في أول زيارة إلى موسكو منذ خمسة أعوام استهل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي برنامج نشاطه بزيارة خاصة للرئيس فلاديمير بوتين في مقر إقامته بضواحي العاصمة الروسية، إذ دار حديث شخصي بين الزعيمين الهندي والروسي استمر نحو خمس ساعات.وعلى رغم ما يشوب علاقات البلدين من “حساسية مفرطة” ناجمة عن علاقة ارتباط كل منهما بأطراف ثالثة لها من التأثير “الجيوسياسي” كثير، فإن ما يجمع بلديهما من مصالح مشتركة أسهم إلى حد كبير في تحقيق ما كان الزعيمان يصبوان إليه من نتائج.
وكان الزعيمان أجريا خلال اليوم التالي في الكرملين محادثات منفردة استمرت زهاء ساعتين ونصف الساعة. وقال الناطق الرسمي باسم الكرملين دميتري بيسكوف إنها كانت -وبعد مراجعة شاملة لجدول أعمال الزيارة- كافية لأن يخلصا إلى عدم الحاجة إلى “اجتماعات موسعة لأعضاء الوفدين”.
العلاقات الثنائية
وجاء رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى موسكو حاملاً معه أجندة واسعة للمفاوضات، التي قالت المصادر إن معظم نتائجها ظلت “غير علنية”. ومع ذلك فثمة من يقول إن الزعيم الهندي كان في حاجة إلى مناقشة عدد من القضايا شديدة الحساسية مع الرئيس فلاديمير بوتين. فمن العلاقات مع الصين إلى توريد الأسلحة والنفط الروسي إلى جانب القضايا الإقليمية والدولية وفي الصدارة منها الأزمة الأوكرانية، وعلى هامشها ما يتعلق بإعادة مواطنيه من المتطوعين للقتال إلى جانب روسيا والمحاصرين في الحرب مع أوكرانيا.
وقد تصدر البيان الختامي المشترك قائمة الوثائق التي جرى توقيعها بين الجانبين بما يتضمنه من 81 بنداً، إضافة إلى تسع وثائق أخرى تناولت برنامج التعاون الروسي الهندي في المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية في الشرق الأقصى لروسيا الاتحادية للفترة من 2024 إلى 2029. ومن هذه الوثائق مذكرة تفاهم بين وزارة البيئة في الهند ووزارة الموارد الطبيعية والبيئة في روسيا الاتحادية، وغيرها من مذكرات التفاهم بين الوكالة الوطنية لرسم الخرائط في الهند والخدمة الفيدرالية لتسجيل الدولة والمساحة ورسم الخرائط في روسيا، وبين المركز الوطني للبحوث القطبية وعلم المحيطات التابع لوزارة علوم الأرض في الهند، ومعهد أبحاث القطب الشمالي والقطب الجنوبي في روسيا، وغير ذلك مما جرى توقيعه من مذكرات بين المؤسسات الخاصة بصناعة الأدوية والاستثمارات والتجارة في البلدين.
وقالت المصادر الصحافية إن الشركاء بالمستوى الحالي للتعاون واستدامته في “الوضع الجيوسياسي الحالي المعقد وغير المؤكد” حددوا للبلدين هدفاً جديداً، وهو زيادة حجم التجارة المتبادلة إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030. وقد صدرت التعليمات للإدارات المعنية، لتسريع الاستعدادات لتوقيع اتفاق التجارة الحرة بين الاتحاد الاقتصادي الأوراسي والهند.
وتناول الجانبان تحسين روابط النقل بين البلدين، وزيادة التعاون في هندسة النقل والمعادن والصناعة الكيماوية وجذب الشركات الروسية إلى برنامجي “صنع في الهند” و”الهند ذات الاكتفاء الذاتي”.
ويقول مراقبون في العاصمة الروسية إن هناك عدداً من العقبات لا يزال قائماً أمام تطوير التعاون الاقتصادي الثنائي، ومن بينها الخوف من العقوبات الثانوية وعدم فهم الشركات الروسية والهندية لخصوصيات العمل في أسواق كل منهما، وذلك إلى جانب أن “الخطوات واضحة تماماً أيضاً وتتمثل في تطوير آلية عمل مستقرة للتحايل على العقوبات، وإزالة الحواجز التي تعوق مرور المدفوعات، وإبلاغ الشركات بصورة صحيحة عن حقائق الأسواق الروسية والهندية”.
وقد جرى الاتفاق بين بوتين ومودي على اتخاذ تدابير إضافية لتطوير الإنتاج المشترك في الهند لقطع الغيار والمكونات والتجميعات، وغيرها من المنتجات التي تستخدم في صيانة المعدات والأسلحة الروسية الصنع. وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن كل ذلك يتم من أجل تلبية حاجات القوات المسلحة الهندية والتصدير إلى دول ثالثة “صديقة لكلتا الدولتين”. ومن المعروف أنه يوجد في الهند بالفعل “مشروع مشترك بين الهند وروسيا Rifles Private Limited (IRRPL) يعمل في إنتاج بنادق كلاشينكوف AK-203 الهجومية، إضافة إلى ذلك قامت شركة NPO Mashinostroyenia الروسية ووزارة الدفاع الهندية بتطوير صاروخ كروز PJ-10 BrahMos الأسرع من الصوت كجزء من مشروع BrahMos Aerospace المشترك الذي أنشئ خلال عام 1998”. وأن ما يقارب 60 في المئة من معدات وأسلحة الجيش الهندي روسية الصنع، لكن الهند واجهت في الأشهر الأخيرة تأخيرات في توريد قطع الغيار بما في ذلك الطائرات المقاتلة من طراز Su-30. وبحسب وزارة الخارجية الهندية فإن رئيس الوزراء أثار هذه القضية خلال المفاوضات. وأضافت المصادر أن “الجانبين اتفقا بصورة عامة على ذلك”.
التعاون النووي علامة فارقة جديدة
أبرزت وكالة أنباء “تاس” الرسمية الروسية ما ذكرته شبكة “سي أن أن” الأميركية حول أن التعاون في مجال الطاقة النووية بين روسيا والهند سيعزز العلاقات بين البلدين لعقود طويلة مقبلة. وأشارت الشبكة الأميركية إلى أن بناء ست وحدات إضافية لمحطات الطاقة النووية العالية الطاقة ومحطات الطاقة النووية المنخفضة الطاقة في الموقع الجديد، سيخلق الحاجة إلى الصيانة المنتظمة والتحسين الفني والإمدادات المستمرة من اليورانيوم. وأضافت أن الهيمنة في القطاع النووي تسمح للاقتصاد الروسي بالحفاظ على مكانة قوية على المسرح العالمي، على رغم أن الولايات المتحدة وأوروبا تحاولان إلحاق الضرر به. ونقلت عن نائب مدير منظمة الطريق الثالث، وهي منظمة لدراسة القضايا النووية والمناخية والطاقة في واشنطن، آلان آهن ما قاله لصحيفة “جارديان” البريطانية حول أنه “من الصعب على الدول الأخرى الانفصال عن ظروف السوق “العالمية” التي أنشأتها روسيا منذ عقود”.
ومن المعروف أن الهند تدير بنجاح محطة كودانكولام وهي أكبر محطة للطاقة النووية في البلاد والمشروع الرئيس للتعاون الروسي الهندي في مجال التكنولوجيا والطاقة. ويتضمن بناء محطة كودانكولام للطاقة النووية بناء ست وحدات طاقة بمفاعلات من النوع VVER-1000 بقدرة إجمالية مركبة تبلغ ستة آلاف ميغاوات. وربطت الوحدتان رقم 1 ورقم 2 بالشبكة الوطنية الهندية خلال عامي 2013 و2016 وتعملان بمستويات الطاقة المقدرة.
أوكرانيا الحاضر الغائب
وثمة ما يشير إلى أن الأزمة الأوكرانية كانت في صدارة اهتمامات الزعيمين خلال لقاءيهما سواء في ضاحية نوفواوجاريوفو بضواحي العاصمة، أو في الكرملين. وعلى رغم ما أشار إليه دكتور العلوم التاريخية ورئيس مركز منطقة المحيط الهندي التابع لمعهد الاقتصاد العالمي أليكسي كوبريانوف في تصريحاته لصحيفة “آر بي كا” حول أن الاتجاه الأوكراني كان بعيداً من الهدف الأساس لزيارة مودي، فقد تناولت محادثات الجانبين هذه القضية، وهو ما حرص الزعيم الهندي على الكشف عنه في اليوم التالي بمستهل محادثات الكرملين. وبهذا الصدد قال مودي إن “أي شخص يؤمن بالإنسانية يشعر بالألم عندما يموت الناس، وبخاصة عندما يموت الأطفال الأبرياء. وعندما نشعر بهذا الألم تنفجر قلوبنا، وقد أتيحت لي الفرصة للحديث عن هذه القضايا معكم بالأمس”. وأضاف رئيس الوزراء الهندي “بصفتي صديقاً لك أقول دائماً إن السلام مسألة إلزامية من أجل المستقبل المشرق لأجيالنا القادمة. ولذلك نعتقد أن “الحرب ليست حلاً”. كما أن الحل لا يمكن أن يكون من خلال الحرب. إن القنابل والصواريخ والبنادق لا يمكنها ضمان السلام لذلك نؤكد الحوار. فالحوار مسألة ضرورية”.
وإذا كان ذلك غير ما كان الرئيس الروسي يود سماعه حسب تقديرات بعض المراقبين القريبين من الكرملين، فإنه كان تأكيداً لما يريده بوتين وهي المحادثات والاستعداد لها، وتلك ما أعلن عن موافقته عليها. ويقول المراقبون في موسكو بضرورة “عدم التقليل من رغبة دلهي في حل الصراع. وإذا تمكنت الهند من المشاركة في عملية السلام فستساعد في تعزيز مكانتها على الساحة الدولية”.
وكانت وزارة الخارجية الهندية أشارت إلى أن قضية المواطنين الهنود “الذين انضموا كمتطوعين إلى الخدمة العسكرية” في القوات المسلحة الروسية أثيرت بين الزعيمين الروسي والهندي. وقالت مصادر دبلوماسية هندية إن “الجانب الروسي وعد بتسريح جميع المواطنين الهنود الذين يخدمون في الجيش الروسي”. وأوضحت أن عدد هؤلاء يراوح ما بين 35 إلى 50 مواطناً هندياً، وقد عاد عشرة منهم بالفعل إلى وطنهم. وقالت مصادر دبلوماسية إن “الحكومتين الروسية والهندية ستعملان على هذه القضية وتدرسان بالضبط كيف وبأية سرعة يمكن إعادتهم إلى البلاد”.
وقد خلص الجانبان في البيان المشترك الصادر في ختام زيارة مودي لموسكو إلى أن الزعيمين بوتين ومودي اتفقا على “الحاجة الملحة” للتوصل إلى حل سلمي للصراع في أوكرانيا بمشاركة الجانبين، و”لاحظا بارتياح المقترحات الخاصة بالوساطة والمساعي الحميدة الرامية إلى تحقيق حل سلمي للصراع في أوكرانيا”، بما يتفق مع القانون الدولي وعلى أساس ميثاق الأمم المتحدة. وأوضحت مصادر الكرملين أن الزعيمين لديهما أفكار جديدة في ما يتعلق بالتسوية الدبلوماسية، لكنها لم تذكر شيئاً عن ماهية هذه الأفكار. ولم تقدم وزارة الخارجية الهندية أية تفاصيل عن ذلك واكتفت مرة أخرى بنقل ما قاله مودي حول أن “الحرب ليست حلاً”.
وكان كوبريانوف رئيس مركز منطقة المحيط الهندي التابع لمعهد الاقتصاد العالمي أشار إلى أن الحوار على مستوى رؤساء الدول بين موسكو ودلهي جمدته بالفعل بعد عام 2021. وأشار إلى أن “إطلاق سراحه دليل على أن الهند متمسكة بخطها في شأن الحكم الذاتي الاستراتيجي وأن شركاء دلهي الغربيين أصبحوا أكثر هدوءاً من ذي قبل تجاه فكرة استئناف الحوار مع روسيا”.
وأضاف كوبريانوف أن الحفاظ على العلاقات الروسية الهندية على مستوى شراكة استراتيجية مميزة خصوصاً من غير المرجح أن يؤثر في العلاقات بين الهند والولايات المتحدة، لكن واشنطن قد لا تزال تعرب عن بعض القلق، هذا ومن المنتظر أن يلتقي الرئيسان الروسي والهندي مرة أخرى في أكتوبر (تشرين الأول) المقبل في إطار قمة رؤساء بلدان مجموعة “بريكس” في مدينة قازان عاصمة تترستان، وهي المنظمة التي تجمع كثيراً من فرقاء السياسة الدولية.