فتحت النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات المحلية التركية الباب واسعاً أمام محاولات إعادة خلط الأوراق في خريطة القوى السياسية في تركيا، بعدما تغيرت موازين القوى لغير مصلحة التحالف الإسلامي ـ القومي الحاكم المعروف باسم «تحالف الجمهور» وتبوأ حزب الشعب الجمهوري المعارض صدارة الأحزاب السياسية باعتبار العدد الإجمالي لمن صوتوا لمرشحيه في صناديق الاقتراع، كما بتمدد مساحة سيطرته على رقعة واسعة من البلاد من خلال السلطات البلدية، إضافة إلى احتفاظه ببلديات المدن الكبرى الثلاث، إسطنبول وأنقرة وإزمير.
الزعيم الجديد للحزب الجمهوري أوزغور أوزال دعا إلى فتح صفحة جديدة في العلاقة بين السلطة والمعارضة تقوم على التنافس لا الخصومة أو العداء كما كانت الحال طوال العقود الماضية، فطلب موعداً للقاء برئيس الجمهورية أردوغان الذي يتزعم، في الوقت نفسه، حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحصل اللقاء في الأسبوع الأول من شهر أيار الماضي، وخرج الزعيمان من اللقاء بانطباعات إيجابية ووعد من أردوغان برد الزيارة، الأمر الذي حدث قبيل عيد الأضحى بأيام قليلة حين دخل الرئيس التركي للمرة الأولى مقر حزب الشعب الجمهوري. أطلق أوزال على هذه العملية اسم «التطبيع» في الحياة السياسية في تركيا، في حين أسماه أردوغان بـ«الليونة». وعلى رغم أن اللقاءين لم يؤديا إلى تغيرات سياسية ملموسة كالتعاون في مواضيع أو ميادين معينة بين الحزبين، لكنهما أشاعا جواً من الارتياح بين الجمهور الذي أرهقته السجالات الحادة بين السلطة والمعارضة ولغة تبادل الاتهامات القاسية بين زعيمي الحزبين كما بين وسائل الإعلام المقربة من كل منهما طوال السنوات الماضية.
ترى ما هي أهداف وتوقعات كل من طرفي هذا الحوار بين الخصمين السابقين؟
الأولوية، بالنسبة لأردوغان، هي لمشروع الدستور الجديد الذي يأمل من خلال إقراره بمضامين معينة في فتح الطريق أمام استمراره في الحكم لسنوات إضافية بعد نهاية ولايته الحالية، فإن لم يتمكن من انتزاع تعديلات تتيح ذلك، فمن خلال ضمان استمرار سلطة حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه، حتى بعد مغادرته منصب الرئاسة. والحال أن الحزب الذي تراجعت شعبيته إلى المرتبة الثانية بين الأحزاب، للمرة الأولى في تاريخه، من الصعوبة بمكان أن يستعيدها في غضون السنوات الأربع القادمة ما لم يعمل على تغيير تحالفاته. ففي أروقة الحزب الحاكم تتصاعد الشكاوى من أن التحالف مع الحركة القومية هو أحد الأسباب الرئيسية في تراجع تأييد الناخبين، وأن الحركة هي التي استفادت من التحالف. هذه الشكاوى تتسرب إلى وسائل الإعلام وتثير قلق بهجلي من احتمال تخلي أردوغان عنه في المرحلة القادمة إذا تمكن من استمالة حزب الشعب الجمهوري.
وفوجئ الرأي العام بتصريحات نارية من دولت بهجلي حين نشر رسالة على منصة إكس يهنئ فيها الأمة التركية بعيد الأضحى، ويهاجم بعنف ما يسمى بـ«التطبيع» في الحياة السياسية التركية، في تعبير صريح عن معارضته الشديدة لهذا التقارب الودي بين السلطة والمعارضة.
على رغم أن اللقاءين لم يؤديا إلى تغيرات سياسية ملموسة كالتعاون في مواضيع أو ميادين معينة بين الحزبين، لكنهما أشاعا جواً من الارتياح بين الجمهور الذي أرهقته السجالات الحادة بين السلطة والمعارضة
لذلك فقد اضطر الناطق باسم حزب العدالة والتنمية عمر جليك لمخاطبة وسائل الإعلام قائلاً إن الحزب لن يتحالف مع حزب الشعب الجمهوري. بل إن أردوغان نفسه أعلن عن تمسكه بتحالف الجمهور وانتقد من يحاولون الاصطياد في المياه العكرة وبث الفتنة والشقاق.
أما حزب الشعب الجمهوري فهو يأمل من خلال تغيير أسلوب التعامل مع السلطة أن يكسب مزيداً من أصوات ناخبين من خارج البيئة التقليدية الضيقة للحزب، الأمر الذي حدث فعلاً ولكن بصورة طفيفة في الانتخابات المحلية. وينطلق زعيم الحزب أوزال من الثقة الذاتية العالية التي أثمرتها نتائج تلك الانتخابات، فيتصرف كما لو كان حزبه هو حزب السلطة في المرحلة القادمة. ومن هذا المنظور فقد شكلت قيادة الحزب «حكومة ظل» على غرار التجربة البريطانية المعروفة، وكان من أولى مشاريعها اقتراح صيغة للتعاون بين الحزب ووزارة الخارجية في حكومة أردوغان في شؤون العلاقات الدولية، وقدم أوزال ملفاً بهذا الخصوص لأردوغان في لقائهما الثاني. كما تم لقاء أول بين «وزير خارجية» حكومة الظل ووزير الخارجية هاكان فيدان الذي وعد بالنظر في مشروع التعاون بين الطرفين بصورة ممأسسة.
وثمة موضوع آخر يثير قلق دولت بهجلي هو قضية اغتيال سنان آتيش الذي من المفترض أن تبدأ أولى جلسات محاكمة قتلته في الأول من شهر تموز القادم. وسنان آتيش كان يشغل منصب رئيس منظمة قومية تعرف باسم «أولكو أوجاكلاري» ذهب ضحية تصفيات حساب داخل التيار القومي. ويخشى بهجلي أن تطال يد القضاء أسماء وازنة داخل حزبه. لذلك لم يكن مما يمكن أن يسره استقبال أردوغان لأرملة آتيش برفقة ابنتيه الصغيرتين بناء على طلبها واستماعه إلى مطالبتها بالعدالة والقصاص من جميع المتورطين في الجريمة.
وقد أعلن بهجلي في تغريدة سابقة عن «مؤامرة» يتم نسج خيوطها ضد التيار القومي، مضيفاً أن حزبه سيكون حاضراً في جلسات المحاكمة ويتابع تطوراتها أولاً بأول. من يعرفون بهجلي فهموا من هذا الكلام نوعاً من الضغط العلني على المحكمة كي لا تتجاوز خطوطاً حمراء بصدد اتهام شخصيات سياسية داخل الحزب القومي، يتم تداول بعضها في إطار المزاعم التي تحتاج تأكيداً قضائياً. وكلما اقترب موعد الجلسة الأولى ارتفع منسوب التوتر والترقب في التيار القومي.
سبق لبهجلي أن قام بفرط ائتلاف حكومي والدعوة لانتخابات مبكرة في العام 2001. تلك الانتخابات التي محت أحزاب الائتلاف من الخريطة السياسية وأدت إلى صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. كما أنه كان صاحب الاقتراح بتغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي في العام 2016، بعدما كان من أشد معارضي السلطة. فإذا أحس بما قد يهدد موقع حزبه الحالي لا يستبعد المراقبون أن يدعو مجدداً إلى انتخابات مبكرة.