لماذا تقلق أوروبا من عودة ترامب للرئاسة؟

لماذا تقلق أوروبا من عودة ترامب للرئاسة؟

انتهت انتخابات البرلمان الأوروبي لكن كابوس اليمين المتطرف لم ينته بعد بالنسبة لأغلب الأحزاب والائتلافات الحاكمة في الاتحاد الأوروبي، وتسيطر حالة من الترقب في انتظار ما ستفرزه الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، في ظل احتمالات لعودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

ويرى المراقبون أن اختيار رئيس الوزراء المجري القومي فيكتور أوربان شعار”لنجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى “مع استلامه للرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي هو تأكيد للمخاوف الأوروبية، خصوصا أن هذا الشعار يشبه ذلك الذي اختاره ترامب خلال توليه منصبه.

وبخلاف التقارب السياسي المعلوم بين مرشح الحزب الجمهوري الأميركي وكل من أوربان وجورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية وزعيمة حزب “إخوة إيطاليا” اليميني، فإن الجليد يطغى على أغلب علاقات دول الاتحاد بترامب وفريقه.

وكان صعود ترامب للرئاسة عام 2016 بمثابة رجع الصدى للموجة الصاعدة لليمين المتطرف في أوروبا آنذاك، ومع ذلك فإن الشعار الذي اتخذه “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” شكل حجر الزاوية في سياسة التباعد مع القارة العجوز.

ولجأ ترامب إلى تطبيق هذا الشعار في أكثر من مرة، كان أبرزها تأمين مخزون كاف من اللقاحات الخاصة بوباء كورونا وفرض حظر على تصديرها للخارج، ضاربا -بذلك- عرض الحائط بمبدأ التضامن داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) في مجابهة الجائحة.

وقبل ذلك كشف ترامب بقوة عن شعاره في 2017 بإعلان انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس لعام 2015 بشأن التخفيف من آثار التغير المناخي بلا رجعة، بدعوى كلفته المالية الكبيرة على الاقتصاد الأميركي، بجانب تشكيكه أصلا في مدى صحة الارتباط العلمي بين انبعاثات الغازات الدفيئة والتغير المناخي.

وقد تكون العلاقات الاقتصادية أكثر تعقيدا مع ترامب إذا ما حقّق فوزًا في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، لا سيما وأن العجز التجاري الأميركي مع الاتحاد الأوروبي لا يزال مرتفعا، وهو ما لمح إليه دبلوماسي أوروبي في تعليقه لصحيفة “لوموند” الفرنسية بأن “الأمر سيكون أشد شراسة مع ترامب”.

إعلان

وتعهد ترامب بالفعل بزيادة 10% في الرسوم الجمركية المفروضة على السلع المستوردة بما في ذلك السلع الأوروبية، وفرض رسوم أعلى على تلك القادمة من الصين بنسبة 60%، مما يشكل تهديدا مضاعفا للاتحاد الأوروبي برؤية المصنعين الصينيين يوجهون صادراتهم إلى الموانئ الأوروبية.

وبجانب المخاطر التجارية والاقتصادية، يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة مزدوجة في ظل الارتباط القوي بالولايات المتحدة فيما يتعلق بإمدادات الغاز، منذ تعليق واردات الطاقة من روسيا ردا على الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى حاجة القارة لصفقات السلاح الأميركي لدعم كييف.

وتُعلق إلفير فابري، الباحثة المسؤولة عن السياسة التجارية في (المعهد الأوروبي جاك ديلور) “ما زلنا في تبعية للولايات المتحدة بشأن الأمن والدعم إلى أوكرانيا”.
وعقب فوز ترامب بأصوات الجمهوريين في ولاية أيوا في يناير/كانون الثاني، صرح رئيس وزراء بلجيكا ألكسندر دي كرو، بأنه “في حال عودة الرئيس الأميركي السابق إلى السلطة، فإن أوروبا ستجد نفسها وحدها، أكثر من أي وقت مضى”.

وستضع عودته التعاون داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) على المحك، وقد سبق للمرشح الجمهوري أن أثار عاصفة من الجدل أثناء فترة ولايته السابقة بشأن مدى التزامه بالفصل الخامس للحلف الذي يفرض التعاون العسكري بين الحلفاء، وربطه ذلك بمراجعة حصص التمويل المالي للدول الأعضاء في الناتو.

ويشير المتخصص في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، كاميل غراند، إلى نوعين من ردود الفعل داخل الاتحاد الأوروبي؛ الأول حالة إنكار تام للأزمة وادعاء بنجاحه في التعاطي مع إدارة ترامب بين عامي 2016 و2018، والثاني يعرب في أغلب الأحيان عن قلق بالغ داعيا إلى الاستعداد الفوري لاحتمال فك ارتباط من جانب أميركي.

ويضيف غراند “يمثل ترامب البديل الأكثر تطرفا لهذا الاحتمال، لكن في الداخل فإن الجميع على اقتناع بأن على أوروبا أن تفعل المزيد بمفردها”.

وفي الواقع، فإن مراجعة الولايات المتحدة الأميركية لأولوياتها في توجيه مواردها قد بدأت منذ عهدة باراك أوباما عام 2012، إذ بدأ بتوجيه اهتمامات واشنطن العسكرية أكثر فأكثر نحو آسيا، وتحديدا إلى تايوان التي تعمل الصين على إعادة إدماجها. ويشير الباحث، سفين بيسكوب، من “معهد إيغمونت” في بروكسل، إلى أن “ما فعله ترامب لاحقا بدءا من 2016، هو مضاعفة هذا المسار؛ لذلك يعلم الأوروبيون أنه يجب عليهم العمل معا بشكل أكبر في مواجهة هذا الانسحاب الأميركي”.

وتثير عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض نقاشات حول مستقبل الأمن الجماعي أوروبيا مع طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفكرة الإستراتيجية الذاتية، وهي فكرة تلقى قبولا على سبيل المثال لدى بولندا ودول البلطيق التي تعد من بين أكثر الدول الأوروبية تمسكا بحلف الأطلسي. وتقوم هذه الفكرة على الإبقاء على الحلف قويا حتى مع الانسحاب التدريجي المحتمل للولايات المتحدة.

وفي خطوة لتفعيل تلك الإستراتيجية، أعلنت فرنسا بمعية ألمانيا وبولندا في يونيو/حزيران الاتفاق على تطوير أسلحة بعيدة المدى بشكل مشترك لتعزيز القدرات الدفاعية لأوروبا.

وقد صرح وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستريوس، أن الدول الثلاث تهدف بحلول قمة حلف شمال الأطلسي في العاصمة الأميركية واشنطن في يوليو/تموز 2024 إلى جمع “مجموعة من الدول الأوروبية التي اتفقت على سد هذه الفجوة على المدى المتوسط إلى الطويل”.

أوكرانيا أول الاختبارات
في بيانات نشرتها صحيفة لوموند، فإن حجم الإنفاق العسكري الأوروبي يصل إلى 300 مليار يورو سنويا، لكنه يظل في تقدير الخبراء غير كاف.

إعلان

ورغم الدعوات داخل التكتل الأوروبي بتعزيز الصناعات الدفاعية الأوروبية -كما دعا إلى ذلك الرئيس الفرنسي في يونيو/حزيران 2022، فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال أمنيا في حاجة إلى الدعم العسكري والاستخباري الأميركي.

ويقول السياسي الفرنسي، زيد العظم، من “حزب النهضة” الفرنسي للجزيرة نت، إن “الأمر الأخطر سيكون الدعوة لمراجعة حصة الاتحاد من تمويل حلف شمال الأطلسي، ويقابل هذا حملة التخويف القديمة لترامب بشأن نفوذ روسيا في حال التخلف عن تمويل الأطلسي، كما أن الدعوة لتخفيف الدعم لأوكرانيا يعزز المخاوف من خطوة موسكو التالية”.

ويطرح الخبير في المجلس الأوروبي للعلاقات الدولية، كاميل غراند، أسئلة ذات مغزى بشأن المستقبل الأمني الأوروبي في غياب المظلة النووية الأميركية وما إذا كانت بريطانيا وفرنسا قادرتين على سد هذا الفراغ وكيف يمكن أن يعمل الحلف الأطلسي مع حضور أقل للولايات المتحدة.

ويشير غراند، إلى أن الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من التزاماتاها الأطلسية قد يكون مستبعدا، ولكن الاختبارات بلا شك ستكون متسارعة إذا صعد ترامب إلى الحكم، وأول تلك الاختبارات تتعلق قطعا بالحرب الروسية في أوكرانيا.

ويرى رئيس وزراء بلجيكا الدعم المقدم إلى أوكرانيا من الولايات المتحدة والحلفاء الآخرين هو مسألة إستراتيجية وذا أهمية جيوسياسية، لكنه بالنسبة للأوروبيين يعد مسألة وجود.

ومع الصعوبات التي واجهها الرئيس الأميركي جو بايدن في إقناع الكونغرس بالتصويت على مبلغ بقيمة 60 مليار دولار لدعم أوكرانيا، فإنه في تقدير الخبراء الأوروبيين يتعين على الاتحاد الأوروبي الاستعداد لتحمل الكلفة بمفرده مستقبلا أيا كان المرشح الفائز المقبل.

وسبق أن حذر خبراء مجلس العلاقات الخارجية الأوروبي -إحدى مؤسسات الاتحاد- في تقرير له نشر في بداية 2024، من احتمال عودة دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة وما يعنيه ذلك من أن الاتحاد سيكون ملزما بالتعاطي مع إدارة أميركية أقل التزاما وانخراطا على المستوى العالمي.

ولاية الحد الأدنى مع بايدن
وعلى الرغم من الهدوء الدبلوماسي الذي اتسمت به العلاقات بين ضفتي الأطلسي طوال العهدة الأولى للرئيس بايدن مقارنه بسلفه، فإن التقييم الإجمالي للخبراء الأوروبيين لحصيلة العلاقات لا يتعدى الحد الأدنى.

وصحيح أن بايدن كان إلى جانب الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا بشكل علني في الحرب الدائرة ضد روسيا -سواء بضخ الأموال أو الدفع بالخبراء العسكريين في إطار حلف شمال الأطلسي- ولكن عهدته رسخت أولوية المصالح الأميركية لا سيما في الجانب الاقتصادي.

وكان قانون الحد من التضخم -الذي صدر عام 2022 ويتيح إعانات مالية ضخمة للتكنولوجيا الخضراء المصنعة في الولايات المتحدة- أثار قلق الأوروبيين بسبب ما قد يترتب عنه من عمليات نقل للتصنيع.

وكان الرئيس الأميركي أعلن أيضا عن فرض رسوم إضافية على السلع الصينية في مايو/أيار 2024، مثل السيارات والتجهيزات الإلكترونية، مما يعني وفق ما صرح به مسؤول في الاتحاد الأوروبي لصحيفة “لوموند” الفرنسية “أن أوروبا قد تصبح بديلا لعمليات التصدير الصينية وهو ما يؤدي إلى إشعال حرب تجارية في الضفة الأخرى من الأطلسي”.

ورغم التقارب السياسي الذي راهنت عليه رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون ديرلاين، مع إدارة بايدن، فإنه لم يتم تجاوز الإشكالات التي ظلت عالقة منذ الإدارة السابقة، مثل أزمة الرسوم الجمركية على الألمينيوم والصلب وصراع شركتي تصنيع الطائرات “بوينغ” و”إيرباص”.

ويعتقد تيري بريتون، المفوض الأوروبي للسوق الداخلية، أنه يتعين على الاتحاد أن لا يبقى ساذجا وأن يبني علاقات قوة مع الولايات المتحدة، مضيفا أن البيت الأبيض سواء بحضور بايدن أو ترامب فإنه يستخدم الشعار ذاته “أميركا أولا”.

يقول ألكسندر دي كرو إنه “لا ينبغي لنا كأوروبيين أن نخشى احتمال عودة شعار ‘أميركا أولا’، بل ينبغي لنا أن نتقبله من خلال وضع أوروبا على أسس أكثر صلابة وقوة وسيادة واستقلالية”.