العلامات على أهمية التاريخ في تشكيل الحاضر كثيرة، مع أن الانتباه إليها قليل. من ذلك أنه لا يتيسّر فهم ما يجري حاليا في فرنسا وبريطانيا إلا في ضوء سياسات ميتران وتاتشر. إذ إن لميتران يدا في ما تعانيه فرنسا اليوم من ارتباك سياسي رغم فوز ائتلاف اليسار، الذي لم يكن متوقعا، بالأكثرية النسبية. كما أن لتاتشر يدا في ما تعانيه بريطانيا اليوم من اختلال اقتصادي رغم بارقة الأمل المصاحبة لفوز اليسار، الذي كان متوقعا، بالأغلبية الساحقة.
فقد كان لميتران دور مركزي في «تمكين» اليمين المتطرف في فرنسا وتسهيل صعوده، بوسيلتين. الأولى أنه قرر بُعيْد فوزه بالحكم عام 1981 أن ينصت (بدعوى الحرص على التعددية) لشكاوى جان-ماري لوبين، مؤسس حزب الجبهة الوطنية عام 1972، من تجاهل الإعلام له ولحزبه، فأصدر الأمر لوزير الإعلام جورج فيليو بالسماح باستضافة لوبين سواء في قنوات التلفزة العمومية أم الخاصة. وهكذا مهّد اعتيادُ وجه لوبين على الشاشات الطريق للتطبيع التلفزيوني، ثم السياسي، مع اليمين المتطرف. أما الوسيلة الثانية، فهي أن ميتران قرر (بدعوى الحرص على التمثيلية) إدخال نظام الاقتراع النسبي، رغم أنه مناف لروح الدستور وينطوي على مخاطر النكوص إلى الجمهورية الرابعة بمساوئها المعروفة، وأولها عدم الاستقرار الحكومي. وقد كانت نتيجة هذا القرار فورية: فوز اليمين المتطرف في انتخابات 1986 بـ35 مقعدا برلمانيا. وما كان ميتران ليلعب هذه اللعبة المكيافلية لولا يقينه بأنها سوف تشتّت صفوف اليمين الجمهوري.
أما بريطانيا، رجل أوروبا المريض، فإذا كان البريكسيت هو السبب الظاهر لاستحكام مرضها فإن السبب الأول لإصابتها بالمرض أصلا هو السياسات التاتشرية التي جعلت البلاد مرتعا للرأسمالية المتوحشة ونسفت أي إمكان للعدالة الاجتماعية وشلّت قدرة الدولة على الاستثمار في الخدمات والمصالح العامة. ولكن هذه العلة التاتشرية الأصلية نُسيت أو كادت. فقد كانت فترة احتضار حكم المحافظين، منذ وقوع كارثة البريكسيت، مديدة مريرة. سنوات سبع من الاحتضار البطيء المليء بكل حيل الإصرار على البقاء والعض بالنواجذ على سلطة فاسدة متعفنة لم يبق منها سوى الجثة.
يوجد تشابه السياسات بين حزب العمال وحزب المحافظين. فقد صار معروفا أن حزب العمال لم يعد يساريا إلا بشكلية الاسم البروليتاري الموروث
ولأن فترة الاحتضار أزمنت فقد طغى على أوساط المعارضة وأوساط المستقلين في الأعوام الماضية حديث «التغيير» وتزايدت علامات الرغبة الشعبية في التغيير برما، بل وقرفا، من حكم متعجرف تسيّده رهط هم أسوأ ما أفرز حزب المحافظين، طيلة قرنين من عمره، من ساسة في مجال انعدام الكفاءة وانعدام المسؤولية. ولهذا لم يكن حزب العمال في حاجة إلى إعمال الخيال في اختيار شعار حملته الانتخابية. فقد كان الشعار جاهزا: التغيير. على أن التغيير الموعود ضبابيّ الدلالة، وسوف يجد البريطانيون قريبا صعوبة في العثور على دليل أي تغيير حقيقي في المعيشة والمرافق العامة. ولهذا فإن شهر العسل بين بريطانيا وكير ستارمر لن يكون طويلا.
ولضعف احتمالات التغيير الحقيقي سببان رئيسيان على الأقل. أولهما ثقل التركة الموروثة: أي خطورة الوضع الاقتصادي المتمثلة في ضعف النمو، واستمرار ارتفاع التضخم (رغم تراجعه النسبي أخيرا) وفراغ الخزينة، وتفاقم عجز الميزانية والدين العام، إضافة إلى علة بريطانية مزمنة منذ أكثر من أربعين سنة، هي تدنّي الإنتاجية (مقارنة بباقي الاقتصاديات الأوروبية). أما السبب الثاني، فهو تشابه السياسات بين حزب العمال وحزب المحافظين. فقد صار معروفا أن حزب العمال لم يعد يساريا إلا بشكلية الاسم البروليتاري الموروث. إذ إن اضطراره لاستعادة ثقة الناخبين قد ألزمه بالعودة لاحتلال يمين الوسط (مثلما فعل «حزب العمال الجديد» بقيادة توني بلير تمهيدا لفوزه الانتخابي عام 1997) بما يعنيه ذلك من التعهد بعدم زيادة الضرائب وعدم زيادة الإنفاق العام (أي السير على نهج المحافظين في عدم الاستثمار في الخدمات والمرافق العامة) وعدم تأميم أي من شركات الخدمة العامة، حتى تلك التي تبين الآن أن التفويت فيها للقطاع الخاص زمنَ تاتشر لم يؤد بها إلى الإنقاذ بل الإفلاس.
ومما يزيد أفق التغيير انحباسا أن ستارمر رجل متكتّم متوجس، مُؤْثر للسلامة الانتخابية، سمّاع للانعزاليين الإنكليز، لا مشروع طموحا لديه، ولا جرأة له على مواجهة الجمهور بالحقائق المزعجة. إذ لو كان زعيما بحق لأعلن أن البريكسيت هو أوخم بَلِيّة قصمت ظهر بريطانيا منذ 1945 وأن المصلحة الاقتصادية البحتة، (ناهيك عن الدور الاستراتيجي والمكانة الدولية) تملي وجوب العودة إلى الاتحاد الأوروبي.