تطابقت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت بين يومي 6 و9 يونيو/حزيران الحالي، مع استطلاعات الرأي التي سبقتها إلى حد بعيد، لناحية التقدم المهم الذي أحرزه اليمين المتطرف في البرلمان الأوروبي، واستمرار هيمنة اليمين بشكل عام، داخل برلمان الاتحاد الأوروبي المؤلف من 720 نائباً أوروبياً، مع تقدم أيضاً لليسار. كما تطابقت هذه النتائج مع ما يمكن توقّعه لناحية المزاج الأوروبي، المتأثر منذ سنوات بالصعود التدريجي لليمين المتطرف داخل القارة العجوز، وهو تصاعد بدأ يؤتي ثماره اليوم، لناحية مأسسة هذا التيار، وإمكانية وصوله إلى السلطة في أكثر من بلد أوروبي. علماً أنه يحكم أصلاً مجموعة من البلدان مثل إيطاليا وهولندا والمجر. ويعود هذا الصعود إلى أسباب عدة، من بينها الهجرة غير النظامية التي عصفت بالقارة منذ أكثر من عقد، وأزمة تكلفة المعيشة التي تفاقمت مع موجة كورونا، ثم الغزو الروسي لأوكرانيا، وانشغال لوبيات بتعزيز دور اليمين المتطرف في أوروبا، عبر تفعيل ماكينات إعلامية من أجله، وهو ما اتهمت به روسيا، فضلاً عن تداعي الثقة لدى شعوب القارة بالأحزاب التقليدية في بلدانها التي ضعف تأثيرها وتتهم بالتورط أكثر في منظومات الفساد التقليدية، وهو ما جعل هذه الشعوب تميل نحو الراديكالية اليمينية أو اليسارية.
نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي
وخرجت يوم أمس الاثنين، النتائج شبه النهائية لانتخابات البرلمان الأوروبي المؤلف من 720 نائباً، إذ نشرت صحيفة لوموند الفرنسية، عصر أمس، تحديثاً لها، تضمّن حسم 706 مقاعد، توزعت على: 180 مقعداً للمحافظين مقابل 170 لهذه الكتلة في برلمان 2019 (تحت اسم مجموعة أحزاب الشعب الأوروبي – إي بي بي)، 73 مقعداً لكتلة “أي سي آر”، وهي كتلة أحزاب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين، وهي مجموعة يمين قومي محافظ، وكانت تملك في البرلمان السابق 67 مقعداً. كما حصل اليسار الراديكالي على 32 مقعداً في البرلمان الجديد، بينما حصلت كتلة “الهوية والديمقراطية”، وهي أيضاً تمثل اليمين المحافظ، على 58 مقعداً، بالإضافة إلى يمين متطرف “متفرق”، بحسب “لوموند”، ويضم 47 نائباً جديداً، فيما حصلت المجموعة الاجتماعية الديمقراطية في البرلمان الجديد على 138 مقعداً، والخضر على 52 مقعداً، والوسطيون والليبراليون، 77 مقعداً (وكانت تملك 102 مقعد في البرلمان السابق). ووفق تقديرات نشرها البرلمان الأوروبي أول من أمس الأحد، فإن مجموعة أحزاب الشعب الأوروبي قد تحصل على 191 مقعداً.
جاءت مكاسب اليمين المتطرف على حساب حزب الخضر
وفي المحصلة، فقد هزّت الأحزاب اليمينية المتطرفة، القوى التقليدية في الاتحاد الأوروبي المكون من 27 دولة، وحققت مكاسب كبيرة بعد صدور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت الأسبوع الماضي، مسجلة هزيمة مهينة بشكل خاص لحزب النهضة الفرنسي الذي يتزعمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث كان حزب التجمع الوطني الفرنسي بزعامة مارين لوبان نجم نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي أول من أمس، والذي هيمن على صناديق الاقتراع الفرنسية، بحصوله على أكثر من 30%، أو حوالي ضعف ما حصل عليه حزب ماكرون، النهضة، المؤيد لأوروبا (حوالي 15.5%)، وذلك من أصل 81 مقعداً فرنسياً في البرلمان الأوروبي، إلى حدّ دفع الرئيس الفرنسي على الفور إلى حلّ الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات جديدة مقررة في 30 يونيو/حزيران الحالي و7 يوليو/تموز المقبل.
كما ضاعفت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني مقاعد حزبها في البرلمان الأوروبي، محققة نسبة أصوات بين 25 إلى 31%، كذلك حقّق حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، رغم فضيحة له تتعلق بمرشحين، تقدماً على الحزب الديمقراطي الاجتماعي المتراجع بزعامة المستشار أولاف شولتز، وحل ثانياً في ألمانيا. وبحسب وكالة أسوشييتد برس، فقد رفع حزب البديل الألماني نسبة مقاعده إلى 16.5% بعدما كانت 11% في انتخابات عام 2019. وبالمقارنة، فإن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي المجمعة للأحزاب الثلاثة في الائتلاف الحاكم الألماني تجاوزت بالكاد نسبة 30%. لكن حزب البديل تقدم بفارق كبير على حزبي الائتلاف الحاكم، الاشتراكيين الديمقراطيين (14%) والخضر (12%).
وإذا كانت كتلة المحافظين قد شعرت بالتهديد من اليمين المتطرف، فقد حافظت بزعامة رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بالفعل على موقف يميني جداً، في ما يتعلق بالهجرة والمناخ قبل الانتخابات، حيث تمّت مكافأتها بالبقاء كأكبر مجموعة بفارق كبير في البرلمان الأوروبي. وبشكل عام في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي، ظلّت الكتلتان السائدتان والمؤيدتان لأوروبا، وهما الديمقراطيون المسيحيون والاشتراكيون، القوتين المهيمنتين، بعد صدور نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي. وجاءت مكاسب اليمين المتطرف على حساب حزب الخضر الذي تشير النتائج شبه النهائية إلى خسارته نحو 20 مقعداً، مقارنة ببرلمان 2019، ويتراجع بذلك إلى المركز السادس في البرلمان الأوروبي.
وعلى مدى عقود من الزمن، كان الاتحاد الأوروبي، الذي تعود جذوره إلى هزيمة ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، يضع اليمين المتطرف على الهامش السياسي. ومع ظهوره القوي في هذه الانتخابات، يمكن لهذا اليمين المتطرف أن يصبح الآن لاعباً رئيسياً في سياسات تتراوح من الهجرة إلى الأمن والمناخ. وقد يجعل التحول الانتخابي نحو اليمين من الصعب على الاتحاد الأوروبي تمرير التشريعات، وقد تصاب عملية صنع القرار بالشلل في بعض الأحيان، في أكبر كتلة تجارية في العالم.
وللمشرّعين في الاتحاد الأوروبي، الذين تدوم فترة ولايتهم 5 سنوات، رأي في قضايا تتراوح من القواعد المالية إلى سياسة المناخ والزراعة. ويوافقون على ميزانية الاتحاد الأوروبي التي تمول الأولويات، بما فيها مشاريع البنية التحتية والدعم الزراعي والمساعدات المقدمة لأوكرانيا. ويمتلكون حقّ النقض على التعيينات في مفوضية الاتحاد الأوروبي النافذة.
أكبر انتصارات اليمين المتطرف، فرنسا وإيطاليا والنمسا وألمانيا والمجر
لا إخلال بالتوازن
وتأتي الانتخابات في وقت اختبار ثقة الناخبين في كتلة تضم نحو 450 مليون نسمة. وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، اهتز الاتحاد الأوروبي، بسبب جائحة كورونا، والركود الاقتصادي، وأزمة الطاقة التي أجّجها أكبر صراع في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. غير أن الحملات السياسية ركّزت غالباً على القضايا ذات الأهمية في كل دولة على حدة، بدلاً من التركيز على المصالح الأوروبية الأوسع. رغم ذلك، فإن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي لم تخلّ كثيراً بالتوازن السياسي في بروكسل، حيث إنه يمكن القول إن الغالبية تبقى مشكّلة من أحزاب الائتلاف الكبير الوسطي الذي يضم اليمين (حزب الشعب الأوروبي)، والاشتراكيين الديمقراطيين، والليبراليين (التجديد).
ودُعي إلى انتخابات الأسبوع الماضي، أكثر من 360 مليون ناخب، في مناخ مثقل بالوضع الاقتصادي القاتم وحرب في أوكرانيا، وفيما يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات استراتيجية من الصين والولايات المتحدة. وفي النمسا أيضاً، حصل “حزب الحرية” اليميني المتطرف على 27% من الأصوات (حل أولاً). وعزّز الهولنديون الذين كانوا أول من أدلوا بأصواتهم الخميس الماضي، موقف حزب خِيرت فيلدرز اليميني المتطرف. أما إسبانيا، فقد أظهرت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الرسمية حصول الحزب الشعبي اليميني، التشكيل الرئيسي للمعارضة الإسبانية، على 22 مقعدا في البرلمان الأوروبي مقابل 20 للاشتراكيين بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، وحقق حزب فوكس اليميني المتطرف تقدما، بحصوله على 6 مقاعد.
أما في بولندا، فقد تقدم الحزب الوسطي المؤيد لأوروبا بزعامة رئيس الوزراء دونالد تاسك على حزب القانون والعدالة القومي الشعبوي، لكن الأخير حافظ على قسم هام من الأصوات، كما أن اليمين المتطرف المتمثل في حزب كونفيديراغا لن يحصل على أقل من 6 مقاعد في البرلمان الأوروبي. وفي إطار انتصارات اليمين الأوروبي الشعبوي والمتطرف، حلّ حزب رئيس الوزراء فيكتور أوربان، “فيدس”، في المجر، أولاً في الانتخابات الأوروبية، بحصوله على أكثر من 43% من الأصوات، مقارنة بـ52.5% في الانتخابات السابقة عام 2019.
حققت أحزاب اليسار والخضر مكاسب في دول الشمال
لكن اليمين المتطرف منقسم في البرلمان الأوروبي، ومقره ستراسبوغ الفرنسية، إلى كتلتين، لا يزال تقاربهما غير مؤكد، بسبب خلافات كبيرة بينهما، خصوصاً في ما يتعلق بروسيا. كما أن انقسامات اليمين المتطرف حول الموقف الذي يجب تبنّيه تجاه موسكو، يمكن أن يؤدي إلى تعقيد المفاوضات في الاتحاد الأوروبي، في وقت تسعى فيه الدول الأعضاء إلى تعزيز صناعتها الدفاعية، بينما تواجه صعوبات في توفير التمويلات اللازمة. وبينما يتبنّى أعضاء البرلمان الأوروبي تشريعات بالتنسيق مع الدول الأعضاء، يمكن لليمين المتطرف أن يجعل صوته مسموعا في القضايا الحاسمة: الدفاع ضد روسيا التوسعية، والسياسة الزراعية، والهجرة، والهدف المناخي لعام 2040، ومواصلة التدابير البيئية التي يرفضونها بشدة. ورأى الباحث في معهد جاك ديلور، سيباستيان ميلار، في حديث لوكالة فرانس برس، أن “أصوات اليمين المتطرف واليمين السيادي لا يمكن جمعها معاً، وهذا سيحدّ من وزنهما المباشر في البرلمان الأوروبي”. كما لفت إلى أن صعود اليمين المتطرف “الواضح خصوصاً في فرنسا، سيؤثّر حتماً على المناخ السياسي الذي تعمل فيه المفوضية، وسيتعين على الغالبية أن تأخذ ذلك في الاعتبار”، محذراً من أنه “في حال الفشل في التأثير بشكل مباشر، سيكون اليمين المتطرف قادرا على التأثير بشكل خبيث”.
من جهتها، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أول من أمس، مع بدء صدور النتائج، أن “حزب الشعب الأوروبي هو أقوى مجموعة سياسية في البرلمان الأوروبي، وهذا مهم، سنبني حصناً ضد متطرفي اليسار واليمين، وسنوقفهم”. وفون دير لاين مرشحة لشغل منصبها مجدداً، ويتعين عليها الحصول على موافقة زعماء الدول الأعضاء ثم غالبية أعضاء البرلمان الأوروبي، الذين منحوها ثقتهم في عام 2019 بغالبية ضئيلة للغاية (9 أصوات). وكانت رئيسة المفوضية قد توددت إلى رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني وحزبها، وقالت إنها ترى فيها شريكاً مناسباً مؤيداً لأوروبا ومؤيداً لأوكرانيا، ما أثار استياء الليبراليين والاشتراكيين وكذلك الخضر. وفي هذا الصدد، قال رئيس كتلة الخضر في البرلمان الأوروبي، باس إيكهوت، أول من أمس: “هل سندعم فون دير لاين؟ من الواضح جداً أننا مستعدون للتفاوض، لكن بشرط استبعاد أي تقارب مع ميلوني”.
في غضون ذلك، حققت أحزاب اليسار والخضر مكاسب في دول الشمال في الانتخابات الأوروبية، في حين تراجعت الأحزاب اليمينية المتطرفة، وفق ما أظهرت النتائج الرسمية واستطلاعات الرأي. ففي فنلندا، حقق حزب “تحالف اليسار” تقدما، بحصده 17.3% من الأصوات، أي أكثر بأربع نقاط مقارنة بعام 2019، وفق النتائج المعلنة بعد فرز 99% من بطاقات الاقتراع. وقالت زعيمة “تحالف اليسار” لي أندرسون: “لم أكن أحلم قط بمثل هذه الأرقام”. وبالتالي، سيحصل الحزب على 3 مقاعد من أصل 15 مخصصة لفنلندا في البرلمان الأوروبي، مقارنة بمقعد واحد فقط خلال الانتخابات السابقة. كما عزّز الائتلاف الوطني (يمين الوسط) بزعامة رئيس الوزراء بيتري أوربو مكاسبه بحصده نحو 25% من الأصوات، بزيادة 4 نقاط تقريباً. وتراجعت شعبية “حزب الفنلنديين” اليميني المتطرف المشارك في الائتلاف الحكومي، بحصوله على 7.6% من الأصوات، أي بانخفاض قدره 6.2%، ولن يحصل إلا على مقعد واحد.
وفي السويد، حقق حزب الخضر تقدما بحصوله على 15.7% من الأصوات، بزيادة قدرها 4.2 نقاط، وفق استطلاع لآراء الناخبين لدى خروجهم من مراكز الاقتراع (بحسب قناة إس في تي التلفزيونية). وتقدم “حزب اليسار” أيضاً إلى 10.7%، بينما سجل اليمين المتطرف الذي يمثله “حزب ديمقراطيي السويد” تراجعا بمقدار 1.4 نقطة إلى 13.9%. وحافظ الاشتراكيون الديمقراطيون على موقعهم في المقدمة بنسبة 23.1%.