في الأيام الأخيرة، وتحديداً بعد مصرع رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي، استقطبت الأحداث الداخلية الإيرانية اهتمام المحافل السياسية الدولية والإقليمية، إما لجهة التكهنات حول طبيعية سقوط المروحية التي أقلت الرئيس والفريق المرافق له، وهل هي حادثة نتيجة عوامل طبيعية أو بفعل فاعل خارجي أو نتيجة صراع أجنحة داخل منظومة السلطة، وإما لجهة طبيعة الرئيس الذي سيخلف رئيسي على رأس السلطة التنفيذية، وكيف سينتهي السباق الرئاسي بإيصال رئيس من الفريق المتشدد يكون استكمالاً لعهد الرئيس الراحل، أو رئيس محافظ يعطي إشارات اعتدالية أو يمثل الجناح المعتدل داخل التيار المحافظ الرسمي.وعلى رغم احتدام المعركة الانتخابية إلا أن المؤكد أنها ستبقى خلال الأسبوع المقبل، في حال المراوحة وعدم حسم الاتجاهات التي ستتخذها، بانتظار قرارات مجلس صيانة الدستور والأسماء التي ستخرج من الجهة الأخرى للمصفاة أو المقصلة التي تحدد أهلية المرشحين، والتي من المتوقع أن تشطب من السباق أكثر من 70 مرشحاً من أصل 80 شخصاً قبلت أوراق ترشحهم خلال المرحلة الأولى لدى وزارة الداخلية.
التطورات المرافقة للسباق الرئاسي والصراع على الوصول إلى قيادة السلطة التنفيذية كشفا عن وجود معركة قاسية على مرحلتين داخل التيار المحافظ أو الكتلة السياسية الحاملة للخطاب الرسمي للنظام ومنظومة الدولة العميقة، تمثلت المرحلة الأولى في الهجوم الواسع لشخصيات من هذا التيار على تقديم ترشيحها، أما المرحلة الثانية فمن المفترض أن تبدأ بعد انتهاء مجلس صيانة الدستور من إقصاء الأسماء التي لا تتناسب مع هذه المرحلة ولا تنسجم مع تقديرات الدولة العميقة، إلا أن المعنيين فيها أو أقطابها لم ينتظروا ما سيخرج به هذا المجلس، وفتحوا نيرانهم باكراً ضد خصومهم المحتملين، توفيراً للوقت وعلى أمل أن يعززوا مواقعهم الانتخابية من خلال إلحاق الضرر بالجهة المقابلة، ولعل أبرز معالم هذه المعركة الباكرة تلك التي تدور على المستوى الإعلامي بين أبرز المرشحين أمثال رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الأسبق سعيد جليلي والرئيس السابق للبرلمان علي لاريجاني.
اللافت في هذه الانتخابات وما يبعث على التأمل أنها ستكون محصورة بين ممثلين عن التيار المحافظ بكل أطيافه، إضافة إلى أن المراوحة الواسعة للمرشحين من كل المستويات داخل هذا التيار تكشف حجم التراجع الذي لحق بموقع رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، خصوصاً بعد الانتخابات الأخيرة التي جرت عام 2021 وعملية الهندسة التي قام بها النظام من أجل إيصال المرشح الذي يريده على حساب المشاركة الشعبية التي لم تتجاوز 31 في المئة من أصل أكثر من 63 مليون شخص يحق لهم الاقتراع، وأن الرئيس المنتخب حينها حصل على نحو 67 في المئة من الأصوات المشاركة التي بلغت نحو 30 مليون مقترع.
هذا التراجع في موقع ودور رئاسة الجمهورية شكل الحافز لكل المرشحين الذين سجلوا أسماءهم للمشاركة في هذا السباق، بالطموح في دخول هذا البازار السياسي الذي لم يعد يتطلب من المرشح تقديم برنامج عمل حكومي على المستويين السياسي والاقتصادي داخلياً وخارجياً، وإنما إعلان الالتزام بالعمل في إطار توجيهات قيادة النظام والمرشد الأعلى، مع تمايز مارسه أولاً علي لاريجاني الذي وضع المصالح الإيرانية باعتبارها البوصلة التي تحدد السياسيات الخارجية في برنامجه السياسي، إضافة إلى العمل على معالجة الوضع الاقتصادي وترميم الخلل الذي أصابه.
ولعل تجربة وصول أو إيصال محمود أحمدي نجاد الرئيس الأسبق إلى هذا الموقع عام 2005، والذي شكل صدمة للأوساط السياسية وحتى المحافظة في حينها، خصوصاً أنه جاء من خارج كل التوقعات والسياقات المتبعة في انتخابات رئاسة الجمهورية، هو الذي شجع غالبية الوزراء الذين عملوا معه على تقديم ترشيحاتهم في هذا السباق، انطلاقاً من أنهم قادرون على لعب الدور الذي لعبه أحمدي نجاد، مع الالتزام بالسقوف التي يحددها المرشد، وعدم التفكير بالخروج عليه كما فعل رئيسهم في آخر عامين من رئاسته الثانية.
وعلى رغم أن المعركة الانتخابية ستدور رحاها داخل التيار المحافظ، والمتوقع أن تكون قاسية بين الأسماء النهائية التي سيوافق عليها مجلس صيانة الدستور، وقد تتجاوز حدتها المستوى الذي شهدته الانتخابات البرلمانية، فإن الانقسام يسير باتجاه التصاعد بين أطياف هذا التيار، إذ إن حرباً نفسية يمارسها الأقطاب المشاركون ضد الآخرين من المنافسين، بدأ من لعبة الكشف عن ملفات فساد، وتالياً الترويج لإمكان شمولهم بقرار الإقصاء من قبل صيانة الدستور لأسباب تتعلق بمصلحة النظام والسلطة.
هذا الصراع المفتوح على مصارعيه داخل التيار المحافظ، وفي حال تعددت الأسماء المشاركة في السباق النهائي، قد تؤجل الحسم إلى الدورة الثانية التي حددت في الأسبوع التالي على الدورة الأولى التي ستجري في الـ 29 من يونيو (حزيران) الجاري، وهو ما لا يرغب فيه المرشد تحديداً والذي يسعى إلى توظيف اللحظة العاطفية والشعبية التي ظهرت في وداع الرئيس الراحل، ورفع مستوى المشاركة كي يتجاوز 60 في المئة، وترجمتها سريعاً بحسم النتيجة من الدورة الأولى، مما يحد من هاجس وقلق التمثيل الشعبي المطلوب خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً في ظل إمكان حصول تغيير في إدارة البيت الأبيض وعودة دونالد ترمب للرئاسة الأميركية.
وأمام هذا المشهد فإنه قد يسمح لواحد أو اثنين من مرشحي القوى الإصلاحية بالمشاركة في السباق النهائي كمجرد تسجيل حضور، مما يعني أنها ستكون في موقع المتفرج لإيصال رسالة إلى النظام وقيادته بأن الأزمة لها بعد بنيوي، فضلاً عن ازدياد مستوى الصراع بين القوى الموالية للنظام والذي يدفع القيادة نحو إدراك عمق الأزمة والانسداد الأيديولوجي الذي وصلت إليه المنظومة الثيوقراطية، مما يفتح الطريق أمام إمكان الانتقال إلى مرحلة تغيير حقيقي في بنية النظام مستقبلاً.