ما يحدث في العالم أكثر من مجرد جفاف

ما يحدث في العالم أكثر من مجرد جفاف

نيودلهي – يشكل التوزيع غير المتكافئ للموارد الطبيعية في الغالب الأنماط الجيوسياسية، حيث أشعل التنافس على الموارد تاريخيا الصراعات وعزز التجارة على حد سواء. وخلق هذا فرصا للتنمية والنمو في بعض المجالات بينما أضر بمجالات أخرى وأثر على وتيرة التقدم التكنولوجي واتجاهه.

ويرى رودجر بيكر، المدير التنفيذي لمركز ستراتفور للجغرافيا السياسية التطبيقية التابع لشبكة “ريني” الاستشارية لإدارة المخاطر، أنه نادرا ما تكون المياه العذبة سبب النزاع المباشر، لكنها أحد أهم الموارد المعدنية الضرورية للزراعة والصناعة والاستخدامات المنزلية.

ويعني الإجهاد المائي تضييق الفجوة بين الموارد المائية المتاحة والطلب على استخدام المياه. ويشكل تحديا متزايدا يدفعه التوسع الحضري والممارسات الزراعية والتعدين والصناعة وتغير المناخ. ويساهم في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وانعدام الأمن الغذائي، والاضطرابات الصناعية والكهربائية والنقل.

وحدد تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية لسنة 2024 أن الزراعة لا تزال أحد المستهلكين الرئيسيين للمياه العذبة في العالم، حيث تصل إلى ما يقرب من 70 في المئة من الاستخدام البشري. وتليها الاستخدامات الصناعية (حوالي 20 في المئة) والاستخدام المنزلي (حوالي 10 في المئة).

وينطبق هذا التوازن عامة على نطاق عالمي، إلا أنه غالبا ما يختلف اختلافا كبيرا على المستوى المحلي. ويُمثّل استهلاك الصناعة في البلدان مرتفعة الدخل حوالي 40 في المئة من مجموع استهلاك المياه. لكن الزراعة قد تصل إلى 90 في المئة منه في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ويعني هذا أن للإجهاد المائي وندرة المياه الأكثر حدة آثارا مختلفة عبر دول العالم من وحتى داخل البلدان نفسها.

ولا تزال الزراعة أكبر قطاع منفرد من حيث استهلاك المياه (حتى في البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث تمثل 44 في المئة من الاستخدام). لكن التحضر لعب أيضا دورا مهما في توسيع استخدام المياه. وذكر تقرير صادر عن معهد الموارد العالمية زيادة استخدام المياه المنزلية بنحو 600 في المئة بين 1960 و2014. ولا ينبغي أن يكون هذا مفاجئا، حيث ارتفعت معدلات التحضر على الصعيد العالمي من حوالي 33 في المئة سنة 1950 إلى حوالي 56 في المئة سنة 2022.

ويمكن أن يعني التحضر زيادة كبيرة في استخدام المياه في نطاق جغرافي ضيق مما يزيد المنافسة بين الاستخدامات الزراعية والحضرية، وخاصة على موارد الأنهار المشتركة. وقد يخلق هذا أزمات مياه أكثر حدة، مثل تلك التي شهدتها الصين في 2010، وجنوب أفريقيا اليوم. ويمكن أن يؤثر انخفاض تدفقات الأنهار على توفر المياه للاستخدامات الحضرية وإنتاج الكهرباء، مما يضيف مخاطر اجتماعية واقتصادية إلى تلك القائمة بالفعل.

وتؤثر التغيرات الموسمية وزيادة درجات الحرارة الشديدة عادة على توافر المياه الزراعية. وتشهد مواسم الأمطار التقليدية في بعض المناطق تغيرا، مما قد يزيد سحب المياه الجوفية لأغراض الري أو كسر أنماط مواسم الزراعة التقليدية. ومن المحتمل أن تسهم التحولات في أنماط الرياح الموسمية في استنفاد المياه الجوفية في الهند، على سبيل المثال، حيث تتغير مواقع هطول الأمطار وشدتها، ولا تتحقق إعادة تغذية طبقات المياه الجوفية الطبيعية.

ومع توجه نحو 90 في المئة من المياه الجوفية الهندية المسحوبة بالفعل نحو الإنتاج الزراعي، قد ينذر التوسع المشترك في السحب والحد من التغذية بأزمة ندرة مياه كبرى تهدد الأمن الغذائي الهندي الأساسي. ويمكن أن يؤثر تغير أنماط هطول الأمطار أيضا على حركة الحبوب والمحاصيل الأخرى على طول شبكات الأنهار الداخلية، مما يتطلب تكثيف التجريف أو التحول إلى نقل السلع الغذائية الحيوية بالسكك الحديدية الأكثر تكلفة.

ويشمل استخدام المياه الصناعية إنتاج الكهرباء (توليد البخار أو التبريد، أو استخدام المياه في التعدين واستخراج النفط) والصناعات المحلية كثيفة الاستخدام للمياه. ولا يدرج إنتاج الطاقة الكهرومائية دائما في استخدام المياه الصناعية، لكنه يلعب دورا مهما في تأثير الإجهاد المائي على البلدان والمناطق. وتسبب انخفاض تدفقات الأنهار في نقص الكهرباء في الصين وأميركا اللاتينية، مما يقوض جميع قطاعات الاقتصادات المحلية.

وتنتشر مخاوف مماثلة حول نهر كولورادو في جنوب غرب الولايات المتحدة، مما يهدد إنتاج الكهرباء والاستخدام الحضري والزراعة. وبرزت المزيد من الآثار الصناعية المباشرة خلال السنوات الأخيرة، من توفر المياه للتكسير الهيدروليكي في صناعة النفط والغاز إلى آثار الجفاف المحلي على معامل تصنيع أشباه الموصلات التايوانية.

ويجبر الإجهاد المائي في المناطق الحضرية الحكومات في الكثير من الأحيان على الاختيار بين الاستخدامات المنزلية والصناعية. ويُذكر أن لكل منها آثاره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ونادرا ما يكون توفر المياه السبب الرئيسي للصراع الكامل بين الدول، لكن الإجهاد المائي المتزايد يلعب دورا ثانويا مهما في المنافسة الجيوسياسية والتوتر.

ويمكن أن تتصاعد النزاعات المحلية على المياه لتشمل قوات أمن الدولة أو تشعل نزاعات معزولة وتسبب أضرارا في الممتلكات والبنية التحتية. ويمكن أن يدفع الإجهاد المائي إلى هجرات واسعة النطاق، غالبا من المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية، وبين الدول النامية والمتقدمة، مما يرفع الضغوط السياسية والاجتماعية وقضايا الأمن المائي الحضرية المحتملة في المستقبل.

وتعرضت بنية المياه التحتية، بما في ذلك الإمدادات والمعالجة، لتهديد إلكتروني من الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، مما أثار مخاوف بشأن أمن البنية التحتية عامة وأسئلة حول الاستجابات المماثلة عندما تكون للعمل السيبراني عواقب مادية. ويجعل القلق بشأن الري الزراعي والموارد الغذائية النهرية وتدفق الأنهار بناء السدود الجديدة مصدرا متكررا للتوتر بين الدول، وكان آخرها في شمال شرق أفريقيا وعلى طول نهر ميكونغ في جنوب شرق آسيا.

وأثارت خطط كمبوديا لبناء قناة جديدة لتجاوز مصب نهر ميكونغ مخاوف في هانوي بشأن تدفق النهر والتهديدات الأمنية، كما قد تقلل من نفوذ فيتنام الاقتصادي على جارتها الأصغر. وتسبب انخفاض هطول الأمطار في إبطاء العمليات في قناة بنما، حيث تعد بحيرة المياه العذبة مصدرا مهما للمياه، مما يؤثر على أنماط الشحن العالمية وأسعارها عامة. ومع توقع حدوث المزيد من التحولات في أنماط هطول الأمطار بسبب تغير أنماط المناخ العالمي، قد يتوسع نطاق وتواتر الأزمات الناجمة عن المياه خلال السنوات القادمة.

وكما هو الحال مع أي مورد طبيعي، تقدم المياه صورة معقدة حيث لا يقتصر الأمر على التوفر النسبي، بل إن السياق الاقتصادي والاجتماعي يزيد هو أيضا من حدة هذا الإجهاد.

وتهدد الضائقة المائية بزعزعة استقرار الاقتصادات في جميع أنحاء العالم، مما يزيد من خطر تدفقات الهجرة عبر الحدود مع المساهمة في التباعد الاقتصادي الداخلي. وتضغط مجموعة من العوامل على إمدادات المياه في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك تغير المناخ وأنماط الطقس المتغيرة، والنمو السكاني، والتحضر السريع، والتصنيع، واستخدام التقنيات الزراعية التي تستنزف المياه الجوفية.

◙ الضائقة المائية تهدد بزعزعة استقرار الاقتصادات في جميع أنحاء العالم مما يزيد من خطر تدفقات الهجرة عبر الحدود مع المساهمة في التباعد الاقتصادي الداخلي

واعتبرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو)، خلال 2020، الإجهاد المائي العالمي (سحب المياه العذبة كنسبة من موارد المياه العذبة المتاحة)عند مستوى “آمن” أقل من 19 في المئة. لكن مستويات الإجهاد تختلف بشكل كبير في جميع أنحاء العالم.

وتتراوح من ارتفاع في جنوب آسيا وآسيا الوسطى إلى حرجة في شمال أفريقيا. وقدر الصندوق العالمي للطبيعة في تقرير نشره في أكتوبر 2023 أنه “بحلول 2050، يمكن أن يأتي حوالي 46 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي من المناطق التي تواجه مخاطر عالية على المياه”. وتعدّ النسبة مرتفعة مقارنة بالـ10 في المئة الحالية.

وستكون لتغير توفر المياه آثار اقتصادية عالمية كبيرة، مع كون أكبر الآثار في قطاعات الزراعة واللوجستيات والطاقة والسياحة. ومن المتوقع أن تصبح إمدادات المياه العالمية متقلبة أكثر خلال السنوات القادمة، حيث يؤدي تغير المناخ إلى المزيد من الجفاف الشديد والمزيد من الفيضانات الكارثية في مناطق حول العالم. ويسبب هذا أضرارا واسعة النطاق للمحاصيل والبنية التحتية.

ويمكن لمثل فترات الجفاف والفيضانات هذه أن تعطل الإنتاج الزراعي، مما يؤدي في الحالات القصوى إلى سوء التغذية وندرة الأغذية. كما يمكن أن يعطل انخفاض هطول الأمطار إمدادات الطاقة بتقليصه الإنتاج في محطات الطاقة النووية والكهرومائية التي تعتمد على المياه من الأنهار القريبة لتوليد الكهرباء، مما يؤدي بدوره إلى اضطرابات اقتصادية أوسع نطاقا وحتى منهجية. كما يمكن أن يتسبب هطول الأمطار القليل جدا أو الغزير في حدوث اضطرابات في سلسلة التوريد من خلال إعاقة العبور عبر الأنهار، وهو أمر ضروري لاقتصادات العديد من البلدان.

ويمكن أن تقوض التغيرات الشديدة في هطول الأمطار قطاعات السياحة في البلدان إذا أدت ندرة المياه إلى التقنين، أو إذا تصدرت الفيضانات الشديدة الأخبار، مما يسبب خسائر في الإيرادات وانخفاض الناتج الاقتصادي. ويخلق هذا خطرا في كل من الاقتصادات المتقدمة (مثل اليونان أو البرتغال) حيث تمثل السياحة حصة كبيرة نسبيا من الناتج المحلي الإجمالي، والبلدان الصغيرة ذات الدخل المنخفض للفرد والتي تضم قطاعات سياحية كبيرة، حيث لا يتمتع العاملون في الصناعة في الكثير من الأحيان بفرص عمل بديلة (مثل جزر المالديف أو سيشيل).

العرب