تتأخذ الدول أساليب وأدوات في التعبير عن سلوكها السياسي بما يضمن لها التأثير والبقاء ضمن دائرة الاهتمام الدولي والإقليمي وصولًا لتحقيق أهدافها وغاياتها وتعزيز أمنها وتشديد قبضتها على استمرارها في قيادة بلادها، وأمام هذه المعطيات تأتي المواقف الإيرانية متضاربة متغيرة حسب طبيعة الأحداث ومدى فعالياتها والأسس التي تتبعها في تحديد المسارات القادمة وكيفية التعامل معها وفق السباقات التي تخدم مشروعها ووجودها السياسي.
قبل عدة أيام وجهت القيادة الإيرانية ممثلها الدائم في الأمم المتحدة بإعلان موقف واضح مما تشهده الحدود الجنوبية للقطر العربي اللبناني من مواجهات واشتباكات بين مقاتلي حزب الله اللبناني والقوات الإسرائيلية بإعلانها ( أن المقاومة الإسلامية في لبنان تمتلك القدرة على حماية نفسها)، وهذا الموقف السياسي الدولي الإيراني إنما يعني عدم سعي إيران للتورط المباشر في أي نزاع وقتال مباشر في الجبهة الجنوبية اللبنانية كما كان موقفها من الأحداث التي لا زالت تجري على الأراضي الفلسطينية والتزامها بسياسية التواصل والحوار مع الإدارة الأمريكية تحقيقًا لمصالحها وأهدافها، ولكن طبيعة السلوك الإيراني والعقيدة الأمنية التي يتصف بها النظام الحاكم في طهران وسعيه إلى توظيف أي فرصة سياسية لخدمة أهدافه في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي ورؤيته في إمكانية اتساع مساحة المواجهة بين إسرائيل وحزب الله ولغرض أن يكون له دور في القادم من الأيام فإنه اتخذ موقفًا جديدًا أعلن عنه بصورة واضحة لا لبس فيها في الثامن والعشرين من حزيران 2024 وعبر
بعثة إيران لدى الأمم المتحدة ( أنه إذا شرعت إسرائيل في عدوان عسكري شامل في لبنان، فإن حرب إبادة ستندلع)
وأضافت البعثة عبر منشور على منصة (إكس) ، إنه في هذه الحال تكون (جميع الخيارات ومنها المشاركة الكاملة لجميع محاور المقاومة مطروحة على الطاولة)، وهذا موقف تعلنه إيران وعبر نفس الموقع الرسمي الذي أعلن قبل اسبوع أن حزب الله قادر على المواجهة ولوحده أمام أي تطور على ساحة الاشتباكات في الجنوب اللبناني ضد القوات الإسرائيلية.
أذن ما الذي تغير؟ وما الذي حصل؟ لكي يتأخذ النظام الإيراني موقفًا متطورًا من الأحداث ويعلن أن جميع الاحتمالات قائمة في دعم تشكيلات حزب الله اللبناني وعلى جميع الجبهات في ( محور المقاومة)،
هي تساؤلات بحاجة إلى إجابة دقيقة تراعي فيها التطورات القائمة وتصاعد حدة المواجهة واتساع المواقف الدولية والإقليمية والإجراءات الميدانية التي قامت بها بعض دول العالم في توجيه رعاياها بعدم الذهاب إلى لبنان و مغادرة بعض العاملين في البعثات الدبلوماسية للأراضي اللبنانية.
يمكن الاستدلال على طبيعة الموقف الإيراني من طبيعة معرفتنا بما يتصف به السلوك السياسي الإيراني باستثمار أي حدث ميداني واستخدامه وسيلة غير مكلفة له اقتصاديًا وتحقيق ربحًا سياسيًا يخدم مشروعه في المنطقة ويعزز من دوره في التمدد والنفوذ وتحقيق ميزة متقدمة له في أي متغيرات قادمة عبر مفاوضات أو حوارات بين جميع الأطراف لكي يكون له موقعًا فيها، ولهذا فهو يشير إلى مناطق تواجد محور المقاومة وهو يدرك ما يعنيه، أي أنه سيعمل على توظيف الإمكانيات العسكرية للفصائل المسلحة المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني والتي تدعم موقفه وتلتزم بأهدافه في تصعيد المواجهة بشكل فعال في مناطقها وعبر ميادينها العسكرية واستخدام صواريخها الموجهة وطائراتها المسيرة التي ارسلت إليهم في فترات سابقة من إيران، وهذا ما يلاحظ في تصعيد الحوثيين
للهجمات العسكرية في البحر الأحمر وخليج عدن والتي أدت الى تعطيل التجارة العالمية و أجبرت الشركات المالكة للسفن على تغيير مسارات سفنها عن قناة السويس، مما دفع الولايات المتحدة وبريطانيا إلى توجيه ضربات مشتركة لها منذ شهر شباط 2024 رداً على هذه الأعمال، وكذلك الحال في تصعيد العمليات التعرضية على المواقع والقواعد العسكرية الأمريكية في سوريا والعراق من قبل الفصائل المسلحة التي ترتبط بعلاقة استراتيجية مع النظام الإيراني.
تعتبر إيران ( حزب الله اللبناني) القوة الاحتياطية الأخيرة لها ولا ترغب التضحية به من أجل أي أهداف تدعيها حول مساندة ودعم العمليات داخل الأراضي الفلسطينية، ولكنها تحاول أن تدفع باتجاه تصعيد الحالة القتالية واستخدام جميع الوسائل والأدوات في إطالة أمد المواجهة في قطاع غزة وعدم تعرض حزب الله لأي حرب إقليمية والحفاظ عليه ومنع أي متغيرات قادمة في الصراع العربي الإسرائيلي، وهي بدأت تدرك حقيقة الموقف الأوربي والغربي من التطورات الميدانية في المواجهة القادمة بين عناصر حزب الله وإسرائيل وقرأت زيارة المبعوث الأمريكي ( هوكشتاين) وما حمله من مبادرة سياسية من قبل إدارة الرئيس جو بايدن لحل النزاع القائم في المنطقة وتحديد أولويات فك الاشتباك في جنوب لبنان بإيقاف القتال وأبعاد مقاتلي حزب الله مسافة 7كم شمال الحدود المشتركة إلى نهر الليطاني ونشر ألآف من قوات الجيش البناني مكانها مقابل إنهاء إسرائيل لتحليق الطائرات المسيرة والمقاتله وإعادة منطقة (نحجر) المتنازع عليها مع إسرائيل إلى لبنان مع تعزيز قوات ( اليونيفل) التابعة للأمم المتحدة وقوامها (13) ألف جندي وهي اكبر قوة دولية لحفظ السلام.
أن هذا الإتفاق أن تحقق فسوف يعيد الاهالي من الجانبين إلى مناطقهم في الجنوب اللبناني والجليل ويساهم في أبعاد قوة الرضوان إحدى تشكيلات حزب الله المتمركزة قرب العمق الإسرائيلي والتي تشكل قوة خاصة ورادعة وبتدريبات عالية وإمكانيات قتالية كبيرة ويحقق مكسبًا سياسيًا لحزب الله في عودة المزيد من الأراضي اللبنانية.
وأمام هذه المعطيات الميدانية والآفاق السياسية فإن تغيير المنطق الإيراني إنما يأتي في صلب الأحداث التي ترغب فيها القيادة الإيرانية بأن تلعب دورًا مهمًا في رسم سياستها البرغماتية بتصعيد خطابها السياسي وإظهار قوة أدواتها في محور المقاومة وقدرتها على التلاعب الميداني وفق منظورها الإستراتيجي بالبقاء ضمن دائرة الإهتمام وأنها لديها المقدرة على تحريك وسائلها بما يتلائم والغايات والمصالح الدولية وهي أشارة واضحة للولايات المتحدة الأمريكية بأنها لا تغامر في أي مواجهة قادمة وتسعى للتمسك باستمرار المفاوضات مع واشنطن لإنجاز اتفاق نووي جديد ورفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق الأموال المجمدة وابقاء برنامج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة.
أن السياسة الإيرانية متوافقة مع إدارة الرئيس بايدن الذي ترى إدارته أن قيام حرب من الممكن أن تطول في منطقة الشرق الأوسط ستؤثر بالتأكيد على موقفه من الانتخابات الأمريكية القادمة في تشرين ثاني 2024 وأنه يطالب وحسب تصريحاته وإدارته بالدعم الكامل لإسرائيل والحفاظ على قدرتها التي أعلن عنها المسؤولين العسكريين والسياسين فيها عن قدرتهم على التدمير الشامل للبنان وليس مناطق الاشتباك مع حزب الله وهذا ما أعلنه وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس في 29حزيران 2024 بإن الرسالة التي بعثت بها إيران في ما يتعلق بشن حرب إبادة في حالة تنفيذ تل أبيب عملًا عسكريًا واسع النطاق في لبنان تجعلها تستحق التدمير وتوعد باستخدام إسرائيل كل قوتها ضد حزب الله المتحالفة مع إيران إذا لم تتوقف عن إطلاق النار على من لبنان وتبتعد عن الحدود.
تريد إيران الحفاظ على أدواتها ورأسمالها العسكري والقتالي في المنطقة وعدم التفريط بما حققته على الميدان في العراق وسوريا واليمن،وتعمل على استخدام سياسة القتال بالوكالة وأبعاد أراضيها عن أي مواجهة قادمة واعتماد مبدأ حافة الحدود في التمسك بنظامها وادامة قوتها في الداخل الإيراني والسعي لحل أزماتها الاقتصادية والاجتماعية.
أن لبنان الآن تنتظره حرب مدمرة تستهدف شعبه الآمن وتؤثر على استقراره الأمني مستقبل أجياله، هذا البلد الجميل الذي عُرف بجمال طبيعته وتماسكه وحبه للحياة يتحمل نتائج صراعات سياسية خلافات حزبية وقرارات لقوى سياسية تشكل جزءًا منه تتحكم في قراراته السياسية دون الرجوع لسلطته التشريعية والتنفيذية مستغله غياب انتخاب رئيس للبلاد لسنتين مضت، لتعيده إلى مظاهر الدمار والخراب وتزيد من أزماته الاقتصادية وهو ينتظر موسم السياحة لتحول البلاد إلى معركة بالصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة واحتمالية ترويع أهله ونشوب حرب أهلية بين طوائفه واعراقه الذين يرفضون ما تحاول أن تقوم به قيادات حزب الله اللبناني.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة