بين الدول، في مجالات التجارة وتدفق رأس المال والهجرة ومشاركة التكنولوجيا.
لقد جاء قرار المملكة المتحدة بمغادرة الاتحاد الأوروبي عام 2016 مؤكداً على هذا الاتجاه. وسرعان ما تبعته سلسلة من التدابير الحمائية والتدابير المضادة في التجارة بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، الأمر الذي أدى إلى زيادة حالة عدم اليقين في السياسة التجارية العالمية شكل رقم (1) ورقم (2).
وأثارت جائحة كوفيد-19، وما تبعها من تدابير لاحتواء انتشار الفيروس، مثل تقييد حرية حركة البضائع، لا سيما في قطاع الصحة، فضلاً عن حرية تنقل الأشخاص عبر حظر السفر، الشكوك حول أهمية التكامل الاقتصادي بين دول العالم. وعلى الرغم من كون بعض هذه التدابير، وخاصة فرض القيود على السفر، ضرورية لاحتواء الأزمة، إلا أن البعض الآخر، مثل القيود المفروضة على تصدير المنتجات الطبية الرئيسية أدى إلى تفاقم الوباء وزعزعة الثقة في أهمية النظام التجاري المفتوح. أعقب ذلك الحرب بين روسيا وأوكرانيا والتي أدت إلى انقسام الدول جيوسياسياً، كما أدت العقوبات المفروضة على روسيا إلى تعطيل التجارة، واختبار الوضع المالي العالمي، وتزايد التوترات وعدم اليقين بشأن مستقبل العولمة.
وجدير بالذكر أن الصين كانت ضمن الدول النامية، بحيث لا يتعدى ناتجها المحلي الإجمالي عشر مثيله في الولايات المتحدة. واعتقد قادة الولايات المتحدة أن تشجيع الصين على الاندماج في النظام العالمي سيصب في مصالحهم الوطنية. غير أنه سرعان ما أصبحت الصين أكبر اقتصاد في العالم وثقلاً موازياً للاقتصاد الأمريكي، كما أن الصين سعت إلى استخدام التكامل العالمي لتعزيز قوتها وفرض هيمنتها. وتكمن المشكلة الأساسية في عدم توافق اقتصاد السوق الحر الذي تتبناه الولايات المتحدة مع اقتصاد تسيطر عليه الدولة الصينية والحزب الشيوعي.
العلاقات التجارية بين الصين والولايات المتحدة
تعدُّ الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي وسوقاً عالمية مهمة للولايات المتحدة. وتمثلُّ الصين بممارساتها التجارية والاستثمارية والتكنولوجية تحدياً للريادة الاقتصادية والتكنولوجية في الولايات المتحدة. ومازالت الصين تتطلب نقل القدرات الأمريكية الحيوية إليها للعمل في مناطق استراتيجية.
وتتسم العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين بالأهمية، إلا أنها غير متوازنة، حيث تبلغ صادرات الصين إلى الولايات المتحدة ما يزيد عن ثلاثة أضعاف قيمة البضائع التي تصدرها الولايات المتحدة إلى الصين (شكل رقم 3). وفي عام 2022، كانت الصين رابع أكبر شريك تجاري للسلع الأمريكية بإجمالي تجارة يبلغ 690.3 مليار دولار، ورابع أكبر سوق للصادرات الأمريكية بقيمة 154 مليار دولار، وثاني أكبر مصدِّر للواردات الأمريكية بقيمة 536.3 مليار دولار. وقد تراجع الميزان التجاري بين كل من الصين والولايات المتحدة بحوالي 170% حتى أكتوبرعام 2023 مقارنة بالعام السابق عليه، حيث سجلت الواردات الأمريكية من الصين انخفاضاً من 462 مليار دولار إلى 357 مليار دولار. أما صادرات الولايات المتحدة إلى الصين فلم تتراجع كثيرا حيث سجلت 125 و122 مليار دولار خلال عامي 2022 و2023 على التوالي. وقد سجلت الصادرات السلعية الأمريكية إلى الصين في شهر أكتوبر 2023 أعلى نسبة لها منذ أكتوبر 2021 بلغت 16.7 مليار دولار. كذلك سجل الميزان التجاري السلعي مع الصين عجزاً في الربع الثالث من عام 2023 بحوالي 63.8 مليار دولار (US Census Bureau, 2023) .
وتشمل أهم صادرات السلع الأمريكية إلى الصين رقائق ومعدات أشباه الموصلات، والمنتجات الزراعية، والطائرات، وتوربينات الغاز، والأجهزة الطبية المتقدمة. وتشمل أهم واردات الولايات المتحدة من الصين الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية والأجهزة والسلع الاستهلاكية الأخرى (مثل الأثاث والملابس والأحذية ولعب الأطفال). كما تقوم الصين بتوريد السلع الوسيطة الرئيسية إلى الولايات المتحدة (مثل مكونات السيارات ومكونات الأدوية). ومن جانب آخر، لا تزال مستويات صادرات الخدمات الأمريكية الحالية إلى الصين منخفضة مقارنة بإجمالي صادرات الخدمات الأمريكية العالمية. وقد بلغت واردات الصين في عام 2022 حوالي 4.5% (41.5 مليار دولار) من جميع صادرات الخدمات الأمريكية كما صدّرت الصين حوالي 3.8% (26.6 مليار دولار) من جميع واردات الخدمات الأمريكية. ويمثل السفر وترخيص الملكية الفكرية والنقل أهم الصادرات الأمريكية إلى الصين، أما خدمات النقل فهي أهم الواردات الأمريكية من الصين (Congressional Research service, 2023).
تطور التوتر بين الصين والولايات المتحدة
ازداد التوتر بين الولايات المتحدة والصين منذ منتصف عام 2018، متركزاً حول اختلال التوازن التجاري خلال معظم فترة حكم ترامب (شكل رقم 4). غير أن عام 2023 شهد تصاعد الحرب الكلامية بين الدولتين خاصة منذ واقعة بالون التجسس الصيني التي أجبرت وزير الخارجية أنتوني بلينكن على إلغاء رحلة طال انتظارها إلى بكين في فبراير 2023. وقد يعلل العديد من المراقبين أسباب تدهور العلاقات الثنائية بارتفاع النمو الاقتصادي السريع للصين ونظامها السياسي المختلف تماماً، الأمر الذي زاد من احتمالات التوتر مع الولايات المتحدة. ومن دلائل تنامي النفوذ الاقتصادي الصيني، تسارع النمو الاقتصادي في الصين لدرجة أن لحق باقتصاد الولايات المتحدة من حيث تعادل القوة الشرائية في أعقاب الأزمة المالية في عام 2008، واستمراره في النمو بوتيرة أسرع. كما أن القاعدة الصناعية في الولايات المتحدة تآكلت، وتزايد عدد الصينيين الناشئين المنافسين في الصناعات الرئيسية عالميا، واستمر تدهور العجز التجاري المزمن في الولايات المتحدة. وعلى الجبهة الجيوسياسية، اندلعت الخلافات الإقليمية بشكل متقطع حول السيادة الصينية مع العديد من الدول المجاورة، حيث أظهرت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان تحالفاتها من خلال استعراض القوة، على سبيل المثال، التدريبات العسكرية مع الحلفاء أو “عمليات حرية الملاحة” في بحر الصين الجنوبي (Goldman Sachs Global Investment Research, May 2023).
لكن السنوات القليلة الماضية وضعت عدة توترات جديدة على العلاقة:
1- الحرب التجارية الأمريكية التي أطلقها الرئيس السابق دونالد ترامب تمثل تحولاً حاداً في السياسة الاقتصادية الأمريكية تجاه الصين، إلا أن ذلك لم ينجح في إحداث تحوُّل كبير في عدم التوازن الثنائي نظراً للاختلافات الكبيرة في الادخار والاستثمار بين البلدين. وجاء استمرار إدارة بايدن في فرض الرسوم الجمركية مخيِّبا لآمال صانعي السياسات في الصين.
2- احتجاجات هونج كونج. فعلى الرغم من موافقة حكومات المملكة المتحدة والولايات المتحدة على سيادة البر الرئيسي للصين على هونغ كونغ وبعد تسليم السلطة عام 1997، إلا أنهم أيَّدوا المتظاهرين المطالبين بالديمقراطية عام 2019. الأمر الذي أثار غضب الصين ودفعهم إلى فرض قانون جديد للأمن القومي في هونغ كونغ، الذي انتقدته الولايات المتحدة وحلفاؤها.
3- تعد جائحة كوفيد -19 أكبر جائحة عالمية حدثت خلال القرن وسببت صعوبات اقتصادية وإنسانية هائلة. غير أنه بعد مرور أكثر من 3 سنوات، لا يوجد إجماع حول أصل هذه الجائحة، حيث مازال تحقيق منظمة الصحة العالمية غير مكتمل. وألقى كل من الولايات المتحدة والصين اللوم على بعضهما البعض حول سوء إدارة الجائحة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم سوء التفاهم بين البلدين.
4- الحرب الروسية الأوكرانية والتي اندلعت بعد وقت قصير من إعلان الصين وروسيا شراكة “بلا حدود”. وعلى الرغم من تجنب الإدارة الصينية تكرار العبارة منذ ذلك الحين، حيث تعرقل الحرب جهودهم للحفاظ على علاقات جيدة مع أوروبا، إلا أن الصين تؤكد مراراً وتكراراً على التوافق الاستراتيجي مع روسيا، حيث ارتفع تبادلها التجاري مع روسيا منذ الحرب. ومن جانب آخر، دفع الغزو الروسي المفاجىء لأوكرانيا الولايات المتحدة إلى تعزيز تواجدها في تايوان من خلال صفقات الأسلحة والزيارات المتكررة.
هل أصبح الانفصال بين الصين والولايات المتحدة حتمياً؟
قام جراهام أليسون بدراسة العلاقة بين الولايات المتحدة والصين على نطاق واسع وتوثيقها. وجراهام أليسون هو أستاذ العلوم الحكومية في جامعة هارفارد والعميد المؤسس لكلية كينيدي بجامعة هارفارد. شغل أليسون منصب مساعد وزير الدفاع في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون. يناقش في كتابه الأخير “مقدر للحرب: هل تستطيع أمريكا والصين الهروب من فخ ثوسيديدس؟” الوضع الحالي والتطور المحتمل للعلاقات بين الولايات المتحدة والصين. من وجهة نظره، إن العلاقات الثنائية بين البلدين سيئة للغاية. وقد تنبأ في كتابه الذي نُشر مع وصول الرئيس ترامب إلى منصبه، تصاعد العداء بين الصين والولايات المتحدة، مع تهديد القوة الصاعدة بسرعة بإزاحة قوة حاكمة كبرى (شكل رقم 5). لقد شهدت الخمسمائة عام الماضية 16 حالة هددت فيها قوة صاعدة بإزاحة قوة حاكمة، ونتج عن ذلك اندلاع الحرب في 12 حالة منها. لا يمكن إنكار كون الصين تمثل قوة صاعدة مذهلة تفوَّق الناتج المحلي الإجمالي فيها بقليل عن نظيره في الولايات المتحدة. غير أن هذا التنافس لا يشكل سوى 75% من تفسير سبب تصاعد العداء بين الدولتين. أما نسبة الـ 25٪ الأخرى فهي ترجع إلى الهوية. حيث اعتاد الأمريكيون على البقاء على قمة التسلسل الهرمي لقرن من الزمن ـ وهو ما نسميه “القرن الأمريكي” ـ حتى أصبح ذلك جزءاً من النفسية الأميركية. ومن ناحية أخرى، فإن الصين ترى دورها في العالم باعتباره مركز الكون. ففي لغة الماندرين، كلمة الصين تعني المملكة الوسطى، وهي العلاقة بين الأرض والسماء. ولقد احتل الصينيون موقعهم الشرعي في مركز الكون لآلاف السنين، حتى ظهر الغربيون بالتكنولوجيا الجديدة وأخذوا مكانهم. وفي سعي الصين لتحقيق ما أسماه الرئيس شي جين بينغ “التجديد العظيم للشعب الصيني العظيم”، تعود الصين إلى ما تعتبره مكانها الطبيعي للقوة العالمية. ومع اكتساب الصين المزيد من القوة، فإنها، مثل غيرها من القوى الصاعدة في التاريخ، تعاني من “متلازمة القوة الصاعدة”، التي تطالب بالمزيد من النفوذ في العالم. وقد تكررت هذه القصص على مدار التاريخ وتظهر الآن في وجهات نظر كل من الولايات المتحدة والصين وأفعالهما. لذلك، هناك توقعات بأن تسوء الأمور أكثر قبل أن تتفاقم.
وقد أثار استمرار الرئيس جو بايدن لمواصلة التصعيد الاقتصادي ضد الصين تساؤلات حول مستقبل العلاقة التجارية، حيث لم تظهر الرسوم الجمركية الأمريكية على البضائع الصينية (والتعريفات الصينية الانتقامية على الصادرات الأمريكية) ولا ضوابط التصدير الأمريكية أي علامات على التراجع. وقد قدم بعض المشرعين مشاريع قوانين من شأنها توسيع القيود الاستثمارية التي فرضها بايدن لتشمل المزيد من الصناعات الصينية؛ وتتطلب التشريعات الأخرى المقترحة خططًاً استثمارية للحكومة الفيدرالية لسحب الاستثمارات من الشركات الصينية، بينما تتزايد الضغوط من بعض المشرعين لحظر عملاق وسائل التواصل الاجتماعي TikTok، والمملوك لشركة ByteDance الصينية.
ويبدو الاتجاه نحو الانفصال جلياً في مجال التمويل، حيث خفض المستثمرون الغربيون استثماراتهم في الصين. فبعد أن بلغ متوسط تخصيص صناديق الأسهم العالمية للأصول الصينية ذروته عند 3.13% في أبريل 2015، انخفض إلى 1.75% اعتبارًا من سبتمبر 2023. ويعكس هذا الانخفاض تراجعاً جزئياً عن الأسواق الناشئة بعد أن رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة. فعلى سبيل المثال، صرح مجلس استثمار الادخار الفيدرالي الأمريكي عن نيته استبعاد الأسهم المدرجة في الصين وهونج كونج من صندوقه الدولي بسبب المخاطر المرتبطة بتصاعد التوترات الجيوسياسية. وتظهر بيانات مجموعة روديوم انخفاض قيمة الاستثمار الأجنبي المباشر بالدولار الأمريكي في الصين إلى 8 مليارات دولار العام الماضي، لتعود إلى مستويات عام 2004. ويخشى مديرو الصناديق من أن يضطروا إلى البيع إذا وسعت الولايات المتحدة قيود الاستثمار المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والرقائق المتقدمة، أو فرضت عقوبات إضافية على الصين (رويترز، 16 نوفمبر، 2023).
امتداد التوتر ليشمل قطاع التكنولوجيا
يمتد التهديد بالانفصال بين الولايات المتحدة والصين ليشمل صناعة التكنولوجيا والتعاون بين البلدين في هذا المجال. وتعمل الولايات المتحدة إلى حد كبير على منع الصين من إقامة روابط تجارية غير مباشرة مع شركات التكنولوجيا المتقدمة الأمريكية. كذلك فقد انضم الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في يناير 2023 لمنع بيع التكنولوجيا للصين التي من شأنها السماح لها بإنتاج رقائق أشباه الموصلات المتقدمة.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تشنُّ حملة على شركات التكنولوجيا الصينية، حيث وضعت الحكومة الأمريكية أكثر من 1000 شركة صينية على قائمة الحظر بهدف خنق صناعة التكنولوجيا الصينية. وتقع هذه الشركات المدرجة في القائمة السوداء بشكل رئيسي في آسيا وأوروبا. وتعتقد الولايات المتحدة أن الصين قد تقيم علاقات فعلية مع الولايات المتحدة من خلال طرف ثالث مثل المملكة المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض دول البريكس، بما في ذلك جنوب أفريقيا والبرازيل، تعد موطناً لبعض الكيانات المدرجة في القائمة السوداء التي تسيطر عليها الصين، وهناك جدل حول ما إذا كانت هذه الدول قادرة على الحفاظ على موقفها الحيادي تجاه المنافسة الصينية الأمريكية.
وتعدُّ المدن الكبرى – مثل بكين وشنتشن وشانغهاي – مراكز رئيسية لصناعة التكنولوجيا في الصين، وبالتالي فهي محور غالبية العقوبات الأمريكية ضد قطاع التكنولوجيا في الصين. وتهدف الولايات المتحدة من محاولة “الفصل” التكنولوجي الحد من اعتمادها على الصين في المجالات التي قد تثير مخاطر الأمن القومي، وحماية التقنيات الحيوية من نقلها من الولايات المتحدة إلى الصين. وتمتد المنافسة التكنولوجية بينهما بشكل رئيسي لتشمل قطاعات مثل الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات المتقدمة.
وقد صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان أن استراتيجية الولايات المتحدة تقوم على الحفاظ -بقدر الإمكان- على دور الريادة في التقنيات الحيوية ضد منافسيها. وقد توسعت ضوابط التصدير الأمريكية بشكل كبير خلال إدارة بايدن. ففي عهد الرئيس السابق ترامب، كانت القيود الأبرز على اثنين من شركات الاتصالات ZTE وHuawei مرتبطة في البداية بمبيعاتها إلى إيران، حيث تحتوي على تكنولوجيا أمريكية مدمجة. تلا ذلك في عهد بايدن إضافة مجموعة من الشركات الصينية في الحوسبة الفائقة، تكنولوجيا المراقبة، الفضاء الجوي، الطائرات بدون طيار، والقطاعات الأخرى إلى قائمة العقوبات باعتبارها شركات معنية بالصناعات العسكرية. وكان الهدف هو تجنب إمداد التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة لشركات صينية قد تكون مرتبطة بالإمدادات العسكرية للصين (على سبيل المثال في شينجيانغ).
وفي أكتوبر 2022، اتسع نظام عقوبات الولايات المتحدة ليشمل إعلان حظر على صادراتها من التكنولوجيا المتقدمة مثل أشباه الموصلات (بما في ذلك الرقائق والمعدات والبرامج ذات الصلة) إلى الصين – ويرجع ذلك جزئياً إلى سياسة الصين المعلنة المتمثلة في “الاندماج المدني العسكري”. وقد ألمح صناع السياسات الأمريكية إلى إمكانية فرض ضوابط على الصناعات الإستراتيجية الأخرى – مثل التكنولوجيا الحيوية / التصنيع الحيوي، غير أنه يتوقع أن يكون أثر العقوبات على أشباه الموصلات هو الأكبر على الاقتصاد الصيني.
ومن جانب آخر، ترى الحكومة الصينية أن الهدف الحقيقي للحكومة الأمريكية هو خنق نمو الصين، وأن للحرب التجارية آثاراً سلبية على العالم. وتلقي الحكومة الصينية باللوم على الحكومة الأمريكية للبدء في هذا الصراع وجعل المفاوضات معقدة. وقد فرضت الصين أيضاً عدداً من القيود شملت الشركات الاستشارية الأمريكية وضوابط على تصدير المعادن الحيوية المستخدمة في تصنيع رقائق الكمبيوتر. وفي فبراير 2023، وسعت الصين من قائمة حظر الشركات الأمريكية لديها لتشمل Raytheon and Lockheed Martin وهما من أكبر الشركات على مستوى العالم في مجال الفضاء و الدفاع.
وسوف يستمر التنافس بين الولايات المتحدة والصين في تشكيل صورة الجغرافيا الاقتصادية العالمية في المستقبل، حيث تعد التكنولوجيا هي المحرك والداعم الرئيسي للقوى العظمى. وقد صرح رئيس لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة بأنها ليست مستعدة للدفاع أو التنافس في عصر الذكاء الاصطناعي، على الرغم من هيمنتها التكنولوجية لفترة طويلة مما دفع قادتها إلى اعتبارها أمراً مفروغاً منه. ولكن برزت قوة الصين التكنولوجية بسرعة مذهلة كقوة عظمى ثانية. ويساهم قطاع التكنولوجيا في الصين بفوائد كثيرة للشركات والجامعات والمواطنين الأمريكيين، حيث يوفر العمالة الماهرة والإيرادات اللازمة لدعم البحث والتطوير في الولايات المتحدة، غير أن تقدم الصين التكنولوجي ينعكس على قوتها العسكرية. وتصاعدت أصوات تنادي بانفصال الولايات المتحدة عن الصين تكنولوجياً، ولكن بدرجة محددة بحيث لا تضر بمصالح الولايات المتحدة. وقد أثار ذلك جدلاً حول درجة الانفصال التكنولوجي، ونوع التكنولوجيا التي يمكن الانفصال عنها.
المزيد من الإجراءات لكسر الهيمنة الأمريكية
1- محاولة التخلي عن الدولار
تزايد الاتجاه نحو التخلي عن الدولار كاحتياطي دولي فرض هيمنته على الأسواق العالمية منذ عقود، وضعفت الثقة في الدولار خاصة عقب ارتفاع الديون الأمريكية إلى مستويات قياسية. ويظهر ذلك من خلال عدة إجراءات ودعوات. ففي أفريقيا، اقترح الرئيس الكيني ويليام روتو في يونيو 2023 أن تعتمد الدول الأفريقية على العملات المحلية وليس الدولار في تعاملاتها التجارية، خاصة وأن بنك التصدير والاستيراد الأفريقي يوفر آلية للتجارة في القارة باستخدام العملات المحلية. كذلك فإن دول البريكس تهدف إلى إعادة التوازن للنظام العالمي من خلال إلغاء الدولار والاعتماد على العملات المحلية في التعاملات البينية مثل الاتفاق التجاري بين الصين والبرازيل باستخدام عملتيهما. كما أبرمت الصين اتفاقيات تجارية مع روسيا وباكستان والمملكة العربية السعودية بدون استخدام الدولار. كذلك فإن دول البريكس تسعى إلى إنشاء عملة موحدة داخل المجموعة.
وقد نتج عن استخدام الولايات المتحدة الدولار سلاحاً في سياساتها الخارجية إلى حذر العديد من الدول من اعتمادها المفرط على الدولار. وليس أدل على ذلك مما حدث بفرض عقوبات على روسيا بعد غزوها أوكرانيا.
ويتفق الخبراء والاقتصاديون على عدم وجود بديل آمن للدولار، لذلك لا يتوقعون اقتراب نهاية هيمنة الدولار. وبالرغم من ذلك، فإن الاعتماد التدريجي على وسيلة تبادل غير الدولار، ومحاولة الاستغناء عنه، سوف يؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار تدريجياً.
2- مجموعة البريكس
جاءت مجموعة البريكس لترسل إشارة قوية بأن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية يجب أن يتقبل الواقع المتعدد الأقطاب وأن يتغير مع مرور الوقت. وليس أدل على أهمية المكانة التي وصل إليها تجمع البريكس، من طلبات الانضمام المتزايدة إلى المجموعة. ومن أبرز ما تم الاتفاق عليه في القمة الخامسة عشرة هو قبول ستة دول أعضاء جديدة: الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، للانضمام رسمياً إلى المجموعة في يناير 2024. إن ميل الغرب إلى فرض عقوبات مالية أحادية، وإساءة استخدام آليات الدفع الدولية، والتراجع عن التزامات تمويل المناخ، وإعطاء القليل من الاهتمام للأمن الغذائي والضرورات الصحية لدول جنوب العالم خلال وباء كورونا، ليست سوى بعض العناصر المسئولة عن خيبة الأمل المتزايدة تجاه العالم والنظام الدولي السائد.
من المتوقع، أن يساهم توسع مجموعة البريكس إلى صيغة “البريكس +” واعتماد عدد من المبادئ التوجيهية والمعايير والإجراءات في جعل البريكس مؤسسة أكثر جاذبية لبناء التوافق والحوار في العالم النامي.
وهناك جانب مهم آخر يتمثل في كيفية استفادة هؤلاء الشركاء من أنظمة التعاون الجديدة التي تحاول مجموعة البريكس إنشاءها. قد تكون الضجة حول عملة مشتركة لمجموعة البريكس غير عملية وسابقة لأوانها، ولكن التداول بالعملات الوطنية أصبح حقيقة واقعة. وتعد صفقة النفط الأخيرة بالروبية بين الهند والإمارات العربية المتحدة إشارة إلى أن مصدري السلع الأساسية ومستورديها الرئيسيين في العالم قادرون على محاولة تقليل اعتمادهم على الدولار والذي استمر منذ عام 1973. إن لم يكن نظاماً عالمياً جديداً، فمن المؤكد أن توسع مجموعة البريكس هو محاولة لإقامة نظام عالمي بديل، نظام يعطي قدراً أكبر من الاهتمام إلى الأغلبية النامية مقابل الدول المتقدمة.
وبعد، فإن تاريخ السياسة الدولية والقوى المهيمنة على المجتمع الدولي يؤكد على أن التحولات الكبرى لا تحدث بشكل مفاجىء، لكنها تخضع لقوانين التطوُّر من خلال تغيرات متعددة تتراكم لتُحدث في نهاية الأمر تغيراً كيفياً. فعلى إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلنت الولايات المتحدة عن نظام عالمي جديد تهيّمن عليه بسياسة أحادية القطب، معتمدة على بروز قوتها الشاملة والمتمثلة في قوتها العسكرية والاقتصادية والثقافية. غير أنه لا يمكننا أن نغفل أيضاً بروز الصين كمركز للنمو الاقتصادي العالمي وظهور الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية كبرى متكاملة. ومازال النظام العالمي الجديد في طور التكوين، حيث لم تتحدد صورته النهائية بعد. فهناك من يتوقع استمرار القطبية الأحادية في النظام العالمي، وآخرون يتوقعون أن يصبح متعدد الأقطاب حيث لا تستطيع دولة مهما توفرت إمكاناتها أن تهيمن منفردة على النظام العالمي. ويبقى السؤال الذي سوف تُجيب عنه السنوات القادمة: هل تشير محاولات الانفصال المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة التي ذُكرت سالفاً إلى قرب بروز الصين كقوة كبرى في النظام العالمي الجديد؟، وهل تُواجه الولايات المتحدة هذا التهديد بالمزيد من محاولات الانفصال؟