في الثاني من يوليو/ تموز 2024، قطعت كريستالينا غورغييفا كعكة الذكرى الثمانين لمؤتمر بريتون وودز الذي تمخَّض عن تأسيس صندوق النقد الدولي بعد أن ألقت خطاباً تسرَّبت منه نغمة حماسها لاختيارها لتولِّي منصب المدير لفترة ثانية مدّتها 5 سنوات تبدأ في الأول من أكتوبر/ تشرين الأوّل القادم، حيث مجَّدت غورغييفا جهود هذه المؤسّسة طوال الفترة الممتدّة ما بين إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية 1945 وجائحة كوفيد-19 وأكَّدت التزامها بخدمة البلدان الأعضاء وجلب الرخاء للعالم باستخدام كلمات رنّانة وطنّانة وجوفاء وجرداء استهجنها العارفون بخبايا الصندوق وخفايا لعنته التي حلَّت على كل من طرق بابه.
عندما تأسَّس صندوق النقد الدولي بموارد أولية بلغت 7.6 مليارات دولار ساهمت بها 35 دولة عضو في عام 1945، كانت الاقتصادات في مختلف أنحاء العالم في حالة من الفوضى جرّاء أزمة الكساد العظيم التي شهدها العالم في ثلاثينيات القرن العشرين، وكذا الدمار الذي خلَّفته الحرب العالمية الثانية، وكانت السياسات الاقتصادية الرديئة التي انتهجتها العديد من البلدان خلال تلك الفترة سبباً في زعزعة استقرار قيم العملات، الأمر الذي أعاق التجارة.
لذلك ركَّز الصندوق في بادئ الأمر على هدف الحفاظ على استقرار النظام النقدي العالمي، والمساعدة في استعادة الثقة في عملات العالم من خلال ربط قيمة العملات مباشرة بكمية محدَّدة من الذهب في إطار ما يُعرف باسم “معيار الذهب”. لكن بعد التخلِّي عن هذا المعيار في عام 1971 واستبداله بنظام سعر الصرف “العائم” الذي سمح لقيمة العملات بالتقلُّب وفقاً لآليات العرض والطلب، حُرِم صندوق النقد الدولي من مهمَّته القديمة، وأعلن مهمَّة جديدة تمثَّلت في العمل بوصفه بنك تنمية للدول الفقيرة والنامية.
لكنّ للبيانات الواقعية حقائق أخرى تسردها، فقد تبيَّن بصورة قاطعة أن أغلب الدول التي تلقَّت قروضاً من صندوق النقد الدولي لم تتمكَّن من تحقيق الاستقرار الاقتصادي وتتمتَّع اليوم بالثروة نفسها للفرد أو أقلّ ممّا كانت عليه قبل تلقِّي تلك القروض، والعديد منها أسوأ حالاً من الناحية الاقتصادية، الأمر الذي يؤكِّد فشل الصندوق في تحقيق مهمّته الجديدة التي أعلنها.
في الواقع، تحوم الكثير من علامات الاستفهام والتعجُّب حول مدى جدوى وجود صندوق النقد الدولي أصلاً، ولا سيَّما في ما يتعلَّق بنجدة الدول النامية والفقيرة، حيث يفتقر الصندوق إلى القدرة على اتِّخاذ الاستجابات السريعة اللازمة للتأثير على تقلُّبات أسعار الصرف، وبحلول الوقت الذي يستجيب فيه الصندوق، تكون الدولة التي استنجدت به قد عانت بالفعل عواقب انهيار عملتها. وفي بعض الحالات، قد تكون الدولة في طريقها إلى التعافي بحلول الوقت الذي يتدخَّل فيه الصندوق.
فعلى سبيل المثال، دخلت خطّة الإنقاذ المكسيكية حيِّز التنفيذ في عام 1994 وتحديداً بعد أشهر من وقوعها، وبحلول ذلك الوقت كان اقتصاد المكسيك قد بدأ بالفعل في التكيُّف مع الأزمة وشرع بالتعافي. جدير بالذكر أيضاً أنّ الكثير من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الخاصة والشراكات والصفقات الاستثمارية قد ألغت الحاجة إلى اللّجوء إلى قروض الصندوق المجحفة التي تتعمَّد خلق حالة من التبعية والاعتماد الطويل الأجل بدلاً من تقديم مساعدة قصيرة الأجل.
تكمن المفارقة الأكبر في أنّ منشورات الصندوق لا تخلو من السطور والفقرات التي تشيد بدور هذه المؤسّسة في تشجيع سياسات النمو الاقتصادي في الدول المقترضة منها، بينما يشترط الصندوق نفسه على الدول الراغبة في التأهُّل للحصول على قروضه خفض عجز ميزانيتها، ونتيجة لذلك تحاول تلك الدول الامتثال من خلال خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب والتعريفات الجمركية لزيادة الإيرادات وخفض قيمة عملاتها ورفع أسعار الفائدة، الأمر الذي يسكب المزيد من الزيت على نار التضخُّم والأسعار الملتهبة ويكبح النمو الاقتصادي. فنادراً ما تؤدِّي تلك السياسات المفروضة من الصندوق إلى خفض العجز في الموازنة أو تقليص الديون، بل على النقيض من ذلك تدفع الدول المقترضة نحو مزيد من الركود، ومن أبرز الأمثلة على ذلك نجد الأرجنتين ومصر وهما أكبر المقترضين من الصندوق.
في الرابع من يوليو/ تمّوز الجاري، حدَّث صندوق النقد الدولي بيانات قروضه، وتضمَّنت قائمة أكثر عشر دول استدانة منه: الأرجنتين (31.59 مليار دولار)، أوكرانيا (10.49 مليارات دولار)، مصر (10.29 مليارات دولار)، الإكوادور (6.47 مليارات دولار)، باكستان (6.34 مليارات دولار)، أنغولا (2.99 مليار دولار)، كولومبيا (2.81 مليار دولار)، كينيا (2.57 مليار دولار)، غانا (2.31 مليار دولار)، وساحل العاج (2.30 مليار دولار).
من ناحية الأهداف المعلنة، فشل صندوق النقد الدولي في تحسين أوضاع الدول التي اقترضت منه، وكل ما قدَّمه على مدى الثمانية عقود الماضية كان غير ضروري في أفضل الأحوال ومدمِّراً في أسوأ الأحوال، هذا علاوة على تكراره للمهام والوظائف التي تقوم بها منظمات دولية كبرى مثل البنك الدولي. أمّا من ناحية الأهداف المبطنة المتعلِّقة بمآرب القوى الغربية، فقد تمكَّن الصندوق من إبقاء أغلب الدول التي وقعت في فخّ قروضه في حالة من العجز المالي والضياع الاقتصادي.
ما يثبت التهم على صندوق النقد الدولي هو عدم انتقاده من الدول النامية واقتصادييها فحسب، بل من الاقتصاديين الغربيين المخضرمين الحائزين جائزةَ نوبل أيضاً كأمثال جوزيف ستيغليتز الذي صرَّح علانية بأنّ الصندوق فشل في اتِّخاذ أفضل السياسات لتحسين رفاهة البلدان النامية وما هو إلاّ انعكاس لمصالح المجتمع المالي الغربي وأيديولوجيته.
خلاصة القول، من غير المعقول أن تستمرَّ مجموعة صغيرة مؤلّفة من 2600 خبير تتَّخذ مقرّاً لها في الشارع 19 بواشنطن في إملاء الظروف الاقتصادية والمعيشية على 94 دولة نامية وقعت في شباكها، حيث لا تكترث هذه المجموعة بوصف إصلاحات تتناسب مع ديناميكيات البلد الذي يطرق بابها، بل تصرّ بدلاً من ذلك على تطبيق وصفة موحَّدة مصمَّمة على مقاس المصالح الغربية، لا المصالح الاقتصادية للبلد المقترض، والكلّ بات على يقين من هذه الحقيقة التي لا جدال فيها.