يروي المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف مؤلف كتاب “دولة بأي ثمن: حياة بن غوريون” أن مؤسس الدولة ديفيد بن غوريون قال لرفاقه “ربحنا حرب الاستقلال ليس لأننا محاربون جيدون بل لأن العرب كانوا أسوأ”. وحين واجهت إسرائيل محاربين عرباً جيدين في حرب 1973 مع مصر وسوريا، ثم في مفاجأة “طوفان الأقصى” لها على يد “حماس” كما في حرب غزة، وقبل ذلك مع مقاتلي “حزب الله” في الجنوب اللبناني، فإنها ذاقت طعم الهزيمة.
لكن الدولة العبرية محكومة بأن تعيش عنوان كتاب الجنرال موشي دايان “هل نحمل السيف إلى الأبد؟”. إذا لم تكن في حرب، فإنها تخوض ما تسميها “المعركة بين الحروب”. وإذا جرى وضعها أمام خيار محدد هو التفاوض لقيام دولة فلسطينية على أساس “حل الدولتين” لم تتردد في مواجهة إدارة الرئيس جو بايدن التي أعطتها كل شيء رافعة شعار رئيس الحكومة الأشد تطرفاً في تاريخ إسرائيل بنيامين نتنياهو “لا لدولة فلسطينية، ولا حماستان ولا فتحستان”.
ويقال إنه خلال نقاش لتدارس دعوة أميركية إلى وقف النار في الضفة الغربية يوم 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2001 اعترض شمعون بيريز على أي إجراء يستفز الحليف الأميركي، فرد آرييل شارون بالقول “لا تقلق في شأن الضغط الأميركي، فنحن الشعب اليهودي نسيطر على أميركا والأميركيون يعرفون ذلك”.
واليوم تتحدى حكومة نتنياهو إدارة بايدن والأمم المتحدة والعالم في ثلاثة مطالب ترفضها: وقف الدخول إلى رفح، ووقف النار في حرب غزة، والسير في حل الدولتين. وهي في وضع لا سابق له في الخارج والداخل حيث الانقسام عميق جداً. هي، كما يقول الفيلسوف يوفال يوثان هراري في “هآرتس”، صارت “دولة مكروهة ومنبوذة وفي وضع شمشون الجبار الذي جرى أسره في غزة فاستخدم قوته لتهديم الهيكل قائلاً: علي وعلى أعدائي يا رب”. وهي التي كانت الحليف الوحيد لجنوب أفريقيا أيام نظام “الأبارتهيد” العنصري واجهت اليوم جنوب أفريقيا المتحررة مع نيلسون مانديلا التي ذهبت إلى محكمة العدل الدولية طالبةً إدانة إسرائيل بجريمة “الإبادة الجماعية” وحصلت على أمر من المحكمة بوقف الحرب. وهي التي تواجه بجنون طلب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع يؤاف غالانت إلى جانب مذكرات توقيف بحق يحيى السنوار وإسماعيل هنية ومحمد ضيف. وهي التي ترى إسبانيا وإيرلندا والنرويج تنضم إلى 147 دولة تعترف بالدولة الفلسطينية، وإن كانت دولة على الورق تحت الاحتلال أو حتى “دولة بساط الريح”، كما كان يقول ياسر عرفات.
لكن أكثر ما يخيف إسرائيل هو أن تفقد الحماية الأميركية. حماية دبلوماسية بالفيتو من أي قرار في مجلس الأمن بوقف الحرب. حماية بالأسلحة عبر جسر جوي حمل حتى الآن خلال حرب غزة ما يزيد على ملايين الأطنان من الذخائر والأسلحة. وحماية مباشرة من خلال الردع والاستعداد الأميركي للحرب إلى جانب إسرائيل إذا دخلت فيها إيران. ولا سيما أن دور إسرائيل تغير، كما كشفت حرب غزة: من مركز متقدم للغرب في الشرق يحمي مصالح الغرب ويقاتل خصومه، بالتالي “حاملة طائرات” أميركية ثابتة بكلفة قليلة كما قالها شارون إلى موقع يحتاج إلى حماية الغرب المباشرة له.
ذلك أن معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب رأى في دراسة له “أن أهمية إسرائيل بالنسبة إلى أميركا تكمن في مجالين هما المجال التكنولوجي والقوة الأمنية لكن هذه الأهمية تكون واقعية فقط إذا التزمت إسرائيل القيم المشتركة التي تقرر العلاقات المميزة”. أما إذا ابتعدت إسرائيل عن القيم الديمقراطية الأميركية، فإن تعزيزها في مجالي التكنولوجيا والأمن يصبح مناقضاً للمصلحة الأميركية. ويلاحظ المعهد “أن المجتمع الأميركي صار أقل تديناً، والإسرائيلي صار أكثر تديناً” ليصل إلى القول بأن “العلاقات مع أميركا تظهر الفارق بين كون إسرائيل قوة إقليمية عظمى وبين كونها دولة صغيرة لديها قدرات محدودة”.
وليس جديداً ما طرحه جون هوفمان في مقال في “فورين بوليسي” تحت عنوان معبر “إسرائيل رصيد أم عبء استراتيجي على أميركا؟”. فهو رأى أن “دعم واشنطن الدائم للسياسات الإسرائيلية أدى إلى حماية إسرائيل من أن تدفع كلف تلك السياسات، ودعم الحرب الوحشية في غزة أدى إلى تشويه صورة أميركا”. وكان اقتراحه هو “التعامل مع إسرائيل مثل أي دولة أخرى، والارتكاز في التزام واشنطن شؤون إسرائيل على تحقيق المصالح الأميركية بطرق ملموسة، والامتناع عن تجاهل التجاوزات الإسرائيلية للمصالح الأميركية”، لكنه يصل في النهاية إلى التساؤل عن العوامل التي تدفع إسرائيل “إلى تغيير مسارها إذا كانت أقوى دولة في العالم تمتنع عن فرض أي شروط مقابل الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري”.
صحيح أن بايدن أمر بوقف تسليم شحنة أسلحة مهمة لإسرائيل بعد تحديها له في طلبه الامتناع عن دخول رفح من دون ضمان أماكن آمنة لمليون ونصف المليون لاجئ هناك، لكن الصحيح أيضاً أنه أرسل أسلحة أخرى، فضلاً عن أن الجمهوريين في مجلس النواب سارعوا إلى التصويت على قرار يجبر إدارة بايدن على إرسال الأسلحة الموقوفة. فأي رئيس أميركي، من رونالد ريغان وجورج بوش الأب إلى باراك أوباما وجو بايدن، يلوح بمعاقبة إسرائيل على تجاوز الخطوط الحمر، يجد نفسه في مواجهة مع الكونغرس الذي وصفه مرة مرشح رئاسي مستقل من خارج الحزبين الديمقراطي والجمهوري بأنه “أرض محتلة إسرائيلياً”.
وحين يقصر الكونغرس يتولى الدور الإعلام الذي يسيطر عليه اليهود، وتتحرك اللوبيات وعلى رأسها “الإيباك”. ألم ينقل بايدن عن والده قوله “ليس من الضروري أن تكون يهودياً لكي تكون صهيونياً؟”. ألم يقل بايدن لنتنياهو أيام كان نائب الرئيس أوباما “لست مع كل ما تقوله، لكني أحبك؟”. اللافت طبعاً هو ظاهرة التضامن العملي مع قضية فلسطين وضد حرب غزة بين الطلبة في معظم الجامعات الأميركية. واللافت أيضاً هو التحولات البطيئة في المجتمع الأميركي. وإذا كان بايدن قد اتخذ بعض المواقف ضد نتنياهو خوفاً من تأثير دعمه على حظوظه الرئاسية في انتخابات الخريف، فإن منافسه في المعركة الرئاسية الرئيس السابق دونالد ترمب يزايد عليه في دعم إسرائيل. والمهم، مع ذلك وقبله، هو التحولات العميقة في الرأي العام الدولي، من أوروبا إلى الجنوب العالمي. والكل يحلم بأن تعود أميركا إلى مواقفها أيام رئاسة دوايت أيزنهاور وقول وزير خارجيته جون فوستر دالاس “إسرائيل حجر رحى في أعناقنا”، لكن هذا النوع من الأحلام يبدو صعباً في بلد “الحلم الأميركي”.