بالرغم من أن سلطات الاحتلال اعتادت إطلاق لقب “بؤر غير قانونية” أو “غير شرعية” على المستوطنات الإسرائيلية الصغيرة التي تأخذ شكل المساكن المتنقلة والمسماة بـ”البؤر الاستيطانية”، لكن من الواضح أنها ليست عملاً غير منظم أو عشوائي لا سيما أن هذه البؤر تؤدي مهام واضحة لتسريع الاستيطان، حيث تحصل في النهاية على الاعتراف الحكومي الإسرائيلي تحت مسمى “الشرعنة” أو “تسوية الأوضاع” كالبؤر الخمس التي أقرت الحكومة الإسرائيلية الاعتراف بها و”شرعنتها” نهاية الشهر الماضي، وفقاً لخطة تقدم بها وزير المالية الإسرائيلي والوزير في وزارة الجيش بتسلئيل سوتريتش.
ووصل عدد “البؤر” التي اعترفت بها حكومة الاحتلال الحالية بزعامة بنيامين نتنياهو منذ بداية تشكيلها إلى 15 بؤرة، بينما تشمل خطة عمل سموتريتش “شرعنة” معظم “البؤر الاستيطانية”، وعددها 195 بؤرة بحسب إحصاءات حصل عليها “العربي الجديد” من دائرة التوثيق والنشر لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان.
ويرفض الباحث في المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، وليد حباس، الانقياد وراء التسميات والمفاهيم الإسرائيلية ويؤكد لـ”العربي الجديد” أنها كلها مستوطنات ذات أهداف واحدة سواء اسمها “بؤر استيطانية غير شرعية أو مستوطنات” موضحاً أن “المستوطنات الرسمية أقيمت بقرار من الحكومة ومجلس الوزراء الإسرائيلي، ولها مخطط هيكلي ومرسمة الحدود، وبالتالي تقدم لها الوزارات الإسرائيلية كافة الخدمات والبنى التحتية، أما تلك المسماة بالبؤر فهي على شكل بيوت متنقلة (كرفانات)، ولها عدة أشكال وأنواع منها السكني ويقدر عددها بـ72 بؤرة يقطن فيها ما بين 25 و30 ألف مستوطن، ليست لها مخططات هيكلية ولا تتلقى دعماً ممنهجاً من الحكومة، ودائماً ما يطالب المستوطنون بتسوية أوضاعها” ويشير إلى أنواع أخرى من البؤر التي تأخذ طوابع أخرى كمواقع استيطانية رعوية وزراعية.
وقال حباس إن “تسوية أوضاع المستوطنات تعني وفقاً للمفهوم الإسرائيلي تحويلها من عشوائية إلى مستوطنات مصادق عليها من الحكومة، أي أن الحاكم العسكري في الضفة أو ما تُعرف بالإدارة المدنية يصدر أمراً بتحويلها إلى مستوطنة رسمية، ويتم ترتيب حدود لها ووضع مخطط هيكلي، وكل تلك الإجراءات يمكن أن تحصل في يوم واحد وثم يتم الإيعاز لكل الوزارات لمدها بكل ما يلزمها من بنى تحتية وشوارع”.
وتبدأ عملية تحويل البؤر إلى مستوطنات رسمية بعد اتخاذ القرار من المستوى السياسي، وأوضح منسق الحملة الشعبية لمقاومة الجدار والاستيطان جمال جمعة في حديث إلى “العربي الجديد” أنه يتبع ذلك “عمل مخطط هيكلي (مخطط تنظيم المدن والبلدات، يتضمن تحديد المساحات، والمناطق السكنية، وشبكات الطرق، والبنية التحتية، والمرافق)، وكذلك البدء بتجهيز البنى التحتية والشوارع، والصرف الصحي وشبكات الهاتف، والمرافق الخدمية كرياض الأطفال أو المدارس، لتصبح مدينة جديدة، يجب توفير كل المتطلبات لها”، ومما يتخذ من إجراءات إنشاء ما تسمى بمنطقة الحماية للمستوطنة، ضمن مساحة 500 متر حولها، ويقول جمعة إن “تلك الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها بحجج أمنية، تتحول مع الوقت إلى مكان لبناء المساكن للمستوطنين، وثم تقام منطقة حماية أخرى وبذلك تتوسع المستوطنة بشكل متكرر”.ورغم مضي حكومة الاحتلال وبشكل خاص الوزير سموتريتش بتطبيق خطته المسماة “الحسم” وجوهرها الاستيطان والسيطرة على الضفة الغربية، إلا أن المستوطنين على الأرض يبدون أكثر استعجالاً كما حصل حين قررت حكومة الاحتلال تسوية أوضاع تسع بؤر استيطانية، بينها غفعات هرئيل، المقامة على أراضي سنجل شمال رام الله وسط الضفة في فبراير/ شباط 2023، ويقول الناشط ضد الاستيطان عايد غفري من بلدة سنجل لـ”العربي الجديد” إن “القرار كان بمثابة موافقة أولية، تتبعها عادة إجراءات أخرى، لكن المستوطنين لم ينتظروا وبدؤوا منذ تاريخ الإعلان بحفريات واسعة في فترات الليل”، ويضيف غفري أنه “بعد بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول، بدأ العمل في وضح النهار بحيث إن المستوطنة التي كانت عام 2003 صغيرة ومقامة على تلة صغيرة أصبحت فيها 45 عائلة وامتدت إلى تلة أخرى من أراضي البلدة، وبدأت منذ أربعة أشهر إقامة كنيس يهودي وسطها من الخرسانة والإسمنت، على عكس المباني الأخرى التي تأخذ شكل الكرفانات.
وما ساعد المستوطنين الذين باتوا يعملون على مدار الساعة بإنشاء بنية تحتية وتوسيع البؤرة، إعلان جيش الاحتلال بعد السابع من أكتوبر / تشرين أول الماضي، قرابة 10 آلاف دونم من الأراضي الزراعية الخاصة بالفلسطينيين منطقة عسكرية مغلقة، لينقطع الأهالي بشكل كامل عن المنطقة”.
وتشير إحصاءات هيئة مقاومة الجدار إلى وجود 195 بؤرة استيطانية منها 94 بؤرة رعوية، وهي مضافة إلى 190 مستوطنة رسمية أُقيمت 35 منها بعد عام 2000، لكن كما يشير مدير التوثيق والنشر في الهيئة أمير داود في حديث إلى “العربي الجديد” فإن 90% من هذه المستوطنات التي أقيمت بعد العام 2000 كانت بؤراً وتم تحويلها إلى مستوطنات. وتشير منظمة يش دين الإسرائيلية إلى “شرعنة” بأثر رجعي لأكثر من ثلث البؤر التي أقيمت منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي إلى عام 2000، والتي مجمل عددها حوالي 100 بؤرة.
وتتمحور خطة سموتريتش المسماة بالحسم، والتي أعلنها عام 2017 قبل أن يصبح وزيراً، حول تعزيز الاستيطان وسرقة الأراضي وضم الضفة والتخلص من فكرة الدولة الفلسطينية. وتعد تسوية البؤر الاستيطانية المشروع الأهم له في برنامجه الانتخابي كما يؤكد الباحث وليد حباس، وحين دخل إلى الحكومة أصبحت جزءاً من اتفاقية تأسيس الائتلاف الحاكم، وفعلاً “شرعن” 15 بؤرة منذ أصبح وزيراً، وشكل لجنة داخل وزارة الجيش وقام بعمل وثيقة تضم قائمة لباقي البؤر التي يريد شرعنتها ووضع جدولاً زمنياً لذلك، هو فترة عمل الحكومة الحالية.
رصد
خطة سموتريتش بشأن الاستيطان في الضفة الغربية: شرعنة بؤر غير قانونية
البؤر الاستيطانية وأوسلو
ويرى جمال جمعة أن تحويل هذا العدد الكبير من المستوطنات الصغيرة التي تأخذ شكل البيوت المتنقلة سيؤدي إلى حصر الفلسطينيين في مناطق سكنهم الحالية، في المناطق المصنفة (أ) و(ب) وفق اتفاق أوسلو. وتشير مواقع البؤر إلى تخطيط محكم مسبق لأماكن وجودها، فهي كما يقول جمعة؛ يقع النوع الأول منها في مفاصل بين المستوطنات الكبيرة، وليست عشوائية، ويهدف ذلك إلى الاستيلاء على أكبر حيز من الأراضي وربط المستوطنات الكبيرة ببعضها. وكمثال على ذلك يشير الناشط عايد غفري إلى أن بؤرة غفعات هرئيل وبؤرة أخرى مجاورة ستؤمننان وصل أربع مستوطنات بعضها ببعض، وتؤديان إلى خط استيطاني كبير سيقطع وسط الضفة الغربية عن شمالها بشكل كامل، ولن يكون حينها تأثير ذلك التجمع الاستيطاني على بلدة سنجل وحدها.
ويقع النوع الثاني وهو البؤر الرعوية في أماكن متفرقة من المناطق المصنفة (ج) باتفاق أوسلو التي تشكل 62% من مساحة الضفة وفيها الصلاحيات الأمنية والمدنية للاحتلال وفق الاتفاقات، وانتشرت هذه البؤر الرعوية بعد عام 2014، وفيها عدد قليل من المستوطنين مع مئات أو آلاف الأبقار والأغنام ويسيطرون على آلاف الدونمات، ويقول وليد حباس إن هذه المستوطنات الرعوية أصبحت تسيطر على قرابة 10% من مساحة الضفة الغربية أي مساحة توازي كل الأنواع الأخرى للاستيطان في الضفة.
لكن ما الداعي لإقامة البؤر الاستيطانية غير الرسمية وتسوية أوضاعها لاحقاً في ظل تعاقب الدعم الحكومي الإسرائيلي للاستيطان منذ احتلال الضفة منذ عام 1967؟ يجيب حباس بأن إقامة البؤر بالشكل الواسع تعود إلى نهاية تسعينيات القرن الماضي، فبعد اتفاق أوسلو والجدل حول مصير الضفة الغربية تعرض الاحتلال لضغوط دولية لوقف بناء المستوطنات، وهنا برزت جمعيات خاصة بالاستيطان وصناديق تبرعات ولوبي خاص للاستيطان وبدلاً من انتظار البيروقراطية الرسمية في بناء المستوطنات، التي تأخذ سنوات لإنشاء مستوطنة، أصبح المستوطنون يقيمون بأنفسهم هذه المستوطنات، بحسب حباس.
لكن ذلك لا يعني أن تلك البؤر خارجة عن السياق الإسرائيلي الرسمي، ويوضح حباس “عام 2000 شرعن إيهود باراك بؤراً استيطانية قبل ذهابه إلى كامب ديفد لبحث ما يعرف بقضايا الحل النهائي، وعام 2003 في ظل خطة خريطة الطريق والضغوط لوقف الاستيطان، قال حينها رئيس حكومة الاحتلال أريئيل شارون للمستوطنين عبارة شهيرة تدعوهم للهرولة إلى سفوح وتلال الضفة الغربية والاستيطان فيها، أي دون قرار من الحكومة الإسرائيلية”.
الاستيطان جنوب بيت لحم (مستوطنة أفرات)، 23 أبريل 2023 (فرانس برس)
تحليلات
تعزيز الاستيطان في الضفة عبر قرارات الشرعنة والبناء: تطهير عرقي صامت
ويقول جمال جمعة إن الحكومة ترعى هذه البؤر لكنها تتهرب عن طريقها من أية ضغوطات، فهي توفر الحماية الأمنية للمستوطنين بمجرد وضعهم بيتاً متنقلاً في أي مكان، وتقدم ما تسمى بالمجالس الاستيطانية الخدمات لها كالماء والكهرباء وعدداً من القضايا الأساسية، وتلك المجالس تأخذ ميزانيات رسمية من الحكومة، وكل ذلك لتثبيت المستوطنين في مكان ما، ولاحقاً تحويل كل شيء إلى مستوطنات بما تسمى “الشرعنة”، وإزالة البيوت المتنقلة وتحويل البؤرة إلى مدينة أو حي استيطاني كبير. ولتسهيل عمليات تسوية أوضاع البؤر أقر الكنيست عام 2017 قانون التسوية الذي يتيح مصادرة الحق في أراضي الملكيات الخاصة الفلسطينية، التي بُنيت عليها مستوطنات و”بؤر استيطانية”.