قد تفضي وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي في الـ 19 من مايو (أيار) الجاري في حادثة تحطم المروحية إلى تشظي النظام الإيراني والثورة الإسلامية لعام 1979 نفسها، ومن الواضح أن موت رئيسي بهذا الشكل المفاجئ أثار قلقاً كبيراً وتسبب بأخطار جمة، وحتى الآن لسنا قادرين على تبيان الطبيعة الكاملة للمناورات المحمومة، والتعارك السياسي الداخلي خلف الكواليس في طهران.وتتمثل الخطوة المحورية التالية بصدور بيان رسمي نهائي من النظام لتحديد سبب تحطم المروحية، لكن حتى الساعة قالت السلطات إنه لا دليل على أن مروحية رئيسي قد تعرضت لهجوم، ولذا فالتحقيق متواصل.
ومن الواضح أن التفسيرات المبتورة هدفها شراء الوقت والحد من التكهنات المزعزعة للاستقرار، لكن لا يمكنها أن تكون أبداً الكلمة الفصل، ولا تنفك التداعيات السياسية الهائلة عن سبب الحادثة الذي ستعلنه السلطات، ولعله في الواقع مزيج من رداءة الطقس والتضاريس الجبلية الوعرة وخطأ ارتكبه قائد الطائرة، أو ربما كان ناتجاً من خلل ميكانيكي.
من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان آيات الله الإيرانيين سيواجهون مصير روسيا القيصرية، بيد أن ثورتهم اليوم على المحك وأمام خطر كبير
ومن المضحك أن يسارع وزير الخارجية السابق جواد ظريف إلى إلقاء اللوم على العقوبات الأميركية، قائلاً إنها المسؤولة عن النقص الحاصل في قطع الغيار، فكيف يعقل أن تكون إيران التي حققت مكاسب بمئات مليارات الدولارات من مبيعات النفط الدولية منذ أن فرض رونالد ريغان عليها أولى العقوبات الأميركية، وقد كفاها ذلك لتمويل برامج إنتاج صواريخ بالستية وأسلحة نووية، ولتسليح عدد لا يحصى من المجموعات الإرهابية، لا تملك أموالاً كافية لشراء مروحيات جديدة من أصدقائها الروس والصينيين؟
وإلى جانب الأسباب غير السياسية الواضحة للعيان فقد تختار إيران إلقاء اللوم على الجهات الخارجية التي تشتبه فيها عادة، وهي الـ “موساد” ووكالة المخابرات المركزية الأميركية، أو قد توجه السلطات الإيرانية أصابع الاتهام إلى معارضيها المحليين، سواء على الصعيد السياسي أو الإثني أو الديني، وبالتالي فقد يسمح تحديد الطرف الذي ستلومه إيران بتسليط الضوء على المعارك القائمة على الزعامة، مما قد يبرر التأخير الحاصل في الإدلاء بتصريح نهائي وحاسم حول الموضوع، فعند التلاعب بالحقيقة غالباً ما يقتضي الأمر استعدادات معقدة للتخلص من الأدلة المتضاربة وتلفيق أدلة جديدة.
وبموازاة ذلك لا تملك الأطراف الخارجية سوى انتظار صدور الكلمة الحاسمة لتقييم تأثيراتها وتداعياتها إذا ما خلفت أثراً في معركة الخلافة، وفي تلك الأثناء وخلال الساعات والأيام التالية للتقارير الأولى حول “الهبوط الاضطراري” للمروحية الرئاسية، قامت قوى الجيش والأمن بتعزيز دفاعاتها ترقباً لأية اضطرابات وتدخلات، محلية كانت أم خارجية.
وتتمثل المسألة الحساسة بضرورة اختيار مرشد جديد للبلاد، أو في الأقل تحديد إجراءات ملموسة لهكذا قرار وبوقت أسرع مما كان متوقعاً، فواقع الحال أن آية الله علي خامنئي على مشارف الـ85 من العمر وصحته ليست على ما يرام، ولم يكن لإيران إلا مرشدين أعليين منذ “ثورة 1979″، ولم يسبق أن أرست إجراءات راسخة في شأن الخلافة.
وفي هذا الصدد يعتبر كثيرون أن العملية الانتخابية المليئة بالتزوير والتلفيق، التي أوصلت رئيسي إلى الرئاسة، كانت تهدف إلى إرساء نظام خلافة أكثر استقراراً، على أن يحل رئيسي بسلاسة مكان خامنئي عندما يحين الوقت المناسب لذلك.
بيد أن هذا التكتيك لم يلق قبول الجميع ولا سيما مجتبى، ابن خامنئي، الذي يأمل في خلافة أبيه في منصبه، ومن المفارقة أن تخوف والده من إرساء نظام وراثي للخلافة، وهو ما أخذه عليه منافسو مجتبى بشدة، قد ساعد في نشر مفهوم يفيد بأن الرئاسة قد تكون بمثابة نقطة انطلاق.
ووسط ترقب الانتخابات الرئاسية الجديدة في الـ 28 من يونيو (حزيران) المقبل، تدور تساؤلات حول ما إذا كان الفائز فيها سيمتلك تلقائياً نفوذاً يخوله أن يكون كبير المرشحين لتولي منصب المرشد الأعلى، ويعني ذلك بلا أدنى شك أن جملة من المرشحين سيتقدمون وأن صراعاً داخلياً سيحتدم في دوائر الحكم قبل وقت مديد من وفاة المرشد، ويرجح أن تكون هذه الطريقة الوحيدة ليتخلى عن منصبه.
إن تجنب الغموض في شأن الخلافة هو ما أرادته القيادة الدينية والمدنية والعسكرية العليا ضمن النظام، لكن يبدو أنه لا مفر من ذلك على الإطلاق، فالتواطؤ وانتشار التسييس وما هو أسوأ من ذلك سيؤدي إلى توسيع الانشقاقات الفعلية في القيادة العليا في إيران ويفسح المجال أمام انقسامات جديدة، ونلاحظ نشوءاً وتطوراً سريعاً لمحاور نفوذ ومنافسة مختلفة بين آيات الله وزعامات الفروع التشريعية والقضائية في الحكومة والحرس الثوري وقادة الجيش النظامي، وكلما طالت مدة الصراع زاد مرارة واحتداماً وطال مداه.
وبالكلام عن النفوذ المطلق فإن الحرس الثوري يمثل قوة قادرة بسهولة على مقاومة التركيبة الهشة للحكومة المدنية أو حتى القوات العسكرية النظامية، وفي هذا الإطار يعتبر كثيرون أن قائد “فيلق القدس” الراحل قاسم سليماني كاد يكون ابناً لآية الله خامنئي، وكان نفوذه يذهب إلى أبعد بكثير مما أوحى به منصبه الرسمي، وبالنظر إلى التراجع غير المسبوق في شعبية النظام في أنحاء إيران، على خلفية المشكلات الاقتصادية وامتعاض الشباب والغضب الذي سببه قتل مهسا أميني قبل 18 شهراً، وسلسلة مطولة من التوترات على خلفية إثنية ودينية، ينظر آيات الله وغيرهم من قادة النظام إلى الحرس الثوري على أنه الملاذ الوحيد الآمن والموثوق الولاء لهم.
لكن ماذا سيحدث لو حصل انقسام في قلب الحرس الثوري الإيراني؟
في حال تمكنت المعارضة الإيرانية من إثارة النعرات بين قادته أو حتى داخل الجيش النظامي، فقد ينكسر احتكار النظام شبه المطلق والفتاك للسلطة، وقد تشارك الجماعات الإثنية الساخطة، مثل الأكراد والبلوش، مما يزيد الاحتمال بأن تقع اشتباكات داخلية قد تحتدم وتشارف على التحول حرب أهلية.
وغالباً ما كانت الأنظمة الاستبدادية التي فرضت نفسها ظاهرياً كسلطة مطلقة، مثل روسيا القيصرية، على مر التاريخ جوفاء من الداخل قبل وقت طويل من سقوطها، وبالتالي انهارت على جناح السرعة في مواجهة جملة من المعارضين الحازمين، وفي الوقت الراهن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كان آيات الله سيواجهون المصير نفسه، بيد أن ثورتهم اليوم على المحك وتواجه خطراً كبيراً فعلياً.