فور انقضاء الحرب العالمية الثانية، طلت برأسها الحرب الباردة، وحتى لا يحل الجحيم النووي بين القطبين المتصدرين لنظام القوى العظمى المتصارعة ، أقيم نظام دولي جديد يعتمد على محاولة مأسسة العلاقات الدولية وجعلها خاضعة لصمامات أمان تضبط إيقاع النزاعات والتحديات التي تهدد مصائر العالم، انطلاقا من التجربة المريرة التي عاشتها البشرية أثناء تلك الحرب الساخنة ، ونتائجها التي أُتفق على كونها اكثر الصرعات دموية على مر التاريخ البشري، حرب طحنت قيم الحداثة الغربية التي سوقت نفسها على أنها أعقل ما توصلت اليه الإنسانية ، وكشفت زيف ونفاق وعنصرية مرتكزاتها من خلال استعدادها لقبر ما يقع تحت رحمة سلاحها دون أي واعز إنساني أو أخلاقي أو حقوقي، قبل طحنها الوحشي لعظام عشرات الملايين من البشر، فعندما تهدد مصالحها المهيمنة على العالم تفصح عن وجهها الوحشي المقنع بالتمدن والرقي الإنساني، وتستسهل الإبادة الجماعية وبما ملكت أياديها ، والنازية ، والفاشية لم تنزلا من كوكب آخر، والرحم الإمبريالي الاحتكاري الذي أنجبهما مازال خصبا بالمزيد، وهذه المرة بسلاح نووي جربت البشرية جرعة بدائية منه في هيروشيما ونغازاكي، الذي أعلنت بها أمريكا نهاية للتشرذم الإمبريالي وتدشين عصرها في قيادة القطب الغربي مقدمة مشروعها لإعادة إعمار أوروبا الغربية “مشروع مارشال” كعربون وصاية يكمله قيام أكبر حلف عسكري أوروبي بقيادة أمريكية “حلف الناتو” تحت يافطة مواجهة الخطر السوفييتي ومعسكره الاشتراكي، الذي شكل تمردا تاريخيا على سطوة الغرب، وهو لم يكن في جوهره سوى محاولة روسية ثورية لتجاوز الخراب الرأسمالي بنظام آخر ينشد العدل، وحقق بقيامه نجاحا مؤقتا مستفيدا من صراعات مراكز القوى لإمبريالية الكبرى أثناء الحرب العالمية الأولى ” الثورة البلشفية عام 1917 ” وصمد وبتضحيات جسيمة متجاوزا الحرب العالمية الثانية التي برزته كقوى عظمى منافسة، فدخل الحرب الباردة التي أُنهك بها سباقا واستنزافا، برغم إنجازاته المدهشة ، فالرأسمالية المتغولة والمتربعة على عرش العالم لم تستنفد طاقاتها بعد، ولم تنه مدياتها الموضوعية ، فغالبته وأسقطته بتكتلها المعولم تحت الزعامة الأمريكية ، وصار حكما أن لا هزيمة للنظام الإمبريالي إلا بتغيير عالمي وبقوى كلية التأثير، ودونه يمكن تحقيق نجاح مؤقت يسترد بعده النظام المهيمن مكانته!
الخطر الحقيقي كان وجود شريك لدود في النصر على النازية الذي لم يكن ليتحقق لولا استبسال الجيش الأحمر، حيث لاحق جحافل النازيين حتى عقر دارهم، واقتحم مبنى الرايخ ورَفع عليه علم السوفييت ، بعد أن سفكت الحرب دماء أكثر من عشرين مليون سوفييتي ، لم يكن أمام الأمريكان حينها إلا القبول المؤقت بالتعدد القطبي، فكانت حربا باردة ، استثمرت أمريكا بها كل ملكات الغرب وجملت وجهها بمساحيق الحريات وحقوق الإنسان ومجتمع الرفاه ، لسحب البساط من تحت دعوات التحرر الاقتصادي والاكتفاء الذاتي والحد من التمايز الطبقي واستبداد آليات السوق الحرة ، شكلا ، والاحتكارية مضمونا، ودخلت بسباق تسلح استنزف الاقتصاد السوفييتي الضعيف والمحاصر أصلا بالمقارنة مع اقتصاد الغرب المزمن في التراكم الاحتكاري ، وساهم في تسريع تفكك دولته ومعسكره، وكان ذلك بإقرار من القيادة السوفييتية ذاتها التي أرادت بإنهاء الحرب الباردة وعلى هذا النحو السلمي منح شعبها والعالم فرص أفضل لحل المعضلات المتفاقمة داخليا وخارجيا على أسس من التوازن الذي يستبعد التسابق التسليحي المرهق ، والذي تجاوزت مدياته الأرض إلى حرب النجوم ، ليحل التحاور وتجاور المصالح المتبادلة محل المواجهات المباشرة او بالوكالة !
إعادة تقاسم العالم
أرادت ألمانيا ومحورها في الحربين الأولى والثانية من إعادة تقاسم العالم إمبرياليا، وعلى الركائز ذاتها التي تسيدت بها الإمبراطوريات الكولونيالية الأوروبية، بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وهولندا، حيث خرجت مطالبة وبقوة السلاح بقسمتها وبحصتها التي تناسبها ، وتتلاءم مع قدرتها على قلب الموازين، فالغبن الذي ألحقته بها الدول الغربية الكبرى بإخراجها “من مُولد التقاسم الإمبريالي بلا حمص” قبل الحرب العالمية الأولى بعقود، جعلها تستشرس في الانخراط بمشروع تكتيل المتضررين من القسمة التي تجاوزتهم !
إيطاليا واليابان وتركيا، وعلى قاعدة عدو عدوي صديقي، هي الأخرى سعت لحماية ما بين يديها والحفاظ على نفوذها الإقليمي التي يتعرض للسلخ ، قبل اتفاقية سايكس بيكو ، ومنذ أن زاد طمع الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عن مستعمراتها ، بريطانيا ، بما لدى اليابان من سيطرة على مستعمرات الشرق الأقصى.
بعد نهاية الحرب الباردة 1991 أعلن جورج بوش الأب قيام نظام عالمي جديد، هو نظام القطب الواحد، حيث الهيمنة الإمبراطورية، وبلا منافس على العالم، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا، بنظام قيادته حكرا لها ، ولا تقاسم إلا بالفتات والأعباء فقط .
عالم جديد الغرب فيه سيد بقيادة أمريكية، والشرق والجنوب عبد أو عدو يستحق الإبادة !
صراع القوى يتواصل، وروسيا والصين ، وكل الدول المتطلعة لإنهاء التفرد الامريكي بمصائر شعوب العالم ، تحاول تغيير المعادلة القائمة وإن طال الزمن، لإقامة نظام دولي جديد أكثر عدلا !
شرعنة قيام إسرائيل
تضافرت المساعي الإمبريالية الغربية في الاستثمار بحالة التعاطف مع اليهود في أوروبا بعد تهويل ما تعرضوا له من اضطهاد وجرائم نازية ، للإسراع في قطف ثمار المشروع الصهيوني الذي مُنح تأشيرة المرور منذ وعد بلفور كعقد لشركة مساهمة غربية صهيونية لضمان التحكم في الشرق الأوسط عبر قاعدة استيطانية غربية متقدمة تفصل بين المشرق والمغرب العربي ، ومع قصر نظر السوفييت ، وتحديدا التفرد الستاليني، في الاعتقاد بإمكانية الاستثمار الإيجابي بتدفق هجرة اليهود الروس إلى فلسطين واحتمالية قيادتهم لكيان بميول سوفييتية ، كان القرار السوفييتي داعما لقيام إسرائيل والاعتراف بها ، خاصة وأن كل الدول العربية حينها ، عدا المملكة المتوكلية اليمنية، كانت مرتبطة بالغرب ، ما جعلها تتخذ مواقف متذبذبة ومتواطئة برغم حالة الغليان الشعبي الذي جرى ترويضه بإرسال دول الطوق لجيوشها من دون تجهيز وتخطيط ، مما جعلها مشلولة أمام الاستعداد والتمويل والتنظيم المسنود غربيا لميليشيات الإجرام الصهيوني عالية التدريب، ولولا المبادرات الذاتية وحماسة الضباط والجنود العرب والمتطوعين التي أوقعت بالصهاينة خسائر كبيرة لكانت النتائج أفظع !
اعتراف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل كان سباقا وهذا ما أثار موجة من السخط والبلبلة داخل صفوف الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية التي كانت تنادي بانتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وإقامة دولة ديمقراطية يعيش في كنفها العرب واليهود !
الانفجار النووي
المنطق العدمي يجر الجميع لحافة الهاوية، وقد يكون دافعا لتصفير كل معادلات التوازن العقلانية ، وإذا عكسنا الآية سيكون حق القوة اللاعقلاني عتبة للعدمية غير المنظورة في بروتوكولات عتاة الغطرسة النيوليبرالية الذين لا يطيقون مبدأ ، عليَّ وعلى أعدائي ، هؤلاء لديهم ما يخافون عليه ، لكن تَجبر القوة ولا عقلانية استبدادها يجعلهم عرضة لجنون العظمة التي تعمي العيون الى حيث مبعث الخراب.
أما أصحاب قوة الحق فهؤلاء يبحثون عن أسباب القوة لانتزاع الحق وفي حالة اليأس قد يفجرون المعبد بما فيه.
أعتبر بعض القادة الأمريكان أن إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونغازاكي رحمة لأنها عجلت باستسلام اليابان وبذلك فإنها وفرت أرواح الملايين من اليابانيين والأمريكان الذين سيقتلون لو لم يستسلم الامبراطور، عليه فالحسبة الأمريكية تعتمد مبادئ النسبة والتناسب في زهق الأرواح البريئة ، بعيدا عن أي اعتبارات أخلاقية ، وهو ذاته منطق وزير التراث الإسرائيلي إلياهو الذي طالب بضرب غزة بالقنبلة النووية لأن الموت بسببها هو أكثر إيلاما من الموت البطيء الذي يكلف إسرائيل وقتا وخسائر بشرية !
مصير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي من مهامها منع الانتشار النووي كمصير المحاكم والمنظمات الدولية التي متى ما خرجت عن النص الغربي تتعرض للتقزيم وسحب التمويل!
الحرب قادمة ولا يمنعها إلا ثورات كبرى في الغرب قبل الشرق، بعد الأولى إذا قامت لا تقوم للنظام الدولي قائمة لأن الدول لم تعد موجودة أصلا، أما إذا حصلت الثانية فإن الأمل بعالم جديد أكثر عدلا سيكون حتميا!