يتراجع في مختلف أرجاء العالم عدد من يعيشون في مجتمعات حرة ديمقراطية، فقد ذكرت منظمة “فريدم هاوس” في تقريرها لعام 2022 أن “الحريات على مدى 16 عاماً متوالية في تراجع، وأن 80 في المئة من سكان العالم اليوم يعيشون في بلاد استبدادية أو حرة جزئياً تفتقر إلى عنصر أساس من عناصر المجتمع الحر مثل الصحافة المستقلة”.
بهذه الكلمات يستهل الكاتب الأميركي جوزيف ستيغليتز الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد كتابه الحديث “الطريق إلى الحرية”.
“ولا يستثنى من ذلك الاتحاد الأوروبي المعروف بالتزامه بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فالمجر يحكمها منذ عام 2010 فكتور أوربان الذي أعلن تأييده ’الديمقراطية غير الليبرالية‘ واتخذ خطوات قوية ضد الصحافة الحرة واستقلال التعليم، وفي الجانب الآخر من الأطلنطي يتدخل دونالد ترمب في التداول السلمي للسلطة بعد خسارته الواضحة انتخابات عام 2020″، وهكذا إذاً تبدو لجوزيف ستيغليتز صورة الحرية في غرب العالم، فما بالنا بالجنوب والوسط وبقية أصقاع الأرض.
حرب عالمية سياسية وثقافية
يواصل ستيغليتز في مقدمته، “نحن في حرب عالمية سياسية وثقافية لحماية الحرية وحفظها، هل تقدم البلاد الديمقراطية والمجتمعات الحرة ما يريده المواطنون ويحرصون عليه؟ وهل هي أفضل أم أنظمة الحكم الاستبدادية؟ إنها معركة على قلوب الناس وعقولهم في كل مكان، وإنني أومن إيماناً قاطعاً بأن البلاد الديمقراطية والمجتمعات الحرة أقدر من الأنظمة الاستبدادية على أن تقدم ذلك لمواطنيها بمزيد من الفعالية، غير أن مجتمعاتنا الحرة في كثير من المجالات الأساس، وأبرزها الاقتصاد، تعاني الفشل ولكنه فشل ليس محتوماً، ويرجع جزئياً إلى مفهوم غير صحيح للحرية تبناه اليمين فأفضى بنا إلى المسار الخاطئ، في حين أن هناك مسارات أخرى توفر مزيداً من السلع والخدمات التي يريدونها، مع مزيد من الأمن الذي يريدونه، ولكنها تقدم أيضاً مزيداً من الحرية للناس”.
ويوضح أن هذا الكتاب “يعالج أسئلة الحرية من منظور الاقتصاديين وبلغتهم، فيركز من ثمّ، ولو في بدايته، على ما قد يوصف بالحرية الاقتصادية في مقابل ما يشار إليه عادة بالحريات السياسية، على رغم أنني أذهب لاحقاً إلى أن الحريتين لا تنفصلان في الحقيقة”.
يستهل غريغ روسالسكي استعراضه لـ “الطريق إلى الحرية” في إذاعة “أميركا الوطنية” في السابع من مايو (أيار) الجاري بإشارة إلى فريدريك هايك، وهو الاقتصادي الشهير الحاصل على نوبل الاقتصاد هو الآخر، قائلاً “في أوائل ثلاثينيات القرن الـ 20 كتب الاقتصادي النمسوي المقيم آنذاك في لندن والأستاذ في مدرسة لندن للاقتصاد مذكرة لمدير المدرسة وليم بيفيردج، في تلك الآونة كان الكساد الكبير ينشر الخراب في العالم، وكانت مُثل الليبرالية الكلاسيكية من قبيل الديمقراطية ورأسمالية السوق الحرة تتعرض للهجوم”.
وتابع، “أمام صعود الأحزاب الفاشية في أرجاء أوروبا رأى بيفيردج، شأن كثيرين في زمنه، أن الفاشية هي النتيجة النهائية لفشل النظام الرأسمالي، غير أن هايك ذهب في مذكرته إلى رفض ذلك رفضاً قاطعاً، إذ رأى أن جذور الفاشية برفضها للديمقراطية وتبنيها لسلطة الحكم إنما تكمن في الأفكار والسياسات الاشتراكية، وما بدأ في تلك المذكرة بوصفه بذرة لفكرة أصبح مقالة في مجلة ثم كتاباً في عام 1944 عنوانه ’الطريق إلى العبودية‘ ولما حاول هايك بيع حقوق الكتاب في الولايات المتحدة رفضته ثلاث من دور النشر التي لم تر ما فيه من إمكانات”.
واستقر هايك على دار نشر أكاديمية فصدر الكتاب عن مطبعة “جامعة شيكاغو” وحقق نجاحاً ساحقاً، لم يتمثل فقط في بيعه مئات آلاف النسخ ولكن في إطلاقه الريح في أشرعة الحركة المحافظة الناشئة التي كانت تواجه صعاباً جساماً في نيل قلوب وعقول التيار الرئيس في السياسة الأميركية في ما بعد الكساد الكبير”.
“ذهب هايك إلى أن دولة الرفاه المتضخمة تسلم قدراً كبيراً من السلطة والسيطرة للحكومة المركزية وتسلب الناس استقلالهم في حياتهم الاقتصادية وتضير بالاقتصاد وتمهد الطريق للاستبداد، وذهب إلى أنه لا يمكن تحقيق الحرية والرفاهية إلا بتبني السوق الحرة”.
رأسمالية تقدمية أميركية جديدة؟
ويمضي غريغ روسالسكي فيكتب أنه بعد 80 عاماً يأتي الاقتصادي جوزيف ستيغليتز بكتاب يرد به على هايك وأجيال من أتباعه، وقال ستيغليتز في حوار أدلى به لمجلة “بلانيت ماني” الأسبوع الماضي “إن ثيمة أساس في كتابي هي أن هايك أخطأ 180 درجة”، بل إن عنوان كتاب ستيغليتز نفسه يمثل ضربة للطريق إلى العبودية، فهو الطريق إلى الحرية”.
وتكتب ديردري ناسين مكلوسكي أن مشروع ستيغليتز في هذا الكتاب هو رسم طريق إلى “ديمقراطية اجتماعية أوروبية متجددة أو رأسمالية تقدمية أميركية جديدة، ويمثل الكتاب رداً قوياً منه على فئة يجمع فيها المحافظين والليبرتاريين والليبراليين الكلاسيكيين”.
وتضيف أن “أعداءه بصفة خاصة هما الاقتصاديان الليبراليان الكلاسيكيان ميلتن فريدمان (المذكور 76 مرة في الكتاب) وفريدريك هايك (المذكور 46 مرة)، فهو يتهمهما بتبني أصولية السوق والإيمان شبه الديني بكفاءة الأسواق، الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع حتى في وجود أدلة على العكس”.
ويرى غريغ روسالسكي أن اللحظة الراهنة تشبه ثلاثينيات القرن الـ20 حينما بدأ هايك العمل على كتابه، إذ كانت الشعبوية تتفجر في العالم “ويخشى ستيغليتز من أن بعض بلاد العالم قد تغير اتجاهها صوب نسخة القرن الـ21 من الفاشية، لكنه خلافاً لحجة هايك الكلاسيكية يرى أن صعود الاستبدادية لا يأتي في بلاد فيها قدر كبير من الحكم، وإنما من بلاد يقل فيها الحكم فيعجز عن حماية الأفراد من البطالة والضغوط الناجمة عن تبني العولمة والتغير التكنولوجي وضغوط الهجرة، وفي حين أن الساسة المحافظين دأبوا طويلاً على ترويج تقليل الضرائب وتقليل القواعد وتقليل الحكم باعتبارها عناصر جوهرية لتعزيز الحرية، فإن ستيغليتز يرى أن مفهومهم هذا للحرية مفهوم خاطئ، والأدهى أنه مهد الطريق لحقبة سياسية خطيرة تهدد حريتنا الحقيقية”.
فالحرية عند هايك وميلتن فريدمان وطائفة كاملة من أتباعهم المحافظين والليبرتاريين هي إلى حد كبير التحرر من الحكم، أما ستيغليتز فيعارض هذا التفكير الضيق في الحرية ويعرض في كتابه مفهوماً لها يختلف اختلافاً كبيراً، فهي بمعجم الاقتصاد ولسان أهله مجموعة الفرص لشخص أو مجموعة الخيارات المتاحة له، وهي بعبارة أخرى ما أنت حر حقاً في عمله، فمن يبلغ درجة المجاعة لا يملك في الحقيقة كثيراً من الحرية، إنما هو يفعل ما يتعين عليه فعله من أجل البقاء، وبتوفير بعض الموارد لذلك الشخص فإنه يزداد حرية وتزداد خياراته في الحياة، وبهذا المعنى يرى ستيغليتز أن الحكومة يمكن أن تتدخل وتمنح المواطنين مزيداً من الحرية من خلال فرضها ضرائب لتمويل برامج تقضي على الفقر أو تساعد في توفير فرص عمل، بل إن ستيغليتز يدعو صناع السياسات إلى الحذر من السياسات التي تمنح الحرية لبعض الناس على حساب حرية كثير منهم، ويبدأ كتابه بأن ينقل عن إيزايا برلين قوله “إن الحرية بالنسبة إلى الذئاب كثيراً ما تعني الموت للخراف”، ويستعمل ستيغليتز هذه الاستعارة لانتقاد سياسات إلغاء القيود التنظيمية المالية التي يقول إنها أعطت مزيداً من الحرية للبنوك على حساب حرية الأميركيين العاديين.
هدم أية شرعية للنيو ليبرالية
ولا يكتفي ستيغليتز بمحاولة استرداد مفهوم الحرية فيوجه كثيراً من كتابه إلى هدم أية شرعية للنيو ليبرالية، أي أيديولوجية السوق الحرة التي اجتاحت أميركا ومعظم العالم خلال الثمانينيات والتسعينيات، فيقول مثلاً إن “جرائم النيو ليبرالية تشمل تحرير الأسواق المالية للتعجيل بأضخم أزمة مالية في ثلاثة أرباع قرن، وتحرير التجارة لتسريع عملية التراجع عن التصنيع بتفريغ أحشاء التصنيع الأميركي على سبيل المثال، وتحرير الشركات لاستغلال المستهلكين والعمال والبيئة على السواء، وهذا النمط من الرأسمالية لا يعزز الحرية في مجتمعنا بل أدى إلى حرية القلة على حساب الكثرة، أي الحرية للذئاب والموت للخراف”.
غير أن ستيغليتز كان عضواً ثم رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض لكلينتون، أي أنه “حظي بمقعد دائم على الطاولة في اللحظة التي انتشرت فيها الأفكار النيو ليبرالية إلى ما وراء معقلها التقليدي في الحزب الجمهوري، وبدأ الديمقراطيون يدفعون بها، فقد دفع الرئيس بيل كلينتون نطاقاً من سياسات السوق الحرة ومنها توقيع قانون ’اتفاق أميركا الشمالية للتجارة الحرة‘ (NAFTA)، ودعم طلب الصين الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية وتقليل قواعد قطاعات الاتصالات السلكية واللاسلكية والصناعات المالية.
ويقول ستيغليتز إنه “حارب بكل قوته كثيراً من هذه السياسات وراء الأبواب المغلقة”، ويشير إلى أنه “نجح في منع إلغاء القواعد المالية إلى أن ترك منصبه عام 1997، وإن بيل كلينتون لم يوقع قانوناً بإلغائها حتى عام 1999”.
ويكتب، “لقد عارضت بشدة إلغاء القواعد التنظيمية للقطاع المالي جزئياً لأنني فهمت أن تحرير القطاع المالي سيجعلنا جميعاً أقل حرية في نهاية المطاف”، ويرى أن إلغاء القواعد المالية أسهم في أزمة عام 2008 المالية.
“وبعد أن خدم في إدارة كلينتون حارب ستيغليتز مجدداً تسلل النيو ليبرالية ولكن على النطاق العالمي بوصفه كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، فحارب سياسات من قبيل تحرير أسواق رأس المال التي أتاحت للمستثمرين العالميين مزيداً من الحرية في نقل المال من البلاد الفقيرة وإليها، ووجه اللوم إلى هذه السياسة معتبراً أنها خلقت تقلبات مالية وأسهمت في أزمات اقتصادية في أرجاء العالم”.
وبالطبع يختلف كثيرون مع موقف ستيغليتز من النيو ليبرالية وقوله بالحاجة إلى تدخل حكومي قوي في الاقتصاد، فقد يرى هؤلاء أن الحكم أغبى أو أفسد من أن يضع قواعد للسوق وينظم مجتمعاً أكثر رخاء وحرية، ويضرب هؤلاء المنتقدون أمثلة بالأرجنتين وفنزويلا قائلين إن أجيالاً من قادتها اليساريين اتبعوا سياسات تدخلية أدت إلى مشكلات اقتصادية جسيمة، منها التضخم الجامح والنمو الاقتصادي الهزيل، غير أن ستيغليتز لا يرفض النيو ليبرالية هذا الرفض الراديكالي، لكنه، في ما يقول غريغ روسالسكي، “يرى أن الآن هو الوقت المناسب لأن تتخلى الولايات المتحدة وغيرها من البلاد عن النيو ليبرالية وتتبنى شكلاً جديداً من الرأسمالية التقدمية التي يلعب فيها الحكم دوراً أكبر في إدارة الاقتصاد ومحاربة تغير المناخ وكسر الاحتكارات والقضاء على الفقر واللامساواة والبطالة”.
يكتب ستيغليتز، “لو واصلنا المضي في هذا الطريق، ويمكنكم أن تطلقوا عليه طريق العبودية، سنفقد بعض الحرية لأنه يفضي إلى الشعبوية، وهي نوعية استبدادية من الشعبوية تمثل خطراً حقيقياً على دوام الديمقراطية واقتصاد السوق القائم بالفعل”.
والطريق البديل الذي يقترحه ستيغليتز، بحسب ما يكتب غافين جاكسون في استعراضه للكتاب (غارديان- الثامن من مايو 2024)، هو “الديمقراطية الاجتماعية بالدور الكبير الذي تقوم به الدولة في ظلها، فتنشئ مجتمعات أكثر حرية ونشاطاً وأقدر على مقاومة المستبدين من أمثال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، “فالخطأ الذي وقع فيه هايك وفريدمان واليمينيون المعجبون بهما، وكل من يجمعهم ستيغليتز معاً في سلة الجهلة من منكري تغير المناخ ووباء كوفيد ومشاهدي ’فوكس نيوز‘ هو أنهم لم يفهموا الحرية حقاً لأن قدراً معيناً من الإكراه قد يؤدي إلى توسيع الحرية إجمالاً، ولقد فهم هايك وفريدمان مبدأ الحرية في ما يتعلق بالدفاع الوطني وحماية الملكية الخاصة، لكن المبدأ يجب أن يتسع ليشمل البيئة والصحة العامة والاستثمارات في البنية الأساس التي تجعلنا جميعاً أكثر ثراء”.
ويمضي ستيغليتز بهذه الفكرة أبعد قليلاً من ذلك، ففي معرض انتقاده غياب التخطيط الحضري في هاوستن يشير إلى متجر للأغراض الجنسية يقع في موقف سيارات مركز تجاري يضم أيضاً مدرسة خاصة، فيكتب أن “مبدأ دعه يعمل دعه يمر” يتسبب في أضرار لأطراف أخرى، وفي هذه الحال تأتي حرية شراء البالغين منتجات لاستعمالهم على حساب حرية آخرين في عدم إطلاعهم على هذه الأنشطة، فمن الواضح أن ستيغليتز يحاول معالجة تجاوزات السوق ولكنه يجازف بتقديم مبررات لعالم من التطهر والتشدد.
وفي الوقت نفسه يشير ستيغليتز إلى القيود السيكولوجية التي تفرضها السوق على الحرية، إذ يقلص الإعلان ومواقع التواصل الاجتماعي مناظيرنا وقدرتنا على الاختيار بمثل ما تفعل القوانين وسلطة الدولة، وتحريرنا من هذه القيود يقتضي إعادة تنظيم حرية الآخرين وتقييد قدرتهم على خداعنا أو ترويج نسختهم الاستقطابية المشوهة من الواقع.
وعلى رغم أن غافين جاكسون لا يخفي انزعاجه من هذه الدعوة إلى فرض القيود وزيادة حجم تدخل الدولة في مختلف الأنشطة، ولا سيما الاقتصاد، لكنه لا يملك إلا القول بأن الأكثر إزعاجاً من ذلك في تحليل ستيغليتز “هو أنه قد يكون على حق، فالحقبة النيو ليبرالية مهدت حقاً الطريق لصعود ديمقراطيين واستبداديين يناهضون جميعاً الليبرالية”، وكأن ما يقوله جوزيف ستيغليتز حقاً في كتابه هذا هو أن النيو ليبرالية تفرز أعدائها.
ويكتب جون كاسيدي في استعراض للكتاب وحوار مع مؤلفه ذي نيويوركر في الـ 25 من أبريل (نيسان) الماضي أن ستيغليتز يورد في كتابه أسباباً عدة تدعو إلى التشاؤم حيال مستقبل الديمقراطية الاجتماعية، ومنها أن “الأيديولوجية النيو ليبرالية متوغلة بعمق في المجتمع” وأن الناس يتغاضون عمداً عن “المعلومات التي تخالف تصوراتهم وافتراضاتهم”، ولكنه يشير أيضاً إلى بشائر أخرى من قبيل اتساع نطاق رفض الشباب للنهج النيو ليبرالي تجاه قضايا من قبيل انعدام المساواة وتغير المناخ، وفي حوار ستيغليتز مع كاسيدي أشار مراراً إلى السياسة الصناعية التي تنتهجها إدارة بايدن وتوفر حوافز سخية لمنتجي الطاقة الخضراء ومشتري السيارات الكهربائية، معتبراً أنها مثال لـ “التغيير الجذري” في وجهات النظر حيال صنع السياسات الاقتصادية، وقائلاً إن “النيو ليبرالية الآن في موقف دفاعي وأنا متفائل إجمالا، لكنها ستكون معركة”.