تحدد أدبيات العلاقات الدولية أسسا لإقامة واستدامة النظام الدولي، أولها الفاعلون الدوليون من دولة ومنظمات دولية وشركات عابرة للقارات ومنظمات غير حكومية، وفاعلون يؤثرون فى العلاقات الدولية، وثانيها عدد من الدول ذات الحيثية الاقتصادية والعسكرية والتى يمكن أن تقود النظام، وثالثها الأهداف التى يسعى النظام إلى تحقيقها كالأمن والسلام والعدل بين الأعضاء، ورابعها: هوية النظام ثم اتفاق كل الأطراف على قبول القواعد الحاكمة للنظام الدولي، وقد بزغ النظام الدولى الراهن عقب الحرب العالمية الثانية، حينما اتفقت خمسون دولة على ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، وأقرت بالدول الخمس الدائمة العضوية، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى وبريطانيا وفرنسا والصين، كقيادة لهذا النظام، واستمر الأمر إلى سقوط الاتحاد السوفيتى عام 1991، وتربع الولايات المتحدة على قمته مما تسبب فى تغيرات كبرى فى قيادة النظام وهويته وأهدافه ومدى قبول بقية الأطراف بتلك التغييرات.
إلا أن حرب الإبادة والتهجير والتجويع التى تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين بمساعدة ومشاركة الولايات المتحدة ودول أوروبية كبريطانيا وألمانيا وإيطاليا.. وغيرها والتطورات اللاحقة بشأن وضوح السيطرة شبه الكاملة من جانب المسيحية الصهيونية وجماعات الضغط والمصالح الصهيونية على عمليتى صنع واتخاذ القرار فى الولايات المتحدة، وغيرها من الدول الأوروبية بدأت تثير أسئلة جاءت حول مآل النظام الدولى الراهن، وكيف تم اختطافه من قبل إسرائيل والغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) واسئلة أخرى حول نتائج هذا الاختطاف على السلم والأمن الدوليين؟ خصوصا أن نظام الأمم المتحدة بما فى ذلك الفصل السابع من الميثاق قد أصابه الشلل نتيجة مغالاة الولايات المتحدة فى استخدام حق الفيتو ضد أى قرار يتصل بإسرائيل كدولة توسعية أو لصالح فلسطين تمهيدا لعضويتها فى الأمم المتحدة على الرغم من قبول أغلبية الأعضاء (143 دولة من إجمالى 163) بعضويتها الكاملة.
ومما زاد الطين بلة، أن اختطاف إسرائيل والغرب للنظام الدولى يتم بوتيرة سريعة جهارا نهارا دون أى غطاء، ولو دبلوماسيا، فالولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وغيرها تمد إسرائيل الدولة القائمة بالعدوان، بالسلاح والذخيرة والمال الوفير، بل وبالقوات الخاصة، وتضع قواتها فى البحر المتوسط على أهبة الاستعداد لمساندة العدوان الإسرائيلى فى تحد واضح للقواعد الدولية التى تقضى بالوقوف فى مواجهة العدوان، وهو ما فعلته هذه الدول ذاتها ضد روسيا، باعتبارها الدولة «المعتدية» على أوكرانيا، وهكذا، فإن الموقف الغربى المساند والمشارك لإسرائيل فى حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين يتعارض تماما مع قواعد صد العدوان، وضرورة إقامة السلم والأمن الدوليين والحفاظ عليهما.
وإذا كانت إسرائيل والصهيونية تسيطران على كل من السلطة ؟ التشريعية والتنفيذية فى الولايات المتحدة ودول عديدة فى أوروبا، فإن تلك مسألة داخلية لا شأن لنا بها، وتدركها لمواطنيها لانتقادها ومعارضتها، بعد أن تتحول إلى عملية سياسية عدائية ضد مؤسسات النظام الدولى المستقرة، وضد عملها فى صيانة حقوق الإنسان ومنع جرائم الإبادة ضد المدنيين العزل، فإن ذلك يمس أحد الأهداف التى يسعى إلى تحقيقها النظام الدولي، وهى الأهداف التى تتوافق عليها الدول كافة إذ لم يتوقف رد فعل الولايات المتحدة وبريطانيا على طلب المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات توقيف لرئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو ووزير دفاعه جالانت بخصوص الإبادة الجماعية للفلسطينيين واستخدام التجويع كسلاح فى الحرب، وكذلك توقيف قيادات حماس الميدانية على التنديد والاستنكار، بل تعدى ذلك إلى التشكيك فى ولاية المحكمة على قادة إسرائيل، وامتد إلى دراسة كيف يمكن فرض جزاءات ضد القضاة أعضاء المحكمة، بل وكذلك ضد قضاة محكمة العدل الدولية، هذا الهجوم الشرس على السلطة القضائية للنظام الدولى الراهن، رغم أنه نظام يحاول إقامة العدل بين الدول، يفوض ركنا لا غنى عنه لاستمرار هذا النظام.
إن المغالاة فى استخدام الفيتو ضد كل ما يتعلق بسلوك إسرائيل كدولة احتلال عسكري، وضد حربها باعتبارها دولة معتدية، وضد فلسطين كدولة مكتملة الأركان، أدت إلى نتائج بعضها إيجابي، والبعض الآخر مرير على مستقبل العالم، فمن ناحية، بدأ القلق يسيطر على العالم كله بشأن ما الذى يمكن أى يحدث، وما إذا كانت إسرائيل تطبق سلوك الأرماجدون.
إما أن تنتصر وتنشئ إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر، ومعنا الولايات المتحدة، وبعض دول الغرب، وإما نهاية العالم، الدول تشعر بالاشمئزاز من التحيز الأعمى المطلق الغربى لإسرائيل دون أى سند سوى أنها آخر ما بقى من معالم الاستعمار الغربي، هذا فضلا عن بعض الأهازيج الدينية المشكوك فى صحتها بشأن اليهود كشعب الله المختار، ومن ناحية أخري، ولبيان عدم مباركة ما تقوم به إسرائيل والولايات المتحدة ضد ما بقى من النظام الدولي، ولاحترام حق الفلسطينيين فى إقامة الدولة المستقلة على أرضهم، سارعت دول عديدة إلى الإسراع بالاعتراف بدولة فلسطين كفاعل دولى كامل الأهلية فى النظام الدولي، تذكر هنا النرويج وأيرلاندا وإسبانيا، وكانت كل من سلوفاكيا، والمجر وبولندا قد سبقت باتخاذ تلك الخطوة.
إن التشكيك فى قيادة النظام الدولى الراهن، وعدم الاتفاق على أهدافه العليا، وعدم رضا أطرافه عما يدورفيه من تحيز مقيت إلى إسرائيل كدولة احتلال عسكري، ودولة عنصرية توسعية ودولة عدوانية يعجز النظام الدولى على التعامل معها، ولا يستطيع أن يصنفها كدولة مارقة لا تحترم أى قواعد دولية تم الاتفاق عليها، ولا تلتزم بها، وعدم اليقين حول هوية هذا النظام وما إذا كان غربيا، وليس دوليا كونيا، كل ذلك يجعل اختطاف إسرائيل والغرب للنظام الحالى دافعا إلى حتمية البحث عن نظام دولى جديد يقوم على أسس مختلفة، وأهداف جادة للحفاظ على الأمن والسلم، وإقامة العدل بين الإنسان إينما كان.
د. عبدالمنعم المشاط
استاذ العلاقات الدولية في جامعة القاهرة
صحيفة الأهرام