ليس التصلب أو المرونة سوى “تكتيك” يمارسه النظام الإيراني لخدمة أهدافه الاستراتيجية. والمرشد الأعلى علي خامنئي هو الذي يقرر “التكتيك” المناسب في كل مرحلة من مراحل الصراع الجيوسياسي في المنطقة. فالنظام الذي أسسه الخميني بعد الثورة على الشاه عام 1979 معقد وبسيط في آن.معقد، بمعنى حاجة نظام ثيوقراطي إلى الجمع بين شرعيتين: “شرعية إلهية” و”شرعية شعبية” عبر مجالس ومؤسسات متعددة يراقب وأحياناً يعطل بعضها بعضاً: مجلس “تشخيص مصلحة النظام”، مجلس “خبراء القيادة”، مجلس “الأمن القومي”، مجلس “صيانة الدستور”، مجلس الشورى، ورئاسة الجمهورية.
وبسيط، بمعنى أن كل هذه المجالس والمؤسسات خاضعة لقرار شخص واحد هو المرشد الأعلى الولي الفقيه. فهو صاحب الكلمة- الفصل في كل أمر. وهو “يهندس” الانتخابات النيابية والرئاسية من خلال مجلس صيانة الدستور الذي يغربل المرشحين ويلعب دور المصفاة التي تسمح أو تمنع ترشح شخصيات “إصلاحية” أو “معتدلة” وتنتقي مرشحي التيار المحافظ. حتى انتخاب رئيس جمهورية، بأكثرية وازنة، فإن المرشد الأعلى يستطيع، إذا وجد ضرورة، أن يرفض تكريس الرئيس بالتالي اعتبار الانتخابات كأنها لم تحصل.
قبل أيام اختار خامنئي الوقت المناسب للإيحاء بأن الساعة دقت للانتقال من مرحلة إلى أخرى في الخطاب و”التكتيك”. من مرحلة القول إن عملية “طوفان الأقصى” على يد “حماس” كانت مفاجئة لطهران التي لا تريد التورط في لعبة غير محسوبة إلى مرحلة القول الواضح إن عملية الطوفان كانت “ضرورية للمنطقة”. وسبق ذلك كلام لمسؤولين في الحرس الثوري أوحوا بأن العملية هي ابنة الثورة الإسلامية في إيران.
ولا مجال للخطأ في قراءة موقف خامنئي. نفي العلاقة بعملية الطوفان خدم، حتى في تبني واشنطن له، هدفاً مهماً هو قطع الطريق على حرب شاملة يريدها نتنياهو لتوريط أميركا في حرب مع إيران، لا هي تريدها ولا طهران تريدها أو تراها في مصلحة مشروعها. والحديث عن العملية التي كانت ضرورية للمنطقة هو نوع من جمع الأوراق لدور إيراني كبير في التفاوض المقبل على نظام إقليمي للشرق الأوسط، كما أنه تمهيد لوضع العقبات أمام التوجه العربي والدولي نحو “حل الدولتين” الذي يلتقي على رفضه نتنياهو والنظام الإيراني.
أكثر من ذلك، فإن حرب غزة التي مارست فيها إسرائيل أقصى أنواع الهمجية، وتصدت فيها “حماس” ومعها “الجهاد الإسلامي” بقوة لجيش الاحتلال الذي يرتكب حرب إبادة، كانت فرصة مفتوحة أمام إيران لتشغيل الميليشيات التي تديرها في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة. لماذا؟ لاختبار استراتيجية “وحدة الساحات” وفاعلية “محور المقاومة” الذي أنفقت عليه طهران حتى اليوم 17 مليار دولار.
ولم يكتم الجنرال علي غلام رشيد قائد “مقر خاتم الأنبياء” القول “أنشأنا ستة جيوش خارج حدودنا لتدافع عنا”. وهذا، كما قالت نائبة رئيس مؤسسة بروكنغز ومديرة برنامج السياسة الخارجية سوزان مالوني في مقال نشرته “فورين أفيرز”، أعطى “اللاعب الإيراني فرصة لإضعاف إسرائيل وإذلال الولايات المتحدة وإنهاء نفوذها في الشرق الأوسط وإعادة تشكيل المنطقة كما تريد”. لا بل هي رأت أن “الانطباع السائد أن إيران صارت معزولة ضمن استراتيجية الاحتواء خطأ، فهي أحدثت اختراقاً استراتيجياً عبر وكلائها”. وهذا بالطبع يبقى تصوراً نظرياً إن لم يتجسد في صفقة مع “الشيطان الأكبر”.
وإيران ليست اللاعب الوحيد الذي يريد توظيف حرب غزة. كذلك الأمر بالنسبة إلى أميركا، وبالطبع إلى إسرائيل و”حماس” وأوروبا ودول عربية، لكن إيران هي اللاعب الذي يعمل للقدرة على الإفادة من التطورات في كل اتجاه. من التوجه نحو صفقة إقليمية، كما من الاستمرار في حرب استنزاف بلا نهاية ولا انتصارات. ولم يكن أمراً قليل الدلالات أن يختار علي باقري كني وزير الخارجية الإيراني بالوكالة بيروت في أول زيارة له بعد مصرع الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان الذي كان يزور العاصمة اللبنانية كل شهر أحياناً. ومن بيروت قال باقري كني إن “العلاقات بين إيران ولبنان مؤشر رئيس إلى الاستقرار في المنطقة، وإن المقاومة هي أساس الاستقرار في المنطقة”. فماذا يعني الاستقرار بالنسبة إلى إيران؟ الجواب البسيط هو أن نظاماً يرى “تصدير الثورة” من أسس الجمهورية الإسلامية، ويكلف الحرس الثوري هذا الأمر عبر نص في الدستور الذي صنعه الخميني، هو نظام يراهن على الأزمات والفوضى. وإذا كان العداء لإسرائيل هو من الأولويات، فإن الوجه الآخر له هو العداء لأميركا. فالخطاب الإيراني المتكرر يضع الوجود العسكري الأميركي في “غرب آسيا” في خانة “تهديد الأمن الإقليمي”، ويعد أن التخلص منه هو بداية “الاستقرار”.
وبهذا المعنى، فإن ترجمة الاستقرار هي هيمنة إيران على المنطقة، بحيث تفرض هي النظام الأمني الإقليمي الذي تديره في غياب أي قوة موازية. لا بل إن طموحاتها أكبر بكثير. فما يراه آية الله أحمد علم الهدى هو “أن العالم الذي استعبدته الحداثة ينهار، وعالم ما بعد الحداثة يلوح في الأفق، وهو عالم لا يمكن أن تقوده إلا إيران الإسلامية”، لكن الطموحات شيء والواقع وصراعاته شيء آخر. وأغرب قيادة لما بعد الحداثة هي أن تكون على أيدي قوى ما قبل وما دون الحداثة.