حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي كان منبوذا منذ فترة طويلة بالنسبة إلى الكثيرين في فرنسا، أصبح أقرب إلى السلطة من أي وقت مضى. واستطاع الحزب تحسين صورته وسط غضب الناخبين من الحزب الحاكم وارتفاع تكاليف المعيشة وتزايد المخاوف بشأن الهجرة.
باريس – بعد النتيجة التاريخية لتصدر تكتل “التجمع الوطني” لليمين المتطرف نتائج الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي جرب الأحد، يسود ترقب قلق الجولة الثانية من الانتخابات التي ستتم في 7 يوليو الجاري، حيث تتجه الأنظار إلى خارطة التحالفات الحزبية في مواجهة اقتراب الشعبويين من السلطة.
ويقول محللون أن فرص نجاح التجمع الوطني المناهض للهجرة والمشكك في جدوى عضوية الاتحاد الأوروبي في تشكيل حكومة ستعتمد على الجولة الحاسمة ومدى نجاح الأحزاب الأخرى في هزيمته من خلال الالتفاف حول مرشحين منافسين يملكون فرصا أفضل في الدوائر الانتخابية في أنحاء فرنسا.
وأوضح زعماء الجبهة الشعبية الجديدة اليسارية وتحالف الوسط الذي ينتمي إليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مساء الأحد أنهم سيسحبون مرشحيهم في المناطق التي يحظى فيها مرشح آخر بفرصة أفضل للتغلب على حزب التجمع الوطني في الجولة الثانية يوم الأحد المقبل.
ووفقا للنتائج الرسمية التي أعلنتها وزارة الداخلية الفرنسية الاثنين، حصل حزب التجمع الوطني وحلفاؤه على 33 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات. وجاء تحالف الجبهة الشعبية الجديدة في المركز الثاني بحصوله على 28 في المئة من الأصوات. وحصد تحالف الوسط الذي ينتمي إليه الرئيس إيمانويل ماكرون 20 في المئة فقط من الأصوات.
وبموجب قانون الانتخابات الفرنسي، يفوز من الدورة الأولى كل من ينال أكثر من 50 في المئة من أصوات دائرته الفردية، في حين يتأهل إلى الدورة الثانية من يحقق 12 في المئة وأكثر من أصوات الناخبين المسجلين في تلك الدائرة. وبالتالي، فإنّ 75 مقعداً فقط حُسمت من الدورة الأولى، وتأجّل حسم 502 مقاعد إلى الدورة الثانية الأحد المقبل.
ولذلك، فإنّ التزام المرشحين بقرارات الانسحاب لصالح الأوفر حظاً بالفوز في وجه مرشح اليمين المتطرف في فرنسا، والتزام الناخبين بقرارات الأحزاب التصويت لذلك المرشح، سيحسمان إمكانية حكم اليمين المتطرف.
برلمان معطل
فرص نجاح التجمع الوطني المناهض للهجرة والمشكك في جدوى عضوية الاتحاد الأوروبي في تشكيل حكومة ستعتمد على الجولة الحاسمة
مع تراجع احتمال قيام “الجبهة الجمهورية” التي كانت تتشكل تقليديا في الماضي بمواجهة التجمّع الوطني في فرنسا، بات من المطروح أن يحصل حزب جوردان بارديلا ومارين لوبن على أغلبية نسبية قوية أو حتى أغلبية مطلقة الأحد المقبل.
غير أنّ سيناريو قيام جمعية وطنية معطّلة دون إمكانية تشكيل تحالفات تحظى بالغالبية بين الكتل الثلاث الرئيسية، يبقى ماثلاً أيضاً، وهو سيناريو من شأنه أن يغرق فرنسا في المجهول.
وفي مطلق الأحوال، خسر إيمانويل ماكرون رهانه على حلّ الجمعية الوطنية بعد هزيمة كتلته في الانتخابات الأوروبية التي جرت في التاسع من يونيو.
وفي المقابل، تعهّد بارديلا الذي يطمح إلى أن يصبح رئيسا للوزراء، بأن يكون “رئيس حكومة تعايش، يحترم الدستور ومنصب رئيس الجمهورية، لكنّه لا يساوم” في مشروعه الحكومي.
ويبقى أنّ الانتخابات التشريعية قد تنتج تعايشاً غير مسبوق بين رئيس مناصر للاتحاد الأوروبي وحكومة معادية له، الأمر الذي يمكن أن يطلق شرارة خلافات بشأن صلاحيات رئيسي السلطة التنفيذية، وخصوصاً في مسائل الدبلوماسية والدفاع.
وفي السياق ذاته، حذر رئيس الحكومة غابريال أتال من أنّ “اليمين المتطرّف بات على أبواب السلطة”، داعياً إلى “منع التجمّع الوطني من الحصول على أغلبية مطلقة”.
هل ستكون فرنسا جمهورية معطلة تعاني الشلل السياسي في حال عدم الاتفاق على تسمية رئيس الوزراء بعد الانتخابات التشريعية؟
وكذلك، أكد العضو اليساري في البرلمان الأوروبي رفاييل غلوكسمان أنّ “أمامنا سبعة أيام لتجنّب كارثة في فرنسا”، داعياً إلى انسحاب جميع المرشّحين الذين حلّوا في المرتبة الثالثة.
من جهتها، دعت حوالي مئة منظمة في فرنسا، من بينها جمعيات ونقابات، مساء الأحد إلى التصويت ضدّ التجمّع الوطني في الجولة الثانية. وقال الموقّعون على هذا النداء الذي صدر بمبادرة من رابطة حقوق الإنسان “يجب ألا يغيب صوت واحد في سياق هزيمة التجمّع الوطني”.
وأعربت منظمة “أس أو أس راسيسم” عن أسفها للتوجه نحو تطبيع صورة التجمّع الوطني والجبهة الوطنية على مدى السنوات العشرين الماضية.
وقال رئيس المنظمة دومينيك سوبو “تمّ التوضيح تدريجياً أنّه لا ينبغي شيطنة الجبهة الوطنية، وذكر عنصرية هذا الحزب وجذوره، لأنّه قيل لنا إن هذه الطريقة في مكافحة التجمع الوطني لا تسمح بالتصدي له”. وأضاف “بعد أكثر من 20 عاماً من هذه العقيدة، نرى أنّها غير مجدية، فقد حقّق التجمّع الوطني نتائج هائلة”.
وتطرح المرحلة تحديات وتساؤلات عدة، فكيف ستكون العلاقة بين أطراف السلطة، بين الرئيس والحكومة مختلفة التوجهات؟ هل ستكون فرنسا جمهورية معطلة تعاني الشلل السياسي في حال عدم الاتفاق على تسمية رئيس الوزراء بعد الانتخابات التشريعية؟ وعلى ماذا ينص الدستور الفرنسي بما يخص إمكانية إعادة الانتخابات التشريعية؟
خيارات ماكرون
فرنسا قد تتعرض لحالة من الشلل السياسي يتم خلالها إقرار القليل من التشريعات أو عدم إقرارها على الإطلاق مع وجود حكومة مؤقتة تدير الشؤون اليومية
تكمن المشكلة في أن الرئاسة ستكون بيد تحالف الوسط الذي يتزعمه ماكرون، فيما ستؤول الحكومة ربما إلى تحالف يميني متطرف مناكف للاتحاد الأوروبي، ومناهض للهجرة، وينظر إلى المهاجرين في فرنسا بعين الريبة.
وربما تدخل الدولة في معضلة الشلل أو التعطيل، لكن إذا غلّبت الأطراف صوت العقل، فستدخل الدولة الفرنسية في حالة “تعايش” لمرة رابعة في تاريخها.
ويعني “التعايش” في فرنسا أن يتقاسم الرئيس ورئيس الوزراء – إذا ما تمت تسميته من التحالف الفائز في البرلمان – السلطة التنفيذية، وتحدد الحكومة الخطوط العريضة للسياسة في البلاد، وليس الرئيس، ما يمنح الحزب الفائز مجالا واسعا في السياسة الداخلية، وموطئ قدم في السياسة الخارجية والأمنية جنبا إلى جنب مع الرئيس.
لكن “التعايش” لا يمنع الرئيس من عرقلة مشاريع وقرارات الحكومة، ما يعني تأخيرها، وربما الالتفاف عليها، أو إحباطها عن طريق تحويلها إلى المجلس الدستوري لفحص دستوريتها.
وفي عام 1986 عين الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران الذي خسر حزبه الانتخابات البرلماني، جاك شيراك (يميني وسطي) رئيسا للوزراء.
وفي عام 1993 عين الرئيس نفسه، إدوار بالادور رئيسا للوزراء، وهو ينتمي إلى نفس حزب شيراك (الاتحاد من أجل حركة شعبية).
وعندما وصل جاك شيراك إلى الرئاسة اضطر إلى الدخول بدوره في حكومة “تعايش” من عام 1997 إلى عام 2002، برئاسة الاشتراكي ليونيل جوسبان.
ولا يوجد في دستور “الجمهورية الخامسة” لعام 1958 ما يجبر الرئيس على تسمية رئيس الوزراء من التحالف الفائز في الانتخابات التشريعية، لكن التحالف قادر على عرقلة أو إسقاط أيّ حكومة لا تعجبه، غير أن رؤساء فرنسا دأبوا على أخذ توازن القوى في البرلمان بعين الاعتبار عند تكليف رئيس للوزراء بتشكيل حكومة.
التزام المرشحين بقرارات الانسحاب لصالح الأوفر حظا بالفوز والالتزام بقرارات الأحزاب للتصويت سيحسمان المعركة
وهناك 3 سيناريوهات أمام ماكرون إما تكليف رئيس حكومة من اليمين المتطرف، والدخول في حالة تعايش رابعة بين الرئاسة والحكومة أو محاولة تشكيل تحالف بين الأحزاب الرئيسية.
ومثل هذا التحالف لا وجود له حاليا ولكن ماكرون يحث الأحزاب على الاتحاد سويا لإبعاد اليمين المتطرف.
وأما السيناريو الثالث فيتمثل في عرض المنصب على اليسار، إذا ظهر تحالف يضم أقصى اليسار والحزب الاشتراكي والخضر كثاني أكبر مجموعة، ويمكن لليسار بعد ذلك محاولة تشكيل حكومة أقلية.
وليست الانتخابات المبكرة خيارا، لأنه لا يمكن تشريعيا عقد انتخابات برلمانية جديدة قبل عام من انتهاء الانتخابات الحالية.
وقد تتعرض فرنسا لحالة من الشلل السياسي يتم خلالها إقرار القليل من التشريعات أو عدم إقرارها على الإطلاق مع وجود حكومة مؤقتة تدير الشؤون اليومية الأساسية على غرار حكومة تسيير الأعمال.
أصوات الشباب
ترى السياسية الألمانية والخبيرة في الشؤون الفرنسية فرانتسيسكا برانتنر أن أصوات الشباب قد تكون هي العامل الحاسم في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية في فرنسا.
وأضافت برانتنر، وهي نائبة في البرلمان الألماني (البوندستاغ) ونائب عضو في الجمعية البرلمانية الفرنسية – الألمانية، في مقابلة مع إذاعة دويتشلاندفونك الألمانية، أن الكثيرين يشعرون بخيبة أمل تجاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وقالت برانتنر إن الأمر يتوقف الآن على ما إذا كان الشباب الذين صوتوا لصالح تحالف اليسار في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في فرنسا، التي أجريت الأحد، ما زالوا مستعدين لدعم مرشح من تحالف ماكرون.
وأضافت برانتنر “أعتقد أن إحدى القضايا الكبرى التي ستطرح الأحد المقبل هي ما إذا كانت التعبئة ستنجح هنا أم لا”.
العرب