ألمانيا والحرب على غزة… أبعد من التفاصيل

ألمانيا والحرب على غزة… أبعد من التفاصيل

 

إذا كانت النظرة الإيجابية لألمانيا بين الشعوب العربية والشعوب الإسلامية تنهار بسبب سياسات الانحياز الأعمى التي تمارسها برلين إزاء حكومة التطرف الإسرائيلية في تل أبيب، فإن دولا أوروبية أخرى كإسبانيا والنرويج وأيرلندا التي اعترفت بدولة فلسطين يتزايد القبول العام لها وترتفع معدلات الرضاء الشعبي من سياساتها بين العرب والمسلمين. بل أن دولا كبريطانيا وفرنسا، وهي لم تعترف بعد بدولة فلسطين غير أنها خرجت بعدة مبادرات لإيقاف الحرب ووقف إطلاق النار وإدخال المزيد من المساعدات الإنسانية إلى غزة المنكوبة، ينظر إليها بشيء من الإيجابية لكونها لم تصمت على الكارثة الكاملة التي يمثلها استمرار الحرب.
أما ألمانيا، فسياساتها الأحادية والمنحازة تعود عليها بالكثير من الضرر وتقزم دورها في قضية فلسطين وبالتبعية في قضايا الحرب والسلام في الشرق الأوسط لتصبح وهي القوة الأوروبية المؤثرة أقرب إلى الدول المتوسطة والصغيرة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. لا دور ألماني فيما خص حرب غزة سوى خليط من الصمت العلني وإعلان التأييد للمبادرات الأمريكية والأوروبية التي قد تقبلها إسرائيل، وأخرها خطة بايدن لوقف إطلاق النار وتحرير الرهائن. لا دور ألماني فعال أو بناء يستهدف التوسط لإنهاء الحرب أو الضغط على حكومة تل أبيب لإنفاذ المزيد من المساعدات الإنسانية، بل، وعلى العكس من ذلك تماما، تواصل حكومة برلين المكونة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر والحزب الديمقراطي الحر تقديم الدعم العسكري والمالي لائتلاف بنيامين نتنياهو المتطرف.
خلال الأسابيع الماضية، توالت الإشارات بشأن الكلفة غير القليلة في الداخل والخارج للانحياز الألماني. داخليا، اعتصمت وتظاهرت مجموعات من طلاب الجامعات في كبريات المدن كبرلين للمطالبة بوقف الدعم المقدم لحكومة إسرائيلية متطرفة تتورط كل يوم في المزيد من شبهات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وعلى خلاف الولايات المتحدة التي أنتج بها الحراك الطلابي حالة من الاهتمام العام بالحرب وبقضية فلسطين وبسبل التسوية بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي وضغط على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتغيير بعض سياساتها وممارساتها إن بالتجميد المؤقت لصادرات السلاح أو بتنشيط دبلوماسية الوساطة بغرض الوصول إلى وقف لإطلاق النار، تدخلت حكومات الولايات الألمانية سريعا لإنهاء الاعتصامات الطلابية والحد من الاحتجاجات المناهضة للحرب والمنددة بالكارثة البشرية والمادية والبيئية التي حلت بغزة وأهلها. تدخلت حكومات الولايات سريعا، موظفة الأدوات البوليسية والقانونية للحد من التذمر العام.

يعود اليوم إلى إعلام جمهورية برلين وبقوة الصوت الواحد والرأي الواحد المؤيد لنتنياهو وحكومته المتطرفة فيما خص تناول غزة وقضية فلسطين وقضايا الحرب والسلام في الشرق الأوسط

خلال الأسابيع الماضية، وبعد الشهور الطويلة والمريرة منذ بداية الحرب في أكتوبر / تشرين الأول والتي شهدت معالجة فجة الأحادية من جانب وسائل الإعلام الألمانية لحرب غزة صورت في سياقها الكارثة كدفاع شرعي عن النفس من جانب إسرائيل وحملت حماس مسؤولية سقوط الضحايا المدنيين من الأطفال والنساء والرجال ومسؤولية الدمار وشبح المجاعة الذي أحاط بسكان القطاع وعرضت بها أهداف حكومة نتنياهو المتمثلة في تدمير حماس وإعادة احتلال القطاع لضمان استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي كأهداف مقبولة ومؤيدة من نخب الحكم والسياسة الألمانية، خلال الأسابيع الماضية انتقلت بعض وسائل الإعلام الألمانية إلى معالجات بها شيء من الموضوعية وشيء من طرح وجهات النظر الفلسطينية والعربية عوضا عن الاكتفاء بوجهات النظر المنحازة إلى حكومة تل أبيب ومؤيديها. غير أن القليل من الموضوعية والتنوع في وجهات النظر الذي تسرب تدريجيا إلى الإعلام لم يرق لنخب الحكم والسياسة في ألمانيا، وكان الرد عليه بإطلاق سيل إن من اتهامات العداء للسامية ضد أصحاب وجهات النظر الفلسطينية والعربية أو من الاتهام بكراهية الذات ضد الأصوات اليهودية المنتقدة للحرب. ومن ثم، يعود اليوم إلى إعلام جمهورية برلين وبقوة الصوت الواحد والرأي الواحد المؤيد لنتنياهو وحكومته المتطرفة فيما خص تناول غزة وقضية فلسطين وقضايا الحرب والسلام في الشرق الأوسط، وعلى الهوامش فقط بعض الحديث عن ضرورة إنقاذ السكان من خطر المجاعة وإنفاذ المزيد من المساعدات الإنسانية وعن حتمية التفكير في حلول سلمية قصيرة وطويلة المدى للصراع بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي – وهنا يترك الجهد من بابه في التناول الألماني للولايات المتحدة ودبلوماسيتها.
أما في التفاصيل اليومية لما يجري في غزة ولشبهات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، فلا إشارة في الإعلام الألماني لها لأن سيف العداء للسامية المسلط على رقاب المنددين بالحرب وسيف كراهية الذات المسلط على رقاب الأصوات اليهودية الناقدة جاهز تماما للاغتيال المعنوي وللإخراج من دوائر المشاركات والمشاركين في النقاش العام.
ثم جاءت، وفيما خص نظرة العرب والمسلمين لألمانيا، مسألة انضمام حكومة برلين إلى حكومة تل أبيب في الدفاع عن إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية إزاء اتهامها بالتورط في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وتلك خطوة ذهبت بالقليل المتبقي من توقع سياسات وممارسات متوازنة من قبل برلين أدراج الرياح. وتلك خطوة لم تقدم عليها لا الحكومة الأمريكية ولا حكومات غربية أخرى.